لعل الدخول في الدوامة التي تدعى "أمومة" لثلاث سنوات متتالية كفيلاً بتخفيف حدة ذكريات اكتئاب ما بعد الولادة الذي رافقني، فقد اختفى الاكتئاب فعلياً وحلّت مكانه مهام الأمومة الكثيرة ولحظات الفرح المتتالية، أثناء التمعّن بطفلة تكبر كل يوم وتتطور عاطفتها تجاهي وعاطفتي تجاهها، مع كل حركة عفوية جديدة تصدر عنها، وصار الحديث عن "الدوامة المظلمة" التي سقطت فيها لأشهر بعد الإنجاب ممكناً بيني وبين صديقاتي، وصرت أقدّم بعض النصائح التي تساعد في تخطي المرحلة النفسية الصعبة للأمهات الجديدات، رغم أني لم أتبع أي من تلك النصائح ولا أدري حتى الآن أكان هذا بقصد أم بدون.
خططت للإنجاب مجدّداً كي "أخاوي ابنتي"، حسب التعبير الدارج في ثقافتنا العربية، وقد حصل الحمل، لأجد نفسي في مواجهة شبح كبير مع كل تقدّم في عمر الحمل. أعرف ذلك الشبح جيداً، لقد سكن بيتي واستوطن غرفة نوم ابنتي، وعاش معي تفاصيل خاصة جداً وتمكًن مني عدة مرات، وها هو يعود من جديد قبل موعد وصوله المتفق عليه ضمنياً بيننا؛ لقد عادت هواجس الاكتئاب كأنني ما زلت فيه، وعادت أسئلة الوحدة والخوف والرهاب من الليل الطويل مع طفل حديث الولادة يسيطر عليّ طيلة الوقت، عادت أسئلة الوزن والشكل وتعب الرضاعة الطبيعية واختلال موازين العلاقة مع الشريك ومع الطفلة الأولى، لتجلسني أمامها وتوبخني على ضعفي: ألست أماً للمرة الثانية؟ كفاك خوفاً!
الأمهات لا يمتلكن رفاهية الاكتئاب، فالأطفال يعتقدون أننا نجلس في أسرّتنا في وقت النوم فقط، وأن الامتناع عن الحديث يكون بسبب تصرّف سيئ صدر منهم، وهكذا خسرت فرصتي في أن أغرق في رأسي، أستمع لأسئلتي وأبكي وأغلق الأبواب على نفسي
كنت أدرك بصورة ما أن أعراض الاكتئاب بدأت تتمكن مني خلال الحمل، لكن المفارقة الآن أن الأمهات لا يمتلكن رفاهية الاكتئاب، فالأطفال يعتقدون أننا نجلس في أسرّتنا في وقت النوم فقط، وأن الامتناع عن الحديث يكون بسبب تصرّف سيئ صدر منهم، وأن البكاء لا بد أن يكون بسببهم أو بسبب بابا، وهكذا خسرت فرصتي في أن أغرق في رأسي وأستمع لأسئلتي وأبكي وأغلق الأبواب على نفسي.
تشير الدراسات الطبية إلى أن احتمالية حدوث اكتئاب ما بعد الولادة تزيد لدى النساء اللواتي عانين من الاكتئاب في المرة الأولى للإنجاب، قرأت هذه المعلومة في فترة الثلث الأول من الحمل، وكانت بمثابة مصيبة بالنسبة لي؛ إذ تعني هذه المعلومة أنني غالباً سأكرّر التجربة المريرة التي ما زلت أحفظ أدقّ تفاصيلها، واليوم لا قدرة لدي على تكرار التجربة، لقد نفذت خزانات الحزن في قلبي من جهة، وأفكر في تجربة أمومة أكثر إيجابية من التي حدثت من قبل من جهة ثانية؛ لا أريد أن تسيطر علي مشاعر الخوف من نظرات ابنتي ليلاً على أقل تقدير.
صار لزاماً علي أن أتصالح مع الاكتئاب الأول، هذا كل ما كنت أفكر فيه، وصرت أحب أن أحكي عنه للجميع، حتى لمن لا يهمهم الأمر، وقد حدث، صرت أرسل لزوجي العديد من الفيديوهات والمقالات التي تشرح الأسباب العلمية لاكتئاب ما بعد الولادة، وتقدم بعض الاقتراحات لتخفيف حدة الموقف. مررت بحمل متعب جسدياً ونفسياً، وكان عائلتي على الضفة الأخرى تعاني من عدة ظروف صعبة، واقترب موعد ولادتي وأنا منفيّة ومتعبة من كل شيء ومدركة لما يمكن أن يصيبني بعد انهيار منسوب هرمون الحمل في جسمي، إلا أنني قررت فجأة أن أحارب الاكتئاب قبل وصوله.
أشكر نفسي أولاً وأخيراً، لأنني اتخذت خيار المواجهة، وجهّزت نفسي للاكتئاب، وما أعرفه الآن هو أننا نستحق تسامحاً صادقاً مع أنفسنا واحتراماً حقيقياً لأجسادنا الرائعة
طلبت من زوجي يوم الولادة، بطريقة واضحة وصريحة، ألا يتركني لحظة، وأن يغدق علي حباً وحناناً ورومانسية، ولم أجلس في البيت أكثر من ثلاثة أيام، صرت بعدها أخرج كل يوم تقريباً، وطلبت من صديقاتي أن يزرنني كل يوم، وتمعّنت في جسمي من اليوم التالي للعملية وشكرته وقدمت له الوعود بأن أحترمه على المهمات الصعبة التي قام بها، وكنت أضع الماكياج كلما سمحت لي الفرصة، وأرتدي ملابس أنثوية للغاية كل يوم تقريباً، وأحكي مع طفلتي في كل شيء. وجدني الاكتئاب واقفة على باب المنزل أضع يدي على خصري وأنتظر قدومه، لذا غيّر طريقه، وهذا أهم ما في المسألة.
لم يكن الشهر الأول من عمر ابنتي الصغيرة سهلاً لكنه كان أفضل مما توقعت، فقد تخليت عن وهم الأم الفولاذية، واستفدت من وجود زوجي معي هذه المرة لأحكي كل ما لم أحكه في المرة الأولى، وبدأت أتدرب على تقبّل مساعدته لي، فهو أيضاً يعرف كيف يعتني بطفلة، وساعدني وجود ابنتي الكبيرة في أن أتجاوز بعض المخاوف التي تفرضها الوحدة على الأم الجديدة.
هذه الكتابة لا تعني أن الاكتئاب لا يصيب النساء في الولادة الثانية، لكنني أحاول من خلالها أن أشكر نفسي أولاً وأخيراً، لأنني اتخذت خيار المواجهة، وجهّزت نفسي له واعتقد أني انتصرت، أريد أن أهمس في أذن كل النساء الحوامل للمرة الثانية، لأخبرهن أن تجربتنا الأولى نقطف ثمارها مع الطفل الثاني، فالأخطاء الصغيرة والكبيرة التي ارتكبناها مع الطفل/ة الأول/ى لن نرتكبها الآن، وربما هناك فرصة لأخطاء جديدة... لا أحد منا يعرف، وما أعرفه الآن هو أننا نستحق تسامحاً صادقاً مع أنفسنا واحتراماً حقيقياً لأجسادنا الرائعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...