شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
خَبز النساء في أفران الرجال

خَبز النساء في أفران الرجال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 28 أغسطس 202311:09 ص

سأقوم بالظنّ والادعاء تحت مسؤوليتي الكاملة: لا توجد امرأة ليست نسوية، حتى وإن كانت جاهلة بحقوقها أو مساومة عليها، حتى وإن كانت تقبل بالسلطات الذكورية، وداعمة لها، بشكل مقصود أو غير مقصود، الزوجة الخائنة نسوية، والصالحة نسوية، وربة البيت نسوية، والعاملة في مؤسسات المجتمع نسوية، والأم نسوية، واللاإنجابية نسوية، والمناضلة لأجل الحقوق نسوية، والمعادية لها نسوية، جميع النساء امرأة واحدة، تحاول أن تحمي نفسها من غدر الحياة، من تحوّلها في ثانية تحت مسمّى أن لا ضمانات لضحية.

من منا آمنة؟ سؤال قد تكون إجاباته مطاطية، تحمل نسباً متفاوتة، فهناك من تجد الأمان في إيمانها، في ردائها المحتشم، في السير داخل جدران المجتمع، وهناك من تجد الأمان في عدم الامتثال لأي شيء إلا لنفسها، وهناك من تجده في العيش بضبابية وبوجوه عديدة، وهناك من تجده في التمرّد المطلق، وعناق كل ما هو مضاد لما يعتقده قطيعها، كمحاولة في التواصل مع نفسها، والالتصاق مع الحياة بشكل مباشر، رغبة في فرصة يمكن أن تتحمّل نتائجها لأنها من إرادتها الحرة.

خبزة من النساء

أحياناً كنت أشعر بأنني محظوظة لقدرتي الهائلة على الشعور بالحياة، محظوظة بقدرتي على خلق حياة لمن أحب، حياة كاملة موازية، مليئة بالصداقة والتواصل والمشاركة والحميمية، والاستمتاع بكل ما يُقرأ ويُرى ويُسمع، حياة داخلها نكهات طيبة لكل الأشياء، حتى الخوف والتوتر، وما وراء الأفعال، حتى ما يزعجني منها ويخيفني، وبحقيقة كاملة دون زيف، لكن اليوم، وأنا غارقة في فوضى سوداء، أشعر بنقمة هذه القدرة. الحميمية التي كانت وسيلة للنجاة غدرت بي وأعادتني للعراء والخوف، لكن لا سلاح بحوزتي ولا بحوزة أي امرأة في هذه الحياة.

لا توجد امرأة ليست نسوية، حتى وإن كانت جاهلة بحقوقها أو مساومة عليها، حتى وإن كانت تقبل بالسلطات الذكورية، وداعمة لها، بشكل مقصود أو غير مقصود

حين كنت أغني للقيود وضرورة حمايتنا بها، لم أكن آمنة، وحين توسّطت ولعبت شد الحبل، شُنقت به، وحين غنّيت الحرية وظننتها أماني وظننت منح الحقيقة حقيقة، لم أكن آمنة. ثلاثة وجوه للحياة نظرت نحوها، عشت على حدودها مشاعر مئات النساء، في مراحل مختلفة من حياتي التي لم تتجاوز الثمانية والعشرين عاماً، ولم أصل لتصور يجعلني أدرك ما الذي يجب علي فعله لأستطيع أن أجمع شكل حياة المرأة الآمنة، وكيف تكون.

جميع النساء تحيا في بطون بعضها حياة كاملة، حياة ومشاعر لم يخطر لها في يوم أنها ستعيشها وكأنها امرأة أخرى. أنا في بطن جارتنا سعاد المنتقبة الحامل، أحيا بجوار جنينها الذي تضع يدها عليه وتقرأ له القرآن كل يوم، أنا هي، منتقبة ومليئة بالحياء والإخلاص لمن أحب، أرغب بأن أمنحه حياتي وأتعرّى له هو فقط، وبعيداً عنه لا يظهر من قلبي قطعة لغيره تحت أي ظرف. أنا بوفائها، بإيمانها، وتديّنها، وعفافها، ويقينها المطلق بأن هذه هي الحياة الصالحة، وهي في بطني، ما زالت مشاعرها عذراء، شقية، تظنّ أن بتنوّعها ستظلّ ممسكة بزمام أمور حياتها، طاقتها كبيرة وموجّهة لرجلها فقط.

أنا في بطن ميسون، كبيرة عائلة أمي، بين دهون جسدها الذي أنجب خمسة أطفال، والآن تحاول إعادته للرشاقة بمشروب الكرنب المطحون. أنا مثلها، أخدم حواس الحبيب الخمس، وربما الحواس التي لم تكتشف بعد. أتجمّل من أجله، أعيد لجسدي الرشاقة والحيوية، وأنا مثقلة بمشاكل وهموم أتجاهلها من أجل احتواء مشاكله وهمومه. أستخدم الوصفات الطبيعية بكل سذاجة، والكيميائية باهظة الثمن، ولا أنتظر شيئاً أكثر من عناق حقيقي في آخر يومي الروتيني العادي، الخالي من الفلسفات والفن، وهي في بطني تحاول بين فواصل روتينها اليومي أن تخبره بتوجّهاتها نحو قضية ما، تشغله بشدّة، وكأنها قضيتها الشخصية، لتمنحه المشاركة وتمنح نفسها شعور أنها كافية.

أنا في بطن صديقتي روز، العزباء النباتية، أتلامس مع الطبيعة، وأحاول بكل جهدي المحدود خدمة الكون، أبحث مثلها عن قضية تضيف لحياتي الكثير من الحيوات والمعاني، وأشارك بهم من أحب، لأجعله يشعر في وجودي بألف عالم وعالم ليسليه ويلهمه، ويجعله متذوقاً لتجارب لم تخطر في يوم على باله، وهي في بطني، تودّ التخلّي عن جعل حياتها صاخبة ومميزة، تود أن تكون بسيطة وعادية، تود كسب قبوله بسلاسة وهدوء، دون مجهود حتى تصبح قطعته الفريدة.

أنا في بطن الكاتبة التي أحبها، وأؤمن باللا إنجابية مثلها، أمتصّ خيالها وأجعله في أيامي، أجسّد صورها كلها في قصّة حبي، وأحبه بألف لون ووجه، وأبدأ به فصولاً جديدة لكتاب "ألف ليلة وليلة"، وأهب قوة جسدي وجماله وشبابه له، دون التفكير في طفل يقال إن الحاجة لوجوده غريزة أنثوية بحتة، وبالتأكيد هي بداخلي، وأخشى أحياناً التفكير في أمر هذه الغريزة بشكل جاد من فرط حبي له، أو لاحتمال أنها رغبته، وهي في بطني تودّ التوقف عن الكتابة، وجعل ألمها وفرحة لوحات تفاصيلها زاهية في عيون الجميع.

أنا في بطن نجمات الإغراء، لدي غرف إضاءتها باللون الأحمر السخيف، هادئة ودافئة ولا يوجد في زواياها إلا المتعة والسكينة واللامسؤولية، أرقص مثلهم وأجيد همساتهم المثيرة وأفكارهم التي تبدو منحرفة، وهم في بطني يتمنون ساعة أمان واحدة في يومهم، يتخلين فيها عن ضغط ضرورة الابتكار وتجسيد أدوار النساء الفاتنات، للاحتفاظ بقدرتهم على كسب مقاعد المتعة في حيات الرجال البؤساء.

الزوجة الخائنة نسوية، والصالحة نسوية، وربة البيت نسوية، والعاملة في مؤسسات المجتمع نسوية، والأم نسوية، واللاإنجابية نسوية، والمناضلة لأجل الحقوق نسوية، والمعادية لها نسوية، جميع النساء امرأة واحدة، تحاول أن تحمي نفسها من غدر الحياة، من تحوّلها في ثانية تحت مسمّى أن لا ضمانات لضحية

كل هؤلاء النساء في بطني البكر، بطني الذي أعلاه قلب أحبه ولم يأمن من هجره، وأنا في بطنهم جميعاً، حتى وإن لم يكتشفوا وجودي بعد، وجودي الشرس، القوي، الحر، الرقيق، العقلاني والمجنون، وكأن النساء خبزة واحدة، لها نفس المذاق والمكونات والأهمية والتغيرات الحيوية.

 الدقيق والماء

جميعاً كنساء في صورتنا الأولى نشبه حبات الدقيق الأبيض برائحته الطيبة، وفي صورتنا الثانية، فتات خبز يابس فرط للعصافير على سطوح بيوتنا، وبين الصورتين ندور في مراحل صناعة الخبز، بعدما نُنثر نعود من موتنا القديم، نحيا بالعمل، بدراسة تجعلنا أكثر تقدماً، وبمهارات تؤهّلنا لحياة أفضل، نحطّم صورنا القديمة باختلاف طاقاتنا، وننظّم سير ما ينقل على أعصابنا. نزور الأطباء والعرافات، نفتح الفناجين وأوراق التاروت، ونعطي لأحلامنا أهمية، ونركض وراء مفسّريها، نواظب على دروس اليوجا، ونقرأ الكتب ونحضر عروض الأزياء، ونفعل ما يكره الرجال فعله، أي تحميل أنفسنا نتائج كل ما أدى إلى الفشل، نحاسب أنفسنا محاسبة أكثر من عادلة.

وبعد مرحلة شاقة من إعادة التأهيل، نولد من نجمة مضيئة، ونصبح قادرات على احتواء الأفعال وما ورائها، مثل الصديقات الناضجات، ويتجدّد إيماننا بأن وجودنا مرتبط بالعطاء المطلق مثل الأمهات الصالحات، ندلّل من نحب ونتفنّن في إثارته مثل الجاريات والغانيات، نعمل وننجح ونتحقّق مثل المحاربات القويات، ونتقبّل الغدر الذي حدث في الماضي دون سبب واقعي، مثل النساء المضحيات والعاقلات.

نصبح خبزاً شهياً، ثم نُغدر من الحياة مثل الغدر القديم، نصبح يابسات، منتظرات فرطنا على السطوح للطيور المهاجرة، وكأن لا أمل في النجاة هنا، وكأن قلوبنا أوطان كتب عليها الخراب أينما أدارت وجهها.

الخَبز

أشعر أنني نسوية من الدرجة الأولى، وأنا ألمس جميع أشكال وألوان النساء داخلي كل يوم، لست ملمّة بالقانون، لا أشغل منصباً حقوقياً ولا أتبنّى القضايا النسائية بشكل يومي ومباشر، لكني أعيش النساء، أكتب النساء، أغدر مثلهم، وأفرط نفسي للعصافير، وأخبزني في فرنهم، أتفهّم ما وراء الضعف، وكيف تصبح الأظافر الجذابة سكيناً، وكيف تصبح القلوب الدافئة نيراناً، والوجوه الطيبة مرآة لكل ما هو قبيح.

بعد الدخول لفرن الطهي للمرة الألف في أعوام قصيرة، وضياع مصدر الذنب والخطأ الذي أدى لإعادة دورة طهينا، نصبح غريبات حتى عن أنفسنا. في السكينة نعلّق على صدورنا صورة حواء وهي تفقس من ضلع آدم، وفي الغدر نعضّ على تلك الصورة حتى تتحطّم هي وأسناننا، الشيء ونقيضه في أدمغتنا، تياران يتنازعان تحت جلودنا الغضة، جلطات تتشاجر على مساكنها داخلنا، جحيم لا يشبه إلا الجحيم الذي يجب أن يقدّر للطغاة.

قد يبدو الأمر في صورته الخارجية هذيان لامرأة لم تعد تشعر بالأمان من جنس يشاركها الأرض والحياة وفطرتها، لكن في الأمر أمور شديدة التعقيد، يشبه مئات الحبال الصغيرة المعقودة على بعضها وداخل بعضها.

كيف تتحمّل النساء؟ حتى اليوم لا أعلم كيف؟ كيف يصل بعضهن لعمر السبعين دون أن يطحن بالخيبات وينتثرن، لا أعلم كيف، لكنني أعلم أنني لا أريد أن أعود للخَبز، لا أريد أن أعيش الأمل وبعده الغدر، لا أريد سوى أن أُنثر للطيور، وأذهب معهم إلى العدم

ونحن دقيق صاف نكون صاخبات، لا نغار من أجمل النساء وأكثرها جاذبية، ونحن نعدّ للعجن من جديدة نغار من مجرّد الأفكار، ولا شيء أكثر من الأفكار، ولا شيء مؤذ مثلها.

 ونحن دقيق خالص، نظن أن لا شيء سيبكينا مرة أخرى، ونحن مخلوطات بالماء تبكينا الهواجس، والهواجس كوابيس تزورك وأنت واعية، تقتص منك في وقت يقظتك، ولا شيء أكثر منها دماراً للروح. ونحن دقيق طاهر يلهمنا نجاح الحبيب ويسعدنا، ونحن عجينة على وشك الخَبز نخافه ونكرهه، ونحن دقيق جاف نسحق بثقتنا فيما نقدّم احتمال أي خيانة، ونحن أمام ساعة ضبط درجة حرارة الفرن، تسحقنا لآخر ذرة زميلات العمل الجميلات، وإطراءات المعجبات العابرات، ونحن دقيق ثمين يكون العتاب حقنا وجدواه محتملة، ونحن ننضج تحت النار يصبح العتاب حماقة وإهانة وجدواه مستحيلة، والخَبز أشرف لنا.

ونحن دقيق صاف نشعر بأن حياتنا ملكنا، وقلبنا جنة، ونجاتنا حق، ونحن عجينة تصبح جميع خططنا خطأ، قلبنا فاسد ونجاتنا مستحيلة، نصبح مذنبات في حق أنفسنا، والإصلاح يحتاج لسنوات ضوئية وأحداث تشبه المعجزات، شرف الخصام الذي افترضنا أنه سيكون داخلنا سيتحول لعداء غير مبرّر، لأننا عاجزات عن الغفران لأنفسنا عودتنا للخَبز، عاجزات عن تجاهل غصّة العتاب، ورغبة السؤال عن تلك الجميلة الجديدة، عاجزات عن جبر هشاشتنا التي جعلت منا نساء باكيات، سخيفات، مرة أخرى.

التجفيف

النساء يجفّفن قلوبهن لتنثر للعصافير، وتخبز قلوبهن لتؤكل من جديد، ولا شيء في الكون  يشعر بدورتنا هذه، حتى نحن نفقد قدرتنا على الشعور ببعضنا أحياناً، منا من يُهزم إيمانها، ومنا من يصعد إيمانها قمته، منا من ستلجأ لحضن جلّاد جديد، ومنا من ستجلده إن اقترب، منا من ستعتكف في محرابها إلى الأبد، ومنا من ستتسكع في أزقة العلاقات، منا من ستستسلم للموت، ومنا من ستحيا كالموتى، منا من ستدرك أن لا شيء يستحق النضال والقتال والانتحار، ومنا من ستسير نحو أحدهم، ومنا من ستعذر تقلبات غيرها وتلمسها، ومنا من ستسخر منها وكأنها ليست مثلها.

كيف تتحمّل النساء؟ حتى اليوم لا أعلم كيف؟ كيف يصل بعضهن لعمر السبعين دون أن يطحن بالخيبات وينتثرن، لا أعلم كيف، لكنني أعلم أنني لا أريد أن أعود للخَبز، لا أريد أن أعيش الأمل وبعده الغدر، لا أريد سوى أن أُنثر للطيور، وأذهب معهم إلى العدم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image