شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل آن الأوان للاهتمام بصحة السودانيين النفسية؟

هل آن الأوان للاهتمام بصحة السودانيين النفسية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 19 يونيو 202301:49 م

تعيش داليا أبو بكر (24 عاماً)، التي نزحت مع أسرتها من العاصمة الخرطوم إلى مدينة عطبرة شمال السودان، في اضطراب ما بعد الصدمة، بعد رؤيتها جثثاً منتفخةً على الطرقات في أثناء نزوحها، من دون أن تقدر أسرتها على فعل شيء حيال عدم تفاعلها وانزعاجها الشديد من الأصوات العالية.

يقول شقيقها محمد، لرصيف22، إن حالة أخته تسوء بمرور الوقت، بما في ذلك عدم تجاوبها مع الطبيب النفسي الذي يتابعها عبر الهاتف.

ويشير إلى أنهم أصبحوا يرفضون استقبال أفراد الأسرة الكبيرة، لتلافي عدم سماع نصائحهم بضرورة أخذها إلى رجال الدين بغرض علاجها، إذ يرفض الأب مناقشة هذا الأمر تماماً، منتظراً عودة عمل المستشفيات النفسية بعد انتهاء الحرب.

يخشى محمد أن تنتقل حالة داليا إلى فرد آخر أو إلى عدد من أفراد الأسرة البالغ عددهم 7 أشخاص، في ظل استمرار الضغط الذي يشعرون به، بعد استغنائهم عن التلفاز واستخدام الهواتف النقالة إلا بعد نومها، بجانب فقدان الأسرة كل ما تملك، وآخره السيارة التي بيعت من أجل تدبير تكاليف المعيشة والسكن.

تقود الحروب ومشاهد العنف، من قبيل أشلاء الجثث والغارات الجوية والقصف المدفعي وتدمير المنازل والبنية التحتية، إلى إصابة كثر باضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب بمختلف درجاته، لكن الأسوأ أن لا تجد العلاج في الوقت المناسب.

لا تقتصر الاضطرابات النفسية في السودان على من شاهد العنف أو تعايش معه، بل تمتد إلى التلاميذ والطلاب بمختلف أنواعهم الاجتماعية

تأثير الحرب يمتد إلى المناطق الآمنة

يؤكد الطبيب النفسي أنور بشير، على أن الحروب ومشاهد العنف، تسبب العديد من الاضطرابات النفسية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة الذي يحدث حينما يتعرض الشخص لتجربة قاسية، تجعله قلقاً ومتوتراً وخائفاً وهلوعاً.

ويقول، لرصيف22، إن أمراض الحرب النفسية تشمل الاكتئاب الذي يُفقد الشخص الاهتمامات وتجعله مستاءً، بجانب القلق واضطرابات النوم واضطرابات الأكل واضطرابات الشخصية، لكن الأخطر من ذلك اضطرابات السلوك الذي يتغير إلى العدوانية الشديدة ما يجعل الشخص خطراً على أسرته وعلى المحيط الذي يعيش فيه.

وبدأت الحرب المندلعة بين الجيش والدعم السريع منذ 15 نيسان/ أبريل المنصرم، تتوسع وتنتقل من العاصمة الخرطوم إلى مناطق عديدة في كردفان ودارفور متخذةً في بعض مدن الأخيرة طابع قتال عرقي شرس، وسط مخاوف من تمددها لتشمل السودان كله.

يشير أنور بشير، إلى أن الحروب لا يتضرر منها الأشخاص المندلعة في مناطقهم فقط، بل يمتد تأثيرها إلى كل بقاع البلاد، سواء على شكل أزمات اقتصادية أو نفسية.

ويفيد بأنه يتطوع حالياً لتقديم استشارات نفسية، عبر الهاتف النقال، لمئات الأشخاص، معظمهم من النساء والأطفال، فهم أكثر هشاشةً من تحمل الصدمات والاضطرابات. ويقرّ بأن الاستشارات التي يقدّمها غير كافية لأن البعض يحتاجون إلى أدوية ومتابعة مستمرة تتطلب وجودهم/ نّ في المستشفى.

ويضيف بشير أن الحرب أدت إلى توقف عمل معظم المستشفيات في الخرطوم، بما في ذلك مستشفى التيجاني الماحي للطب النفسي، بالإضافة إلى تعطل عيادات الأطباء النفسيين كافة تقريباً، نظراً إلى انعدام الأمن وصعوبة التنقل وشح المعونات الطبية.

من نفسية إلى جسدية

وتتوقع أستاذة علم النفس في جامعة الأحفاد، مروة علي، إصابة معظم السودانيين بالاكتئاب بمختلف درجاته، لأن القلق والتوتر والضغط النفسي المستمر، سواء بفقدان الأقرباء أو المنازل أو الوظائف أو البيئة التي عاشوا فيها والمستقبل الغامض، تؤدي إلى عدم الرغبة في فعل شيء ويمكن أن يتطور الأمر إلى عدم التفاعل مع الأشياء المحزنة أو المفرحة.

وتؤكد لرصيف22، على أن أعداد المرضى النفسيين في ازدياد إلى درجة لا يستطيع المعالجون النفسيون والمستشفيات إذا عملوا بكامل طاقتهم، تغطية الحاجة الفعلية في أي حال من الأحوال.

وتضيف: "المجتمع السوداني بكامله مصاب بالضغط النفسي". وتشير إلى أنه، نتيجةً لذلك، يمكن أن نفقد أشخاصاً كُثراً دخلوا مرحلة من المرض لا يستطيعون فيها مساعدة أنفسهم أو أسرهم.

وتلفت مروة علي، الانتباه إلى أن المتوقع في الحرب دخول الناس في اضطراب ما بعد الصدمة، الناتج عن الصدمات الفجائية وتسارع الأحداث والخسائر الكبير المتزامنة في وقت واحد، وهذا سيفاقم الأزمة النفسية في السودان.

وتقول إن من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة: تجنّب عدم العودة إلى المكان الذي نزح منه والامتناع عن التحدث والتواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الأحلام المزعجة والتأثر الشديد من الأصوات العالية، وتالياً يصبح الشخص هشّاً وجهازه العصبي مضطرباً.

وتتابع: "سيقود ذلك إلى تأثيرات جسدية مثل الإصابة بأمراض الضغط والسكر والصداع ومشكلات في العظام، بجانب أمراض الجهاز الهضمي".

وتشدد على أن خدمات النفسية في السودان تتفاقم، إذ لا تكفي الاستشارات التي تُقدَّم عبر الهاتف، في ظل توقف عمل بعض المستشفيات وصعوبة الوصول إلى العاملة منها، زيادةً على عدم توافر الأدوية.

وتوضح أستاذة علم النفس أن وجود المرضى النفسيين بين أسرهم، في ظل الواقع الحالي، يمكن أن يولّد أزمات اجتماعيةً أخرى.

يتوقع أساتذة علم النفس إصابة معظم السودانيين بالاكتئاب بمختلف درجاته في المرحلة القادمة

التعافي يحتاج إلى وقت

لا تقتصر الاضطرابات النفسية على من شاهد العنف أو تعايش معه، بل تمتد إلى التلاميذ والطلاب بمختلف أنواعهم الاجتماعية، ما يؤثر على تحصيلهم الأكاديمي؛ وهذا ما تؤكده المرشدة النفسية سلمى عباس.

وتقول والدة الطفل سامي (9 أعوام)، لرصيف22: "برغم مرور شهر ونصف الشهر على نزوحنا من الخرطوم إلى مدينة الحصاحيصا في ولاية الجزيرة وسط السودان، إلا أن طفلي لا يزال يُعاني من الهلع والتبول اللا إرادي وعدم التركيز وصعوبة بالغة في النوم مع الاستيقاظ فجأةً".

وتوضح أنها قررت الالتحاق بزوجها المغترب في قطر، من أجل إبعاد طفلها الوحيد من البيئة التي تعيش فيها حالياً، وهي تسكن الآن في منزل أبيها الذي يأوي ست أسر صغيرة نازحة، لكن تُواجه معضلة انتهاء صلاحية جواز سفرها، وهي لا تملك غير انتظار شروع السلطات في استخراج وثائق الهوية.

ولم تُعر حكومات السودان المتعاقبة اهتماماً كبيراً بالصحة النفسية برغم تبعاتها الاجتماعية، خاصةً في ظل الاضطرابات السياسية والحروب، وهذا ما فاقم من وضع الصحة النفسية حالياً، لا سيما أن التعافي من الاكتئاب عادةً يتطلب وقتاً طويلاً يمتد لسنوات.

مع تصاعد وتيرة الحرب والدمار، ومع انتشار فكرة التباعد والشتات بين الأسرة الكبيرة الواحدة، بين مقيم يسعى إلى الهروب، ومسافر يخشى الرجوع، تنتشر الاضطرابات النفسية المتزامنة مع كل هذا الكم من الإحباطات التي مرت بالسودانيين، فهل آن الأوان للاهتمام بذاك الشقّ، أم أن رحى الحرب طحنت كل شيء، ولم يعد الجميع يفكرون إلا في تأمين حياتهم وقوتهم؟ سؤال آخر يضاف إلى حزمة الأسئلة الصعبة التي تواجه المواطن السوداني اليوم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard