بالرغم من توالي الحقب والحكومات والرؤساء على حكم تونس، يظلّ فكر فئة كبيرة من المواطنين حبيس فترة محددة دامت أحد عشر شهراً فقط، مع أنه لم يعايشها إلا عبر كتب التاريخ وقصص القدماء والأجداد. هذه الفترة هي التي حكم خلالها "المنصف باي"، أو محمد المنصف باشا، آخر البايات الحسينيين في تونس.
يُلقَّب المنصف باي (1881-1948)، بـ"سيدي" آنذاك، وهو ابن محمد الناصر باي، الذي اعتلى العرش الحسيني يوم 19 حزيران/ يونيو سنة 1942، بعدما سُمّي ولياً للعهد في الـ30 من نيسان/ أبريل من السنة نفسها، ليخلف ابن عمه أحمد باي طوال أحد عشر شهراً ذاق فيها الأمرّين ودُبّرت له المكائد والدسائس من المستعمر الفرنسي وانتهى به المطاف إلى تنحيته في أيار/ مايو 1943.
"حبيب الشعب"
حول سؤال "من هو أصلح ملك أو رئيس لتونس منذ قيامها؟"، الذي طرحه رصيف22، في الشارع التونسي، قابلنا عدد من المواطنين بإجابة تناصر باي تونس جلالة الملك المنصف مقابل قلّة قليلة لم يكونوا على دراية تامة بهذه الشخصية التاريخية، ومنهم ما قالوا إنه "اسم على مسمى"، ومن اعتقد بأنه لا تجوز مقارنته بأيّ من الحكام الحاليين أو الذين حكموا من بعده.
يقول أحد المستجوبين تركي المنصوري، لرصيف22، وهو مسنّ: "كنت أنصت لأجدادي عندما يسردون مآثر ومغامرات هذا الباي وما فعله ليلقى كل هذا الحب من التونسيين وعلى رأسهم الزعيم فرحات حشاد"، متسائلاً: "ماذا فعل المنصف باي ليحضر جنازته مئات الآلاف من الأشخاص وهو أكبر رقم وأكبر جنازة في تاريخ تونس مقارنةً بعدد السكان في أربعينيات القرن الماضي؟".
أطلق الإصلاحات وسنّ الحياد التونسي وسط الأمريكيين والنازيين، وألغى تقبيل يد البايات. المنصف باي "حبيب الشعب" التونسي
يضيف: "عندما تقول إجبارية التعليم يتبادر إلى ذهنك المنصف باي، وعندما تتحدث عن المساواة في الأجور بين التونسيين والفرنسيين لا يسعك إلا أن تقول المنصف، وعندما تفكر في مفهوم التمسك بالهوية العربية الإسلامية والتعايش السلمي بين مختلف الديانات في تونس تقول منصف باي، وعندما تقول عودة تدريس العربية في كل المدارس ستجد أن المنصف باي يقف وراءها، وحتى عن تمريغ أنف نظام فاشي في التراب ورفض إجبارية تعليق نجمة صفراء ليهود تونس (خلال الحرب العالمية الثانية)، لن تقول إلا المنصف باي، وهو الشيء نفسه بالنسبة إلى رفض نشر الجنود الأمريكيين في تونس ورسالة الرفض الشهيرة الموجهة إلى الرئيس روزفلت: "نحن خارج هذا الصراع"، فضلاً عن إلغائه تقبيل يد الباي وتعويضها بالمصافحة. كل هذا وغيره وتتساءلون من هو أعدل حاكم لتونس؟ طبعاً هو المنصف باي والتاريخ خير شاهد على ذلك".
"ضحية ديمقراطيته"
عن التاريخ الذي رسخ في أذهان التونسيين إلى اليوم، يقول الباحث في التاريخ وسليل العائلة الحسينية عبد الستار عمامو، لموقع رصيف22: "كان المُلْك وراثياً من الأب إلى ابنه الملك الأمير الذي لم يعلن يوماً حرباً دارت رحاها عليه فأوقعته أسيراً بين أيدي أعدائه، ولم ينازعه أحد من أهله وأقرانه ملكه وسلطانه فغلب عليه المستعمر وانتزعه منه وسجنه تفادياً لإعادة النزاع".
"هو ملك حالف أمة الحرية (فرنسا) فاعتقلته واحتمى بدولة العدالة والتزمت له بأن تحميه وعائلته فخلعته من عرشه وشرّدته عن وطنه وأبعدته عن أهله. كان وفياً لبلده يوم محنتها، واختار جانب الديمقراطية وانحاز إليه عندما بلغ الكفاح أشده بينها وبين الفاشية والنازية في هذه الحرب ويوم كانت بلاده ساحة الكفاح وميدان الصراع فأضحى يوم انتصار الديمقراطية هو يوم انتهاء أمره". بهذه العبارات المقتبسة من إحدى الروايات الموضوعة على رفوف مكتبته، وصف المؤرخ عبد الستار عمامو، مسيرة التحدي والكفاح التي عايشها سيدي المنصف.
يضيف قائلاً: "لقد ناصر آخر باي حسيني لتونس الجانب الديمقراطي ليستفيد به منه ويفيد، فخُلع من عرشه، وتم النيل من عزته وحرمته وسيق على طائرة إلى صحراء الجزائر المحرقة أسيراً معذباً مضيّقاً عليه ووُضع في الأغواط، وأُجبر بقساوة على كتابة وثيقة تنازله عن عرشه". واستطاعت السلطات الاستعمارية عزله ونفيه بعد اتهامه بالتعامل مع الألمان، فيما يقول مؤرخون إن التهمة الحقيقية كانت حياده خلال الحرب العالمية الثانية.
ناصرالمنصف باي إرساء الديمقراطية في تونس ليستفيد به منها ويفيد، فخُلع من عرشه، وتم النيل من عزته وحرمته وسيق على طائرة إلى صحراء الجزائر المحرقة أسيراً معذباً
يرى محدّثنا أن قضية ملك تونس تنضوي على ثلاثة أبعاد وهي الذاتية التونسية والنهضة القومية وقضية الحرية، إذ عُرف بمحاولة إنقاذ شعبه فبادرته السلطة الاستعمارية بالخلع والاعتقال، فهذا الملك الذي نتحدث عنه هو ثالث الملوك الحسينيين الديمقراطيين الذين أخذوا بيد أمتهم وأعانوها على النهوض وضحّوا من أجلها ولصالحها.
أول ملك يمنح شعبه دستوراً
يؤكد عمامو، أن "المنصف كان ذا مواقف كسرت غطرسة الفرنسيين وأول ملك تونسي منح شعبه دستوراً وأعطاه صورةً ديمقراطيةً من الحكم، إلا أن الاستعمار الفرنسي كان يترقب الحالة في تونس وكان خائفاً من النهضة التي تحققت في مختلف نواحي الحياة، وخشي أن تفلت هذه الفريسة من يديه فشنّ عليها غارةً من الدسائس وأقام في سبيلها العراقيل حتى وقعت في الفخ واضطربت، فعاجلها بالاحتلال وفرض عليها الحماية وعطّل معالم النهضة فيها وقضى على النظام الديمقراطي، لتكون الحلقة الأولى من التصادم بين أفراد هذا الفرع من العائلة المالكة والاستعمار الفرنسي".
دسائس المستعمر
لطالما عُرف المنصف باي بكلمته الخالدة التي وجهها إلى أحد وزراء عهد الاستقلال، عندما أراد تخويفه من أحد القوانين الاستعمارية التي من الممكن أن تجعل يدي الملك مكتوفتين عن كل أمر يريده، فأجاب الباي آنذاك: "لأن تكون يداي مكتوفتين خير من أن تكون أيدي شعب كامل مكتوفةً عن كل عمل صالح"، ثم تقدّم وأقسم يمين الإخلاص لهذا الدستور الجديد معلناً أنه لا تتم ولاية لملك بعده، إلا بعد أن يقسم يمين الإخلاص لهذا الدستور والتزامه وإجراء العمل به".
يمثل "جلالة" المنصف باي، مرجعاً تاريخياً وشخصيةً رمزيةً رسمت معالم دولة وطنية ومهدت الطريق لبناء حضارة تونسية عن طريق عائلة حسينية حكمت تونس طوال مئتين واثنين وخمسين سنةً
برغم اليمين التي أداها إنصافاً لشعبه وحباً للديمقراطية إلا أن فرنسا لم تدَع حق السيادة على القطر التونسي بصفة علنية صريحة إلا في عهد المقيم العام أردمان غيون. فقد أخذ هذا المقيم يذكر في مختلف المناسبات مسألة السيادة المزدوجة ورددت أقواله الصحافة الفرنسية مؤيدةً ومحبذةً. ومما شجع المقيم على المضي في هذا السبيل هو موقف بعض الأحزاب التونسية التي سلمت لفرنسا بهذا الحق، لكن الطبقات المتعلّمة من الشعب التونسي استنكرت هذا الأمر وشنّت غارةً شعواء في الصحافة مفندةً هذه "الدعوى الباطلة التي تسلب الدولة التونسية نفوذها وتجعل من المملكة التونسية أرضاً مستعمرةً".
بلغ الصراع بين الأمة والاحتلال الفرنسي غايته. كان الناس ينتظرون ولاية المنصف لينقذ ويغامر ويفدي ويصلح ويفصل بين حياة عتيقة لم تعد لصالحه ولم يبقَ لوجودها من مبرر وبين عصر جديد وحياة ناشئة فتية يقيم صرحها بيده القوية وقلبه الطاهر.
إصلاحات تاريخية
يعود بنا محدثنا إلى حقبة زمنية ولّت وضع فيها المنصف باي، سلسلةً من الإصلاحات التي انطلقت من أهله وقصره وآل بيته، وسار بها في أوساط شعبه، فزار معاهد التعليم والإدارات والمؤسسات وأقسام المدارس الابتدائية منها والثانوية، واطّلع على سير الدروس، كما زار غرف مبيت الطلبة وحث التلاميذ والأساتذة والمدير على الجدّ في نشر الثقافة بين أبناء الشعب ووجه توبيخاً إلى كل تلميذ كسول.
كما وضع "محبوب الشعب" خطةً لإزالة البغائَين، السرّي والعلني، وشرع في تطهير الكثير من الأحياء المأهولة بدور الدعارة وأغلق المحال التي توجد فيها، كما وقعت تفاهمات تتعلق بتحديد قيمة المهور والترغيب في الزواج. كما أمر المنصف باي بتأسيس لجان اقتصادية تنظم التوريد والتصدير والتوزيع وتشدد الرقابة على المحتكرين والمتلاعبين بالسوق وإنزال أشد العقوبات بهم... إلا أن اشتداد حالة الحرب حالت دون إتمام الكثير من خطط الإصلاح.
يمثل "جلالة" المنصف باي، مرجعاً تاريخياً وشخصيةً رمزيةً رسمت معالم دولة وطنية ومهدت الطريق لبناء حضارة تونسية عن طريق عائلة حسينية حكمت تونس طوال مئتين واثنين وخمسين سنةً واثني عشر يوماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...