مع تطور الحرب في السودان، والتساوي النسبي للكفتين المتصارعتين، وهو ما يشي بإطالة أمد الصراع دون حسم، بدأت تطفو فوق السطح مبادرات للتسوية، في محاولة للوصول إلى "حلول وسط" تحقن دماء السودانيين التي تسيل كل يوم في ذلك الصراع الضروس.
ظهرت المحاولة الأولى على يد نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، في 15 آب/ أغسطس الحالي، وتمحورت حول إنهاء الحرب وسلك مسار التفاوض، للوصول إلى تشكيل حكومة مدنية وجيش موحد.
وفي السابع والعشرين من آب/ أغسطس الحالي، أعلن محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عن مبادرة "الرؤية السياسية" الخاصة بالحل الشامل وتأسيس الدولة السودانية.
وعلى الرغم من أنها تُمهد الطريق لحل الخلافات عن طريق التفاوض بدلاً من القتال الشرس، إلا أنها خلقت جدلاً حادّاً بين السودانيين، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي حيث انقسم المعلقون على الرؤية بين موافقين ورافضين.
هل تنجح مبادرة "الرؤية السياسية لقوات الدعم السريع" في إنهاء الحرب في السودان؟
قراءة في تفاصيل الرؤية
أبرز ملامح مبادرة الرؤية السياسية للدعم السريع، المثيرة للجدل هي:
أولاً، بناء جيش جديد من الجيوش جميعها التي في السودان. وهذا يعني أنها عدّت القوات المسلحة طرفاً من ضمن الأطراف العسكرية المتعددة، وهو ما لن يقبله الجيش الذي يصرّ منذ فترة على ضرورة دمج ميليشيات الدعم السريع في القوات المسلحة، مستنداً إلى ما نص الاتفاق الإطاري عليه.
فضلاً عن أن الخلافات حيال سنوات الدمج والسيطرة وقيادة القوات، دفعت الطرفين إلى القتال.
ثانياً، اقترحت رؤية الدعم السريع أن تشمل المبادرة قضايا التفاوض، والتوجه إلى النظام الفيدرالي غير التماثلي، وهو نظام تتقاسم فيه الحكومة في العاصمة وحكومات الأقاليم، السلطات التنفيذية والتشريعية، حيث يحكم كل إقليم نفسه وفق الطريقة التي يراها مناسبةً له، على أن تمارس الحكومة الوطنية صلاحيات محددةً قد لا تتعدى السيادة.
في حين أن السودان يحكمه حالياً نظامان، أحدهما اتحادي في دارفور والنيل الأزرق دون تحديد صلاحيات الحكم، بينما تُدار بقية المناطق من قبل الحكومة المركزية، وذلك وفقاً لاتفاق السلام الذي وُقّع بين حكومة السودان وتنظيمات عدة رفعت السلاح ضد النظام السابق في تشرين الأول/ أكتوبر 2020.
ثالثاً، توجه حميدتي إلى التفاوض حول فصل الهويات الدينية والثقافية والعرقية عن الدولة وقومية المؤسسات العامة.
ما الذي يُفهَم من هذه الأجندة؟
يُفهم من هذه الأجندة أن الدعم السريع يُطالب بأن يشمل التفاوض القضايا العسكرية والسياسية، ما يعني أنه يظل فاعلاً في الشأن العام بطريقة أو بأخرى، وذلك على الرغم من دعوته إلى تأسيس جيش جديد من الجيوش الحالية وبناء مؤسسة عسكرية مهنية تنأى عن السياسية، وتخضع لسيطرة المدنيين وإشرافهم.
لكنها في الوقت نفسه، وعلى الرغم من حديثها الواضح حول حتمية الانتقال إلى الحكم المدني ووقف العنف، تجاهلت جرائم الحرب التي ارتكبها عناصرها، بدءاً من العنف الجنسي وصولاً إلى عمليات النهب الواسع التي تمت على يد أفرادها.
رؤية القوى المدنية وموقف الجيش منها
تتفق رؤية الدعم السريع في الكثير من النقاط مع رؤية القوى المدنية الموقّعة على الاتفاق الإطاري الذي وقّع عليه أيضاً الجيش وقوات الدعم السريع، وقد توصلوا إليه في سياق عملية سياسية يسّرتها الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية المعنية بالتنمية لدول شرق إفريقيا (منظمة الإيقاد)، ويهدف إلى تسليم السّلطة إلى المدنيين، ودمج قوات الدعم السريع في الجيش.
لكن خلافات القوّتين تتعلق في الأساس، باقتراح عقار، تشكيل حكومة مؤقتة ودعوة الدعم السريع للابتعاد عن الشأن العام والخضوع للحكومة المدنية، وهو ما يراه المحلل السياسي طارق عبد السلام، في حديثه إلى رصيف22، خلافاً جذرياً بين الجيش والدعم السريع حول احتكار القوة والفضاء السياسي.
من جانبه، يرفض الجيش تماماً الخضوع للقوى المدنية في الفترة الانتقالية، معلناً أنه لن يخضع إلا لحكومة منتخبة.
يحكم السودان حالياً نظامان، اتحادي في دارفور والنيل الأزرق، بينما تُدار بقية المناطق من قبل الحكومة المركزية، فهل ينتهي ذلك العصر قريباً؟
مبادرة دول الجوار
ما يحدث في السودان من اقتتال أهلي، جاوز صداه حدود البلاد، وفتح الباب على مصراعيه لدخول دول الجوار في الصورة عبر مساعي حثيثة تقودها القاهرة الداعمة للجيش وقائده عبد الفتاح البرهان.
وتتحدث المبادرة المصرية عن ضرورة المحافظة على السودان، وعلى مؤسساته الشرعية، وهنا تعني الجيش بصورة تجعله وصياً على التفاوض وما يسفر عنه، وذلك خلافاً لمنبر جدّة الذي يصرّ على أن القوات المسلحة طرف من أطراف النزاع.
وبرغم أن زيارة قائد الجيش السوداني الأخيرة لمصر، استغرقت ساعات، إلا أنها كفيلة بدفع القاهرة لمبادرة دول الجوار إلى الأمام، وربما تقود تحركات دبلوماسيةً لفرض ما تراه صحيحاً في منبر جدّة قبل زيارة البرهان إلى السعودية التي ستكون خلال أيام، بحسب وسائل إعلام محلية.
عن ذلك يتحدث أستاذ العلوم السياسية مدثر الطاهر، إلى رصيف22، ويقول: "الضغوط الدبلوماسية عادةً ما تكون مؤثرةً في الشأن السوداني، وأتوقع أن تُمارس الدول الغربية ضغوطاً كثيفةً على البرهان بشأن العودة إلى التفاوض خاصةً بعد تحرره من الحصار، ولكن المؤكد أنه قبل عودته إلى الطاولة سينتظر نتائج تحركاته في مصر".
ويختتم الطاهر حديثه مشيراً إلى حتمية مشاركة الحركات المسلحة وقادة المليشيات في العملية السياسية.
تقويض قدرة الدولة
لا تقتصر كوارث الحرب في السودان على الانتهاكات، وتشرّد ملايين السكان من منازلهم وفقدانهم أعمالهم وتعطّل أنشطة التجارة، بل تتعداها إلى تقويضها قدرة الدولة على البقاء في ظل تعدد أطراف القتال بعد مشاركة عناصر النظام السابق في النزاع إلى جانب الجيش، وانحياز ميليشيات عديدة إلى قوات الدعم السريع، وذلك نتيجة الاستقطاب الأهلي الحاد.
لذلك باتت الأوضاع في السودان مهيئةً تماماً لإنهاء النزاع سلمياً، لا سيما أن الحرب الإعلامية انخفضت وتيرتها بين الجيش والدعم السريع في الفترة الأخيرة، ما يشير إلى اقترابهما من وقف الصراع بعد تأكد كل طرف من استحالة القضاء على الآخر عسكرياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...