في كل مرة تنظم فيها السلطات الفرنسية استفتاءً في جزيرة مايوت (Mayotte)، التي تقع في أرخبيل جزر القمر، وتطالب بها دولة اتحاد جزر القمر، آخر الأعضاء الـ22 المنضمّين إلى جامعة الدول العربية، تأتي النتيجة بأغلبية كبيرة لصالح الانضمام إلى فرنسا.
فلماذا يرفض شعبٌ الاستقلال ويتمسك بالمُستعمِر السابق؟
تقدّم لغة الأرقام الإجابة عن هذا السؤال؛ إذ على الرغم من تدنّي حصة الفرد من الناتج القومي في جزيرة مايوت، مقارنةً بمحافظات البرّ الفرنسي، إلا أنّها تظل أعلى بكثير من حصة المواطن في دولتَي اتحاد جزر القمر ومدغشقر، اللتين ارتبط بهما تاريخ الجزيرة قبل الاستعمار الفرنسي بقرون. يبلغ متوسط حصة الفرد من الناتج القومي (GDP) في مايوت 10،850 دولاراً، مقارنةً بنحو 1،485 دولاراً في جزر القمر، وفي مدغشقر نحو 552 دولاراً، وذلك كمثال واحد، فضلاً عن ارتفاع مستوى المعيشة والحريات والحقوق في مايوت مقارنةً بجيرانها، إلى جانب المواطنة الفرنسية والمزايا كافة التي يتمتع بها المواطن الفرنسي.
لماذا يرفض شعب مايوت الاستقلال؟ على الرغم من تدنّي حصة الفرد من الناتج القومي مقارنةً بفرنسا، إلا أنّها تظل أعلى بكثير من حصة المواطن في جزر القمر ومدغشقر اللتين ارتبط بهما تاريخ الجزيرة، فضلاً عن ارتفاع مستوى المعيشة والحريات والحقوق في مايوت مقارنةً بجيرانها
بين فرنسا وجزر القمر
تُعدّ جزيرة مايوت أرخبيلاً صغيراً، مساحته 376 كم مربعاً، ويتألف من جزيرتين رئيسيتين هما؛ غراند تير وبوتيت تير، وتبعد نحو 70 كم عن جزيرة أنجوان التي تشكل مع جزيرتي القمر الكبرى وموهيلي وجزر صغيرة دولة اتحاد جزر القمر.
يعود الوجود الأوروبي في الجزر الأربع التي تقع بين جزيرة مدغشقر والساحل الإفريقي على المحيط الهندي المواجه لموزمبيق وتنزانيا، إلى عهد الاستكشافات البحرية البرتغالية. في العام 1527، وضع الرحالة البرتغالي دييغو ريبيرو، أول خريطة أوروبية لأرخبيل جزر القمر، وعقب ذلك توافد رحالة من الفرنسيين والإنكليز إلى المنطقة. وفي العام 1843، أصبحت مايوت رسمياً مستعمرةً فرنسيةً، وأُلغيت فيها العبودية عام 1846. وبعد مرور أربعين عاماً، أُلحقت جزر أرخبيل القمر الثلاث الأخرى بفرنسا بموجب اتفاقيات الحماية؛ جزيرة القمر الكبرى في 1886، وأنجوان في 1887، وموهيلي في 1892، وحصلت تلك الجزر الثلاث على وضع المستعمرات في 1912، أي بعد جزيرة مايوت بسبعين عاماً.
في العام 1974، نظّمت فرنسا استفتاءً بشأن حصول سكان جزر القمر الأربع على الاستقلال، واختارت القمر الكبرى وأنجوان وموهيلي الاستقلال (شكلوا دولة اتحاد جزر القمر). أما جزيرة مايوت، فاختار سكانها البقاء ضمن الجمهورية الفرنسية بنسبة 63.8%.
بدورها لم تعترف دولة اتحاد جزر القمر بنتائج الاستفتاء، وعدّت فرنسا دولة احتلال في مايوت، وحين انضمت إلى منظمة الوحدة الإفريقية عام 1975 (الاتحاد الإفريقي عام 2002)، تبنّت المنظمة الإفريقية موقفها الرافض للاستفتاءات التي عقدتها فرنسا في الجزيرة بعد استفتاء 1974، وأقرّته. أما فرنسا، فنظمت الاستفتاء الثاني في مايوت عام 1976، بعد عام على إعلان اتحاد جزر القمر الاستقلال، وبلغت نسبة مؤيدي البقاء ضمن الجمهورية الفرنسية 99.4%.
ونظمت فرنسا الاستفتاء الثالث عام 2000، حول وضعية الجزيرة في الجمهورية، وصوّت 73% لصالح منح الجزيرة وضع "سلطة مقاطعية ما وراء البحار"، ثم في عام 2009، صوّت 95.2% لصالح أن تصبح الجزيرة مقاطعةً فرنسيةً. وفي عام 2011، أصبحت مايوت المقاطعة الخامسة من مقاطعات ما وراء البحار، والمحافظة الفرنسية رقم 101، وفي عام 2003، أُدرجت مايوت في الدستور الفرنسي، ومنذ 2014 حازت وضعية منطقة نائية جداً تابعة للاتحاد الأوروبي.
احتجاج جزر القمر
وفي عام 1993، انضمت دولة اتحاد جزر القمر إلى الجامعة العربية، لكن الأخيرة لم تزِد في بيانات القمم الختامية غير التأكيد على "هوية جزيرة مايوت القمرية"، دون تأييد موقف جزر القمر ضد فرنسا، وإن كانت هناك تصريحات للأمين العام السابق للجامعة، نبيل العربي، عن رفض احتلال فرنسا للجزيرة.
ولترسيخ ادعاء الحق في جزيرة مايوت، تضمّن دستور جزر القمر مواد عدة تنصّ على ذلك. ومنها؛ في ديباجة الدستور فقرة تقول إن "عودة جزيرة مايوت بكليتها الطبيعية أولوية وطنية"، وفي المادة 6، ذُكرت مايوت على أنّها إحدى المقاطعات الأربع التي تتكون منها دولة اتحاد جزر القمر، وفي المادة 122، ذُكر أنّ دستور جزيرة مايوت سيُوضع بعد انتهاء الاحتلال عنها. بجانب أنّ النجوم الأربعة في علم الجزيرة تعبّر كل واحدة منها عن الجزر الأربع المكونة للاتحاد، بما فيها مايوت.
يقول الناشط ومدرّس اللغة الفرنسية من جزر القمر، محمد عبد الغفور، لرصيف22، إنّ سكان مايوت برغم أنّهم يشتركون مع سكان جزر القمر الثلاث في اللغة والدين والتاريخ والعادات وغير ذلك، إلا أنّهم لا يريدون الانضمام إلى اتحاد جزر القمر، ولن يتخلوا عن فرنسا التي يحملون جنسيتها، مع ما يوفره ذلك لهم من مزايا غير محدودة.
برغم أنّهم يشتركون مع سكان جزر القمر الثلاث في اللغة والدين والتاريخ والعادات وغير ذلك، إلا أنّ سكان مايوت لا يريدون الانضمام إلى اتحاد جزر القمر، ولن يتخلوا عن فرنسا التي يحملون جنسيتها، مع ما يوفره ذلك لهم من مزايا غير محدودة
من جهته، يشير الناشط من جزر القمر، علي محمد تويبو، إلى أنّه مع اختلال التوازن الاقتصادي بين جزر القمر (الفقيرة جداً) ومايوت، فمن المؤكد في الوضع الحالي أن سكان مايوت لا يريدون الانضمام إلى الجزر في ظل هذه الظروف. لكن بحسب حديثه إلى رصيف22، فإنّ هناك الكثير من الناس في مايوت يؤيدون الوحدة مع جزر القمر، ويعدّون أنفسهم من مواطنيها.
ويتهم تويبو فرنسا بتغيير نتائج استفتاء العام 1974، ويرى أنّ 90% من سكان مايوت صوّتوا وقتها لصالح الاستقلال، لكن رغبة فرنسا في الاحتفاظ بالجزيرة جعلتها تتلاعب بالنتائج.
بالنسبة إلى الموقف الأممي من وضعية جزيرة مايوت، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بتبعية الجزيرة لدولة اتحاد جزر القمر، عادّةً أنّ نتائج استفتاء عام 1974 يجب أنّ تؤخذ للجزر الأربع، لا كل جزيرة على حدة، بينما استخدمت فرنسا حقّ النقض "الفيتو" حين أُحيلت القضية إلى مجلس الأمن الدولي.
أزمة اللاجئين بين الدولتين
ومنذ الاستقلال، ألقى ذلك الخلاف بين الدولتين بظلاله على قضية التنقل بين مايوت والجزر الثلاث الأخرى؛ إذ تفرض فرنسا قيوداً على دخول مواطني جزر القمر إلى الجزيرة، وهو الأمر الذي ترفضه جزر القمر، وتردّ بعدم التعاون مع فرنسا في ضبط الهجرة غير الشرعية بين مايوت والجزر الأخرى.
وتجدد الخلاف بين البلدين في نيسان/ أبريل 2023، بعد إعلان السلطات الفرنسية عن خطة لترحيل نحو 20 ألف لاجئ من مواطني دولة اتحاد جزر القمر إلى جزيرة أنجوان، التي تبعد 70 كم عن مايوت، لكن سلطات جزر القمر رفضت استقبال السفن التي تنفذ العملية.
يُعلّق الناشط تويبو، بأنّه في ما يتعلق بطرد مواطني جزر القمر من جزيرة مايوت، لا ينبغي لحكومة جزر القمر أن تقبل بهم؛ لأنه وفقاً للقانون الدولي والرؤية السياسية لجزر القمر فإن جزيرة مايوت هي جزيرة قمرية، لذا فإن القمريين موجودون في مايوت في منازلهم وفقاً للقانون.
ولاحقاً عُلّقت العملية الفرنسية التي حملت اسم "ومبوشو"، بأمر من القضاء الفرنسي، الذي رفض خطة هدم مساكن الصفيح التي يعيش فيها مواطنون ومهاجرون غير شرعيين، لكن وزير الداخلية وأراضي ما وراء البحار الفرنسي تعهّد بالطعن في حكم المحكمة. لم تكن العملية الأولى من نوعها، إذ تُعدّ مشكلة الهجرة من جزر القمر ومدغشقر إلى مايوت من أهم التحديات التي تواجه فرنسا.
بحسب تقرير رسمي فرنسي، تُعدّ مايوت من أشدّ المناطق الفرنسية كثافةً سكانيةً، وتأتي بعد باريس وضواحيها الداخلية في الترتيب، وتبلغ نحو 747 مواطناً لكل كم واحد، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 2،000 مواطن لكل كم واحد عام 2050. وفي عام 1958، كان عدد سكان مايوت نحو 23.3 آلاف نسمة، وفي عام 1975 ارتفع إلى 40.7 آلاف نسمة، وفي عام 2017 بلغ نحو 256 ألف نسمة، ومن المقدر وصوله عام 2050 إلى 664 ألف نسمة، وتبلغ نسبة النمو السكاني نحو 4% وفق العام 2017، بينما في دولة تعاني انفجاراً سكانياً مثل مصر بلغت نحو 1.7% عام 2021، وجدير بالذكر أنّ عدد سكان مايوت تضاعف 16 مرةً خلال الستين عاماً الأخيرة.
بجانب ذلك، هناك أبعاد أخرى لأزمة اللجوء في مايوت؛ منها ارتفاع نسبة الجريمة بسبب ضعف الفرص الاقتصادية أمام اللاجئين والسكان، ويعيش نحو 80% من السكان تحت خط الفقر، فضلاً عن نمو المناطق العشوائية التي تشكل نحو 40% من نسبة الإسكان في الجزيرة، ما دفع سكان الجزيرة المحلية وسلطاتها إلى الاحتجاج ضد تقاعس الحكومة المركزية في باريس عن مواجهة أزمة الهجرة غير الشرعية.
أما في ما يتعلق بجهود باريس لتنمية الجزيرة، فتبقى بحسب تقارير فرنسية دون المستوى المأمول، على الرغم من وضع باريس خطتين لتنمية الجزيرة؛ الأولى "مايوت 2025" في عام 2015، والثانية "من أجل مستقبل مايوت" في 2018، بكلفة بلغت نحو 1.3 مليارات يورو، لكن يظل مستوى التنفيذ دون المأمول، لأسباب عديدة منها افتقار الجزيرة إلى الكوادر المحلية المطلوبة لإدارات سلطتها، وتأخر إنجاز المشاريع.
وبسبب المشكلة السكانية في الجزيرة، حذّر تقرير فرنسي من أنّها لن تضم سوى "مناطق سكنية كبيرة، ومواقف للسيارات، وشبكات طرق" مستقبلاً. وبشكل عام ليس أمام فرنسا من سبيل لمواجهة أزمة الهجرة غير الشرعية التي تشكل نحو ثلث السكان في جزيرة مايوت، سوى انتهاج مقاربة جديدة تقوم على دعم التنمية في البلدان المصدرة للهجرة إلى الجزيرة، خصوصاً دولة اتحاد جزر القمر، وهو النهج الذي يحاول الاتحاد الأوروبي اتباعه في مقاربته لمواجهة أزمة الهجرة غير الشرعية من دول شمال إفريقيا نحو دول الاتحاد، وإن كان دون المأمول هو الآخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...