صيفاً، وبينما تُغلّف رطوبة البحر كلّ تفصيل في المدن السّاحلية، وتندمج حتى في تكوين جلودنا، كان وما زال الماء أفضل حلّ لمواجهتها. لذلك عصراً، عندما تبدأ حرارة الشّمس بالانخفاض، تستطيع أن تلمح مشهداً مُتكرّراً على طول الشّارع: خراطيم يتدفّق الماء منها في كلّ اتجاه، كمحاولةٍ لتبريد الأرصفة وجدران المنازل الخارجية.
ووسط هذا المشهد، يكون الحبق حاضراً. تُفرد أصيصات الحبق العديدة على شرفات المنازل وأمام الدّكاكين، التي يقوم أصحابها بسقايتها، وكما نقول بالمحكية "رَشْرَشْتها بالمَي، لتنَعْنِش"، فتفوح رائحة الحبق مُعلنةً عن قيامةٍ جديدةٍ للبهجة على وجوه النّاس، إشارةً للانتصار على نهارٍ جديدٍ من نهارات الصّيف شّديدة القساوة برطوبتها قبل حرارتها.
يتصدّر هذا المشهد بحبقه منذ طفولتي وحتى هذه اللحظة، عصرونية أيام كلّ صيف في طرطوس، ورغم ذلك لم يكن الحبق يوماً المفضّل لدي، ربما بسبب وجوده الاعتيادي أمام ناظرَي وأُلفتي لرائحته، وربما لأن الإنسان عامةً يهمل شعورياً الأشياء التي يألفها.
كلّ مساء، أسحب قطفة حبق من بين نَهدَي، أفركها بيدَي محاولةً بذلك أن أشمّ رائحة كَفيه، وأن ألعق أصابعه، وأنا أُتمتم جزءاً من أُغنية الوسوف " كلّ ليلة بجمّع دموعي... وبسهر مع دمعات شموعي... أنا والحبق وعذابه..."... مجاز
حبق الصِّبا
بدايةً كنّا نتحدث بطريقةٍ رسميةٍ، ولاحقاً كسَرَ ذاك الحاجز قائلاً: "بحِب الصِّبا فيكِ، كلمة صبية بتلبقلك". ابتسمت بقلبي قبل شفتَي لعبارته التي بدَت لي ساحرةً في أسلوب نطقه لها، قبل سحرها الخاص في حَدّ ذاته.
ويوماً بعد يوم، غابت تفاصيل عملٍ كان يجمعنا، وبدأ يبحث عن تفاصيل أخرى يتحجّج بها لنتحدث، كتعليق صديق مشترك على أحد منشوراتي طالباً منّي بطريقة فكاهية أن أحظرَهُ ليتوقف عن تعليقاته اللطيفة، أو story أشاركها فأجده قادراً على التماس أدق التّفاصيل المُهملة فيها. قال لي مرةً ردّاً على story شاركتُها: "بحب الصّور من غير فلتر، بيحس الواحد حاله لَمس بشرة يلي بالصّورة".
قرأت عبارته، ولم أستطع الرّد مباشرةً لذهولي منها، إذ لم نكن حبيبين أو بقربٍ يسمح لهُ بقول مثل هذه العبارة، كنا شخصين بينهما معرفة فقط، أجبته: "وأنا حالياً شو لازم حِسّ؟"، أجاب: "مَشْ". ليسودَ صمتٌ بيننا استمرّ لأسابيع.
كان الوقت ظهراً من شهر تموز، أي ذروة حرارة الصّيف والرّطوبة البحرية التي تسير مع ذرات الأوكسجين في الهواء، حتى إنّك تكاد تشعر بها تنزل من صنابير المياه عوضاً عن الماء. وصلت البيت، أخذت دوش، تمدّدتُ على سريري بملابس الصّيف الخفيفة، ومسكت هاتفي أتصفح فيسبوك، ولتمضية ساعات النّهار القاسية تلك، كتبت منشوراً فكاهياً، وبدأت أتبادل تعليقات السّخرية مع الأصدقاء. سألني برسالة: "هل تحبين الحبق؟"، وللمصادفة كنتُ أضع قربي على الطّاولة قطفة حبق في كأسٍ مملوء بالماء، فأجبته بصورة لقطفة الحبق تلك. فقال: "يُعيدُني الحبق لطفولتي، تحديداً أمّي وثدييها الذين خلقا في داخلي فقداً هائلاً، إذ ترافقت ولادتي مع مرض والدتي، فامتنعَت عن إرضاعي. وفي طفولتي اللاحقة، عندما كانت أمّي تعود من الحقل مُحمّلة بعرقها، وبعدما تدخل غرفتها، تترك عباءتها ترتمي أرضاً عن جسدها، فترتمي معها قطفة حبق وضعَتها مسبقاً في حمّالة صدرها، تترك جسدها يستبرد قليلاً ثمّ تدخل الحمّام؛ كنتُ أقترب وألتقط قطفة الحبق المُشَرّبة بعرقها، أفرك بها يدَي، وكأنّي أستعيض بذلك عن كلّ حليبها الذي حُرمتُ منه بعد ولادتي".
لم أفهم تماماً لِمَ حدّثني بقصة ولّدَت بداخلي فوضى حواس، ولأهرب من الأمر قلت: "لقد جهُزَ الغداء، أمّي تُناديني، نتحدث لاحقاً".
فأضاف: "لي طلب بسيط قبل ذهابك. مساءً بعد حصولك على حمام مُنعش، ضَعي قطفة الحبق الموجودة على طاولتك بين نَهديكِ، ستمنحهم رائحة شَهية".
كان ردّي غير لطيف، وأخبرته بأنّي سأقوم بحظره، إذ كيف لهُ أن يطلب طلباً غير لائق، له معنى وحيد: تحرّش لفظي.
ثمّ جاءني صوته يقدّم الاعتذار بكلمات طفلٍ مهذبٍ، يقولها بنبرةٍ خجولةٍ، يقف بانتظار أن يلتقط قطفةَ حبقٍ مُشرّبةٍ بالعرق تعويضاً عن فاقد حنان هائل. ولسببٍ لم أفهمه لم أستطع حظره، رأيت فيه رجلاً مندفعاً وخجولاً في اللحظة ذاتها. يريد أن يقترب، لكنّه يخشى أمراً ما، رجل وطفل في لحظة واحدة. وقح وشاعر في آنٍ معاً.
مساءً، على نقيض ما نهيتُه عن قوله وشتمتُه بسببه، أمسكتُ قطفة الحبق، تأملتها طويلاً وكأنّي أرى الحبق لأول مرة في حياتي، ثمّ وضعتها بين نهدَي، ليتغير بذلك المعنى الدّلالي لحبق الطّفولة البعيد، إلى حبق الصِّبا الشَّهي.
حبق الرّغبة
صرتُ بعد ذلك، كلّما هممتُ بالخروج من المنزل، أقطف الحبق وأزرعُهُ في مفترق نهدَي، وكلّما تقدّمت ساعات النّهار واشتدّت حرارة ورطوبة الجو، زاد التعرّق بين نَهدَي، لتغمر بذلك قطراتُ العرقِ الحبقَ عوض الماء، جاعلةً منه ينتعش بطريقةٍ أقرب لتكون قيامةً جديدةً للبهجة والرّغبة في كلّ من مفترق نَهدَي وجزء حمالة صدري المُلامس للحبق، الذي صار في قاموسي يُكنّى بحبق الرّغبة.
كلّما هممتُ بالخروج من المنزل، أقطف الحبق وأزرعُهُ في مفترق نهدَي، وكلّما تقدّمت ساعات النّهار واشتدّت حرارة ورطوبة الجو، زاد التعرّق بين نَهدَي، لتغمر بذلك قطراتُ العرقِ الحبقَ عوض الماء، جاعلةً منه ينتعش بطريقةٍ أقرب لتكون قيامةً جديدةً للبهجة والرّغبة... مجاز
التقينا مرّات عديدة وأنا أحمل لهُ حبق الرّغبة خِفيةً، دون أن أُفصح عن وجوده خجلاً.
وسرعان ما أصبحنا عاشقين، يرمي قصصه الغريبة وجمله الشّهية، فأثور بعباراتي المليئة بالتّهديد الطّفولي الأبله، يضحك بطريقةٍ ساحرةٍ كطفلٍ مشاغبٍ، ثمّ يحتويني كرجلٍ شاعرٍ. أجاب مرةً بابتسامةٍ لم تُفارق وجهه، ردّاً على معارضتي لهُ واستمرار تدفّق شرحي ما يفوق نصف ساعة متواصلة: "تعرفينَ سميح شقير؟ هناك أغنية شهيرة له بعنوان (ولا يوم)، اسمعيها جيداً، هي لكِ".
اتسعت حدقة عينَي، ورفعت حاجبَي مُعتقدةً أنّه بكلامه يُغيّر الفكرة التي أتحدّث بها، فأجبته: "لم أسمع من قبل بسميح شقير، أحبّ جورج وسوف". ردَّ وهو يضحك: "الجميع يُحبّ الوسوف، عموماً استمعي جيداً لهذه الأغنية". فأمسكت هاتفي، ومباشرةً بحثتُ عنها على يوتيوب، واستمعت لكلماتها التي تقول في مقدمتها: "ولا يوم جيتني وبيدك ورد تهديني.. وِدَّك فوق المودة وكلامك نهر ماشي".
وعندما انتهت نظرت في عينيه بثباتٍ وصمتٍ، جعله يُكرّر سؤاله: "ما بكِ؟". أجبتُ: أنا دائماً آتي لكَ بالورد، بالحبق تحديداً. وفككتُ زر قميصي العلوي وأزحتُ طرفَيه ببطء، فلاحَ حبق الرّغبة. شهقَ وهو ينظر لامتلاء نَهدَي: "نهدُكِ يا مسكبةَ حبق بلدي"، وامتدّت أصابعه لتقطف الحبق المُتشرّب بعرقي، الذي لحسَهُ عن باطن كفَّه وأصابعه.
حبق الشّوق
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...