شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عناقيد الهيمنة... أنثروبولوجيا الخمور في تونس في زمن الاستعمار

عناقيد الهيمنة... أنثروبولوجيا الخمور في تونس في زمن الاستعمار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

كان محمود بن عاشور يرتجف من البرد، وهو واقف في ردهة محكمة مدينة قرمبالية، شرق تونس العاصمة، ينتظر قرار القاضي بشأنه في صباح يوم 28 كانون الأول/ ديسمبر 1903 البارد. قبل يومين من ذلك، غادر محمود حقله في أطراف المدينة نحو وسط البلد كي يمارس هوايته المفضلة في شرب البوخا، وهي نوع من الكحول المقطر. كعادته، لم يتمالك نفسه أمام البوخا، فأسرف في الشرب وخرج إلى الشوارع يتصيد ضحاياه.

أدين الرجل أخيراً بأربعة أشهر سجناً، تاركاً طفليه وزوجته بلا مُعيل، بعد قيامه، تحت تأثير البوخا، بالإمساك برجل عجوز من لحيته والبصق في وجهه. ينقل الباحث الفرنسي، من أصل جزائري، نسيم زناين، في كتابه الصادر حديثاً، "كروم الهيمنة: تاريخ اجتماعي للكحول في تونس زمن الحماية الفرنسية (1881-1956)"، الكثير من هذه القصص، من خلال أرشيفات القضاء، والطب النفسي.

يقوم الكتاب على رسالة دكتوراه دافع عنها الكاتب في جامع السوربون عام 2017، تغطّي جانباً كبيراً مخفياً من طبيعة السياسات الاستعمارية في تونس على مدى سبعة عقود من تطبيقها. ويستند الكاتب إلى نهج متعدد التخصصات في مقاربة موضوع البحث من خلال دراسة موضوع الكحول من وجهة نظر اقتصادية أو اجتماعية أو تنظيمية أو قضائية أو حتى صحية، وذلك عبر الاعتماد على كمّ كبير من المراجع والوثائق، والتمثيلات الإحصائية والخرائطية المتنوعة وكذلك الصور والشهادات الشخصية، ما يكشف عن جهد بحثي وعمل دؤوب يبدو أنه دام سنوات.

لا ترتبط زراعة الكروم (كروم العنب) في شمال إفريقيا بالاستعمار الفرنسي، بل تعود إلى تقليد تاريخي قديم. كان النبيذ حاضراً في شمال إفريقيا منذ القرن الخامس قبل الميلاد. ينقل المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي أن سكان سرقوسة الإيطالية عندما نزلوا في إفريقيا عام 310 قبل الميلاد، وجدوا نصف أراضي مدينة قرطاج مزروعة بالكروم، فيما كان نبيذ القرطاجيين يطوف جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، نحو السواحل الإيطالية وجزر البليار.

وبعد بضعة عقود من الانحدار، انتشرت زراعة الكروم مرة أخرى في القرنين الثاني والثالث الميلاديين. تشهد على ذلك لوحات الفسيفساء التي يعود تاريخها إلى تلك الفترة، مثل الفسيفساء مدينة الجمّ، المحفوظة في متحف سوسة، والمؤرخة عام 230 بعد الميلاد، والتي تمثل مشهداً لدوس العنب من قبل رجلين يمسكان بالحبال حتى لا ينزلقا.

لاحقاً، وفي العصور المتأخرة، في زمن القديس أوغسطين، خلال القرن الخامس الميلادي، كان النبيذ جزءاً أساسياً من مشهد الطعام. لكن مع دخول الاستعمار الفرنسي، أصبحت زراعة الكروم الموجهة لصناعة الخمور، وصناعة الكحول بصفة عامة، مجالاً من مجالات عديدة لتطبيق السياسات الاستعمارية، وجزءاً من الاقتصاد السياسي للإمبراطورية الاستعمارية.

الحشرة التي فتحت سوق النبيذ

لم يكن الاستعمار في ذاته هو السبب المباشر لانفتاح سوق النبيذ التونسي. يعود نسيم زناين إلى جذور ذلك في الأزمة الزراعية التي أصابت زراعة الكروم الفرنسية، في نهاية القرن التاسع عشر. في تلك الفترة، هجمت حشرة فيلوكسيرا على مزارع الكروم في أجزاء واسعة من القارة الأوروبية قادمةً من الولايات المتحدة، ما أدى إلى تلف مساحات كبيرة من الكروم المخصصة لصناعة النبيذ.

ويعود أول ظهور للفيلوكسيرا في فرنسا إلى عام 1866 في مدينة سان مارتن دي كراو، قبل أن تلحق أضراراً بالغة بالكروم في ميدي ووادي لوار. اقتُلع شجر ثلث الكروم وانخفض الإنتاج بنسبة 75%.

كانت السوق الفرنسية التي شهدت نمواً مستمراً في الإنتاج طوال القرن التاسع عشر، مضطرةً إلى استيراد النبيذ، وبلغت الواردات حوالي 12 مليون هكتولتر في العام 1888.

ولم تكن أزمة فيلوكسيرا محصورة في البر الفرنسي الرئيسي بل وصلت إلى الجزائر، والعديد من البلدان في جميع أنحاء العالم. في هذا السياق من الأزمة العالمية، برزت تونس بوصفها ساحةً بديلةً لزراعة الكروم لتغطية عجز الإنتاج، وتزامن ذلك مع توقيع اتفاقية الحماية التي تنازل فيها أمير البلاد على السيادة لصالح الحكومة الاستعمارية.

وكانت البرجوازية الاستعمارية قد استفادت من تجربتها في الجزائر في كيفية الحفاظ على النبيذ بشكل أفضل في بلد أكثر دفئاً، من خلال مراكمة خبرات تقنية جعلت من الممكن صنع المزيد من النبيذ في بلد حار، وتطوير زراعة الكروم هناك.

بين عامي 1881 و1914، زادت حصة إنتاج النبيذ التونسي من الصفر تقريباً إلى متوسط حوالي 400 ألف هكتولتر سنوياً. وفي وقت مبكر جداً، صُمّم إنتاج النبيذ التونسي لتلبية طلب العميل الرئيسي في فرنسا. في الوقت نفسه، بدأت تظهر خارطة زراعة الكروم على نحو واضح. أنشأ مزارع الكروم الأولى الكاردينال شارل مارسيال لافيجيري، على مرتفعات قرطاج والمرسى، ثم في وادي الزرقاء، بهدف توفير النبيذ للمبشرين المسيحيين من ناحية، ولكن أيضاً للاحتفال بالهيمنة السياسية، في أماكن رمزية، مثل تلة قرطاج، قرب كاتدرائية القديس لويس في قرطاج.

لا ترتبط زراعة كروم العنب في شمال إفريقيا بالاستعمار الفرنسي، بل تعود إلى تقليد تاريخي قديم. كان النبيذ حاضراً في شمال إفريقيا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وكان نبيذ القرطاجيين يطوف جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط

ظهرت كروم العنب في البداية حول العاصمة، ثم راحت تتطور في منطقة الوطن القبلي (شرق العاصمة) وفي منطقة بنزرت، وضمت هذه المناطق الثلاث 92% من أراضي الكروم في بداية القرن العشرين.

لاحقاً، صار الوطن القبلي قلب زراعة العنب في البلاد، وخاصة منطقة مرناق، والساحل الجنوبي الشرقي، باتجاه قليبية. توجد بعض مزارع الكروم أيضاً على نحو غير ممتد في المناطق الداخلية من البلاد بالقرب من سوق الأربعاء ومجاز الباب، وغالباً على سفوح التلال وبالقرب من الطرق المزدحمة. وتتداخل جغرافية كروم العنب الفرنسية جزئياً فقط مع جغرافيا الأراضي الزراعية الفرنسية المنتزعة في تونس، إذ يقع 80% منها في منطقة السهول الكبرى في شمال شرق البلاد ويفسر ذلك بالظروف المناخية، حيث التساقطات أعلى معدلاً وكذلك الرطوبة.

الخمور والحياة اليومية

بعد يومين فقط من إعلان الاستقلال، في 22 آذار/ مارس 1956، فرضت السلطة الجديدة المستقلة ضريبة جديدة على مؤسسات بيع الخمور، في عملية إعادة تنظيم ضريبة تم تحديدها سابقاً في العام 1933. وبعد بضعة أشهر من ذلك، أشار مرسوم إلى حظر بيع الكحول للمسلمين، بما يتماشى مع القوانين السابقة التي صدرت في العاميْن 1914 و1920. وأخيراً، في العام 1925، فرض قانون جديد حصرية منح تراخيص بيع الخمور لحاملي الجنسية التونسية.

ينقل الباحث هذا التتابع القانوني في الاهتمام بمسألة تنظيم تجارة الكحول في تونس المستقلة، بوصفه يحمل رمزيةً سياسية ومالية تكشف عن أولويات الدولة الجديدة. أولها مسألة ملء خزائن الدولة، ثم تشكيل هوية وطنية جديدة، يختلط فيها الديني بالاجتماعي، وكذلك السيطرة على المجال العام.

يقول زناين: "كان الهدف الأولي هو دراسة العلاقة بين المجتمع التونسي والكحول خلال فترة من المفترض أن تكون فترة تغيير عميق: الاستعمار الفرنسي. كان الهدف هو تعبئة مفهوم ‘إدمان الكحول’ لمعرفة ما إذا كان الاستهلاك الإجمالي للكحول قد زاد خلال هذه الفترة من ناحية، وما إذا كان هذا الموضوع أصبح محورياً للرأي العام أو السياسة من ناحية أخرى. وقد استحدثت أطروحتنا نهجين. الأول كان تاريخ الغذاء والحياة اليومية، والذي حاول تقييم أهمية الإنتاج، وتنظيم تسويق وإعادة توزيع الكحول، وخاصة في فضاءات الشرب. اعتبر هذا التاريخ الكحول منتجات غذائية كلاسيكية، يمكن أن يعطينا استهلاكها مؤشرات على الأداء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات التي تمت دراستها، وعلى تأثير الاستعمار على الثقافة الغذائية للتونسيين. أما النهج الثاني، فهو دراسة الخطابات حول الكحول، أي محاولات المعيارية التي تفرضها المؤسسات المختلفة. في مجتمع لا يمكن فيه لاستهلاك الكحول أن يتجاوز مسألة الحظر الديني المتعلق بالإسلام، كان من المثير للاهتمام دراسة المؤشرات التي اعتبرت منها القوى المهيمنة استهلاك الكحول مفرطاً. وفي هذا السياق، كان بناء وصيانة المؤسسات القمعية في سياق استعماري أيضاً في صميم الإشكالية ومحور تركيز المصادر".

أحدث الحضور الاستعماري في تونس استهلاكاً كبيراً للكحول، جرى تحت الحماية، على الرغم من العقبات الدينية وحتى السياسية. وراح الاستهلاك الإجمالي، أولاً للنبيذ، ثم للبيرة والمشروبات الكحولية الأخرى، يزداد على مدى فترة الاستعمار

من خلال المعطيات الإحصائية التي جمعها الكاتب من مصادر رسمية، تكشف الدراسة أن الحضور الاستعماري في تونس أحدث استهلاكاً كبيراً للكحول، جرى تحت الحماية، على الرغم من العقبات الدينية وحتى السياسية. وراح الاستهلاك الإجمالي، أولاً للنبيذ، ثم للبيرة والمشروبات الكحولية الأخرى، يزداد على مدى فترة الاستعمار. وتتعلق هذه الظاهرة بشكل خاص بالسنوات الأولى من فترة الاستعمار، التي استقبلت تونس خلالها عدداً متزايداً من الأوروبيين.

وإلى حدود الحرب العالمية الأولى كان يتم استهلاك حوالي 14 لتراً من النبيذ وأربعة لترات من البيرة في المتوسط للفرد سنوياً في تونس. ويرتفع معدل الاستهلاك في المدن قياساً بالأرياف، ولكن مع فجوة أصغر بكثير مما كانت عليه في المعدلات بداية القرن العشرين.

ويسجل زناين أن الكحول الأكثر استهلاكاً، خاصة في مناطق الواحات وفي جنوب البلاد، هو على الأرجح ''اللاقمي"، الذي يُصنع بشكل تقليدي من خلال استخراج شراب النخيل وتخميره في الشمس. هذه الزيادة في الاستهلاك ترجع إلى حد كبير إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى الخمور، من خلال انتشار فضاءات الشرب، مثل الحانات والمقاهي والمطاعم على نحو واسع ويفسر هذا التحول أولاً وقبل كل شيء بزيادة إنتاج النبيذ، والذي يبقى جزء منه، غالباً حوالي الثلث، على الأراضي التونسية.

ويشير الباحث إلى أن الزيادة في إنتاج النبيذ في حد ذاتها أصبحت ممكنة من خلال زيادة مساحة الكروم. فقد زادت مساحة زراعة العنب التونسية من الصفر تقريبا إلى 50 ألف هكتار من الكروم بين بدايات الاستعمار ومنتصف ثلاثينيات القرن العشرين، وتضاعفت المحاصيل بأكثر من ثلاثة مرات خلال نفس الفترة.

في الوقت نفسه، كان شرب بعض المشروبات الكحولية، مثل المشروبات الفاخرة، يساهم في التمييز الطبقي. ونظرت بعض النخبة الاستعمارية الفرنسية بازدراء إلى عدم وجود "إتيكيت للشرب" لدى التونسيين. غير أن هذه البنى الاجتماعية لا تأخذ في الاعتبار معيار الجنسية فحسب. وبشكل أعم، فإن الخطاب حول الخمر في تونس في زمن الاستعمار يفضي إلى التمييز على أساس العرق والطبقة والانتماءات الثقافية، حيث يفضل أن يكون المرء رجلاً أوروبياً غنياً، بدلاً من امرأة تونسية فقيرة، إذا رغب المرء في امتلاك جميع حقوق استهلاك هذا المنتج.

ومع ذلك، طوال فترة الاستعمار، كان استهلاك الكحول في تونس أقل بكثير من استهلاك البر الرئيسي لفرنسا. خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، كان عدد فضاءات الشرب للفرد الواحد في فرنسا أعلى من مثيله في تونس بمقدار ثمانية أضعاف، وكان إنتاج النبيذ في تونس أقل بثلاثين مرة واستهلاكه أقل بثماني مرات للفرد، مقارنةً بفرنسا. وحتى لو كان ينبغي تجنب الاعتبارات الثقافية والدينية العامة بشكل مفرط، فإن الضغط الاجتماعي المرتبط بحظر شرب الكحول لعب على الأرجح دوراً في خلق هذه الفجوة بين البلدين.

ومن خلال دراسة النظم القانونية والتشريعية التي فرضها الاستعمار في ما خص تنظيم صناعة وتجارة الكحول في تونس، ينتهي الباحث إلى أن ذلك يمكن أن يكون أداة سياسية لدمج البلد في المصفوفة الاستعمارية.

ويبدو أن الفرنسيين هم أول مَن أدخل موضوع استهلاك الكحول في تونس في النقاش العام، من خلال سلسلة إجراءات، ضمنها قانون العقوبات لعام 1913 في بداية الحرب العالمية الأولى، والذي لم يحظر السكر العلني فحسب، بل أيضاً منع تقديم الكحول للتونسيين المسلمين.

ينظر زناين إلى هذه القوانين على أنها جزء من سياسة أكثر عمومية تهدف إلى إظهار علامات احترام تقاليد وثقافات شعوب شمال إفريقيا في أوقات الحرب. وهنا، فإن تقليد تحريم الكحول في أرض الإسلام هو المستهدف، وهو تقليد له واقعه، فعندما بدأت الحماية في عام 1881، لم تكن تونس تقريباً مستهلكة ومنتجة للكحول. ولكن من خلال هذه المراسيم، كما هو الحال من خلال القوانين الصادرة في نفس الوقت بشأن التسول أو الدعارة، لا شك أن الأمر يتعلق أيضاً بالتحكم بشكل أفضل في الفضاء العام.

الاقتصاد الاستعماري

يعالج الجزء الأخير من الكتاب مسألة اقتصاد النبيذ التونسي بوصفه قوةً لاستقرار المستعمرة. يعتقد زناين أن اقتصاد النبيذ كان بلا شك ذا قوة حقيقية خلال النصف الأول، أو حتى الثلثين الأولين من فترة الاستعمار، قبل أن يصبح أكثر هامشية بعد ذلك. ومع ذلك، نادراً ما وصل إلى أكثر من 5% من إجمالي المنتجات المصدرة و20% من إنتاج الغذاء، مما يجعل وزنه الاقتصادي نسبياً، خاصة بالنظر إلى أهمية هذا الاقتصاد نفسه في أماكن أخرى، كما هو الحال في الجزائر حيث يمكن أن يمثل النبيذ 90% من التجارة الخارجية.

وعلى الرغم من أن زراعة الكروم توظف عمالاً أكثر من قطاعات النشاط الأخرى، إلا أن وزنها الحقيقي ربما يكون مبالغاً فيه ويقتصر على مناطق قليلة في شمال البلاد.

وقبل سنوات قليلة من نهاية الاستعمار، كان اقتصاد تصنيع الجعة هو الأكثر ديناميكية، خاصة بعد تأسيس "شركة التبريد والبيرة في تونس"، في الضواحي الغربية للعاصمة من عام 1925.

 ولكن أكثر بكثير من الجانب المالي، فإن الوزن السياسي لزراعة الكروم هو الذي أصبح مهماً بشكل متزايد وربما يتناسب عكسياً مع وزنه الاقتصادي. أصبحت كروم العنب رمزاً لشكل معيّن من أشكال الاستعمار، وقدرة مفترضة للمستعمرين على تقدير الأرض التونسية والسيطرة عليها مادياً، وحاملاً لواء المصالح الاستعمارية الفرنسية دولياً.

بمعنى آخر، في العقود الأخيرة من الحماية وحتى العام 1956، أصبح النبيذ ملجأ هوية للمستوطنين. وبالتالي، تقود هذه الاعتبارات زناين إلى مناقشة هذه الحدود السياسية التي تؤطر تقليدياً الاستعمار الفرنسي في تونس. في ما يتعلق باستهلاك الكحول، ومن وجهة نظر التاريخ الاجتماعي، فإن الاستعمار في تونس لم يبدأ بالتأكيد في العام 1881، بل في العام 1914، أو على الأقل في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى مباشرة، فالفرنسيين لم يتدخلوا قبل ذلك كثيراً في محاولة تغيير التنظيم الاجتماعي للبلاد بقدر ما كان هاجسهم السيطرة على سيادته واقتصاده. وبالمثل، ربما لم ينته الاستعمار في العام 1956، بل في فترة سيطرة نظام فيشي (انتهت في العام 1943) وسياسته النشطة، على الأقل من الناحية النظرية، لمكافحة إدمان الكحول، والتي أسفرت عن انخفاض إنتاج النبيذ التونسي. فرغم أن السلطات الفرنسية ألغت كل مقرارات الحكوة الموالية للنازية بعد هزيمة الأخيرة، فإنها لم تشجع على شرب الخمور ولم تمنعه، إذ لم تعد مهتمة بتنظيم المجتمع كما كان الحال بين الحربين العالميتين.

على نطاق جغرافي أوسع، يختلف موقع تونس على خارطة الكحول الإمبراطورية الفرنسية في قضية الكحول، فمن خلال 6 إلى 8% من إنتاج النبيذ الإمبراطوري، تحتل تونس المرتبة الثانية في ترتيب المستعمرات، قبل المغرب أو مدغشقر أو بلاد الشام، ولكن بعيداً عن الجزائر التي كانت تنتج عشرة إلى 15 مرة أكثر من النبيذ قبل استقلالها.

علاوة على ذلك، لم تحاول شركات الكحول الأوروبية الكبرى بيع خمورها على نطاق واسع في السوق التونسية تحت الاستعمار، على عكس الحال في مستعمرات إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وهذا له نتيجة مباشرة على ميزانية الدولة التونسية التي، على عكس مستعمرات الاتحاد الجمركي الفرنسي، لا يمكنها الاعتماد على الإيرادات المربحة التي تدرها الإيرادات الجمركية على هذه المنتجات. وبالتالي، فإن الضرائب المختلفة المفروضة على إنتاج أو استهلاك الكحول تمثل أقل من 1% من ميزانية الدولة. وأخيراً، من وجهة نظر السياسات المانعة، فإن تونس، مع المغرب، كانتا استثناء في الإمبراطورية الفرنسية. كان القرار الذي اتخذ في العام 1913 بحظر بيع الكحول للمسلمين غير مسبوق، وبعد عام واحد فقط اتخذ المارشال لوي أوبير غونزالف ليوتي، الحاكم العسكري في المغرب، قراراً مماثلاً.

أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أصل الكتاب كان رسالة دكتوراه، ضمت في ملاحقها الكثيرة والثرية عدداً وافراً من الشهادات وقصاصات الصحف والخرائط والصور النادرة، التي تؤرخ لزارعة وتجارة النبيذ في تونس، والأكثر طرافةً من ذلك البورتريهات التي رسمها الكاتب لعدد من التونسيين المدمنين على الكحول والذين كانوا نزلاء مستشفيات الطب النفسي، وكذلك وقائع محاكمات البعض منهم أمام القضاء بتهم السكر في الشارع والعنف تحت تأثير السكر. حيث يمكن أن تكون هذه المادة الطريفة منطلق بحوث أخرى تاريخية وأنثروبولوجية أو حتى أفكاراً لقصص.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard