شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
جزء من ذاكرة السوريين أغلق بابه الخشبي… إلى اللقاء

جزء من ذاكرة السوريين أغلق بابه الخشبي… إلى اللقاء "زرياب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الثلاثاء 29 أغسطس 202302:21 م

"الهوية عالحاجز... مو بزرياب"؛ قالها برنارد قبل أن يعي لماذا رفع الشاب الهوية في وجهه عندما دخل إلى زرياب مع بداية الأزمة السورية، ثم لم يجد ردة فعل مناسبةً سوى احتضان الشاب الذي يحمل اسم مقهاه نفسه.

في رواية أخرى، نشبت ملاسنة كلامية بين شبان في مقهى زرياب، فقط لأن أحدهم قال: "لم أرَ في زرياب شيئاً مختلفاً أو مميزاً".

مدخل مقهى زرياب

تخيّلوا أن المكان الذي جمع المختلفين في الآراء ما بين الموالاة والمعارضة "بعز دين الحرب السورية"، كان عاجزاً عن جمع المختلفين في الآراء حول خصوصية زرياب وتفرده عن بقية المقاهي في دمشق القديمة. يعتقد البعض أن في الأمر مبالغةً، لكن بالفعل من يعرف مقهى زرياب، يعرف أن جزءاً مهماً من ذاكرة السوريين أغلق بابه الخشبي إلى مجهول: هل سيعود أم لا؟! لا أحد يعلم ولكن الكل يجمع على أن ما عاشوه في هذا المكان لن يتكرر حتى وإن كان هناك زرياب آخر.

لمن لا يعرف زرياب

الحب الصداقة الخذلان. المختلفون في الآراء سلمياً ما بين المعارضة والموالاة، جميعهم على طاولة واحدة في زرياب، وعلى الطاولة المجاورة من يشرب كأس النسيان وبجواره شابة مع حبيبها تختبر شكل الحب لأول مرة.

من يعرف مقهى زرياب، يعرف أن جزءاً مهماً من ذاكرة السوريين أغلق بابه الخشبي إلى مجهول: هل سيعود أم لا؟! لا أحد يعلم ولكن الكل يجمع على أن ما عاشوه في هذا المكان لن يتكرر حتى وإن كان هناك زرياب آخر

في اليوم التالي، مجموعة من الصحافيين العرب والأجانب يتعرفون على زرياب لأول مرة، ويعلقون موادهم الصحافية عنه على جدرانه للذكرى، وبعد ساعات عدة "ينحشر" الأصدقاء إلى جانب بعضهم بصورة تشبه كنكنة العائلة حول المدفأة شتاءً، يسمعون أوتار العود التي عزفت ذات يوم على إيقاع قذائف وصواريخ وقعت في دمشق القديمة في أثناء الحرب. لم يكن مقهى زرياب منفصلاً عن الواقع حينها، لكن على الأقل كان مساحةً آمنةً تُشعر البعض بأنه ما زال هناك شيء على ما يرام، وما زال بإمكانك أن تُنزل عن كتفيك هموم الدنيا، وتدخل إلى زرياب وتغلق الباب ثم تصبح في عالم آخر.

يستحي المرء أن يُحجّم هذا المكان بكلمة مقهى، ولكن ليكن ذلك لضرورة التعبير. زرياب هو أحد مقاهي دمشق القديمة الذي فتح أبوابه تقريباً مع بداية الحرب في سوريا. مكان متواضع جداً من حيث الإمكانات البسيطة في تصميمه، لكنه على خلاف ذلك في أجوائه، إلى درجة أن تلك المساحة المتواضعة جداً في دمشق القديمة استطاعت أن تسقط كل المفارقات والمقارنات بين الناس، فيبيع المرء همومه وأحقاده ليشتري قلماً يكتب به على ورقة صغيرة جداً: "يا رب سفّرني... كرمال الله بدي سافر"، من ثم يعلّقها على شجرة الأمنيات الموجودة في زاوية مقهى زرياب مع نهاية كل عام، والتي باتت خزّاناً ممتلئاً بذكريات السوريين.

صورة من داخل مقهى زرياب

باختصار، زرياب هو المقهى الوحيد الذي أفسح المجال للشباب للتعبير عن آرائهم، وقول أمانيهم بصوت مرتفع، في حين كان ذلك الأمر مصادراً في الخارج نتيجة الحرب والخوف.

في زرياب كانت تتوحد الأماني في كانون الأول/يناير، ليقول برنارد، صاحب المقهى بصوت عالٍ: "أمنيتي لهالسنة السلام السلام والمحبة لهالبلد وأهل البلد"؛ والجميع يردد "آمين"، ثم يشربون نخب العام الجديد.

وإن كنتم ممن لا يشربون الخمر، فبإمكانكم أن تشربوا نخب العام الجديد بفنجان قهوة؛ فكما ذكرت بدايةً، في زرياب لا مكان للنمطية أو المفارقات، أنتم هنا ضيوف، والضيوف يُكرّمون.

القصة في برنارد أم في زرياب؟

يروي برنارد، صاحب المقهى، تفاصيل بسيطةً عن افتتاح هذا المكان، فيقول: "من 13 سنة ووقت كنت عم جهز لأفتتح هالمكان، نمت هون عهالصوفاية 'بزرياب' وحكيت مع المكان وقلتلو يا ترى أنا وأنت جاهزين لهالخطوة؟ جاهزين لنكون قد الشي اللي عم نعملو؟!". تُرى متى يصل الإنسان إلى مخاطبة المكان وما الذي يدفعه إلى ذلك؟ ما علينا ولكن بالفعل يمكن وصف ذاك المقهى بأنه مكان من لا مكان له.

أما عن برنارد، فلا يراه الصحافي حسين بغدادي، مجرد صاحب مشروع تجاري، إنما هو أيضاً أخ أستاذ ناصح وشغوف يؤمن دائماً بأن للحلم بقيةً.

زرياب وخاتم الخطوبة

تقول الكاتبة السورية مرح زياد الحصني: "بحكم تنقلي بين عدد من المحافظات السورية بشكل دائم، يمكنني أن أخبرك بأن المقاهي التي تشكل حالةً من الارتباط العاطفي بينها وبين رواد المقهى، تكاد تكون نادرةً نوعاً ما، ومن بين الميزات الكثيرة التي لا تُعدّ لمقهى زرياب أنه نجح في تكوين هذه العلاقة العاطفية الجميلة بينه وبين جيل الشباب من رواده، وهذا من أكثر الأسباب التي تجعل الأشخاص يعودون إليه بشكل دوري، ولا نغفل عن دور المقهى في دعم محاولات جيل الشباب، خاصةً أولئك الذين لم يجدوا مسرحاً لعرض مواهبهم سواء في مجال التمثيل أو الغناء، عدا عن محاولاته الواضحة في رفع الذائقة الفنية لجيل الشباب من خلال قيامه باحتضان حفلات موسيقية بشكل دائم، ويمكننا القول إن مقهى زرياب استطاع أن يحجز لنفسه مكاناً بين الأماكن التي تشكل علامةً فارقةً في معالم مدينة دمشق على مستوى المحافظة السورية على الأقل، وأنا بشكل خاص كان لمقهى زرياب مكان خاص في قلبي، لأنه كان شاهداً على الكثير من اللحظات المفصلية في حياتي، خاصةً ذاك اليوم الذي اخترتُ فيه خاتم خطوبتي على الرجل الذي أُحبّ".

"خدعة إعلانية تعيد توهج زرياب"

لم يكن قرار إغلاق مقهى زرياب سوى خدعة وحركة ذكية أعادته إلى الساحة مع تفجر في المشاعر تجاهه على السوشال ميديا والكثير الكثير من الأرباح. هكذا رأى البعض، وهكذا عبّروا عن رأيهم بالإضافة إلى تصنيفهم كل ما يحدث على أنه دراما.

لطالما خُلق الإنسان بقلب وذاكرة ومشاعر، إذاً يحق له أن يشعر بما يريد ويتعاطف مع ما يريد دون تخطيط مسبق وهذا ما حدث فعلاً مع رواد زرياب الذين عدّوه شيئاً خاصاً بهم، فهم يرون أنه إن لم يكن زرياب يستحق هذه الدراما فمن يستحقها؟

زرياب هو المقهى الوحيد الذي أفسح المجال للشباب للتعبير عن آرائهم، وقول أمانيهم بصوت مرتفع، في حين كان ذلك الأمر مصادراً في الخارج نتيجة الحرب والخوف.

يقول الصحافي علاء الخطيب، عندما يتحدث عن زرياب: "يعني شو بدك إحكيلك عن ذكرياتي هونيك؟ بصراحة كم القصص اللي براسي ويلي صارت بزرياب بتخليني ضيع والله".

إن كمّية العاطفة والدفء التي قد يشعر به الإنسان تجاه مكان ما، يمكن لها أن تكون مخيفةً ولو للحظة، فمع كل الهروب الجمعي للشباب السوري، وبرغم أن شلة الأصدقاء التي كانت مؤلفةً من 15 شاباً أصبحوا اليوم يُعدّون على الأصابع، هناك شعور من الفرح يلفح صدرك عندما تدخل إلى زرياب فتجد شخصاً تعرفه.

"ويا سيدي بدّي إقلبها دراما"؛ لعلاء تعصب شديد لزرياب فمن وجهة نظره أن برنارد قدّم مكاناً في قمة الهدوء والجمال والرقي والألفة والدفء، استطاع من به أن يجعل الناس تتحسر على قرار الإغلاق وهذا شيء عظيم على حد تعبير علاء.

أما عن الحب في زرياب، فمن الطبيعي جداً أن يحب الإنسان على أنغام الشيخ إمام، ويمسك يد شريكه ويقول: "أنا توب عن حبك". مثل هذه الذكرى لا يهم بعدها كيف انتهت القصة، المهم على الأقل بالنسبة لعلاء "أنها ذكرى دافية بيندفع حقها شغلات كتير أهم من المصاري، بيندفع حقها وقت وعمر عم يمشي".

"زرياب... الوجه الأرقى للسوريين"

التفاعل مع قرار إغلاق زرياب ليس مرتبطاً بحساسية الأشخاص والحالة الشعورية التي تربطهم بالمكان، فهناك من هو بعيد عن كل هذه المعمعة أو البروباغندا كما يسميها البعض، ومع ذلك كان الأمر مؤسفاً له، مثله مثل بقية الناس.

كتابات لزبائن مقهى زرياب

يقول الصحافي اللبناني السوري علي حسن: "لست ممن يعيش حالةً شاعريةً تجاه الأماكن، لكن لزرياب خصوصيةً عاليةً فرضها على الجميع، إذ أصبح نقطة علام تستدل العالم بها بقولها: 'حارة زرياب... مقابل زرياب أو دخلة زرياب'، إلى درجة أن أي مشهد يصدر عن زرياب كان له نصيب من تلك الخصوصية، فعندما كانت المعارك مشتعلةً على أطراف دمشق كان زرياب يقيم الحفلات الموسيقية والملتقيات الثقافية بين فنانين وأدباء وكتّاب وصحافيين بالإضافة إلى شجرة الأمنيات التي يمكن لها أن تقسم حياة السوريين إلى مرحلتين مفصليتين؛ أمنيات الحرب وأمنيات ما بعد الحرب.

في زرياب صُوّرت تقارير لوكالات صحافة عالمية، والتُقطت ملايين الصور وخُطّت عشرات آلاف الذكريات، وصُوّرت مشاهد درامية لا تُنسى. عموماً هذا ليس كلاماً عابراً يُكتب في مادة صحافية اليوم ويُنسى غداً، بل سيذكر الجميع أنه ذات يوم لم يكن زرياب مشروعاً تجارياً فقط، إنما كان البصمة التي تعبّر عن الوجه الأرقى للسوريين.

ليس وداعاً... إنما إلى اللقاء "زرياب"

مشهد الوداع بالنسبة لرواد هذا المقهى معقّد نوعاً ما، ويبدو مشابهاً لمشهد أخ يودع أخاه، أو لمشهد حبيبين فرّقتهما الظروف أو أي شي يخطر على بال القارئ شرط أن يكون على مستوى عالٍ من الحزن والألم.

زرياب هو أحد مقاهي دمشق القديمة الذي فتح أبوابه تقريباً مع بداية الحرب في سوريا. مكان متواضع جداً من حيث الإمكانات لكنه استطاع أن يسقط كل المفارقات والمقارنات بين الناس

نعم، حزن وألم، فهنا علّقوا أمانيهم قبل ثلاثة عشر عاماً، ومن زار هذا المقهى في بدايته وكان عمره 20 عاماً أصبح عمره اليوم 33 عاماً، أي في زرياب شبّ مراهقون وكبر شباب وبان في رؤوسهم شعر أبيض يضحكون بذكره ويقولون: "إييه والله كبرنا".

قبل أربع سنوات، كتبت الصحافية زينة شهلا عن شجرة الأمنيات في زرياب، التي امتلأت بأمنيات الشباب السوري في السفر. تُرى لو أن أحداً أخبرهم وأخبر زينة في ذلك اليوم بأنه وبعد أربعة أعوام سيغلق هذا المكان ولن تعود هناك لوحة على الجدار ولا حتى شجرة تتسع لأماني الجميع، ماذا كانوا سيقولون؟

جدار مقهى زرياب

لربما كانت أمنيات الجميع ستكون حينها بأن يبقى زرياب أو أن تتاح لهم فرصة العودة إلى دمشق ولو لساعات قليلة يودعون فيها المكان الذي اتسع ذات مرة لأمانيهم، واحتضن دمعاتهم وضحكاتهم وخيباتهم، وربت على قلوبهم المكسورة وجبر خواطرهم.

عندما طلبت من علاء أن يتحدث إلي عن ذاكرته في زرياب، قال لي في اليوم التالي: "مبارح شفتو لبرنارد وقلتلو خيو في صبية بدا ياني إحكيلا عن زرياب شو المفروض قول؟ ضحكنا وسكّرنا السيرة ودمّعنا بالحفلة. منرفع كاس زرياب، الكافيه الرايق الأليف اللي جمعنا وجمع فينا قصص كتيرة كتير".

لا شك أنه حتى بعد إغلاق زرياب سيسمع كلّ من يمرّ من أمام باب هذا المقهى صوت قهقهاتٍ ودموعٍ، وقصص حبٍّ منسيةً بدأت في هذا المكان الذي يُشبه دمشق، ولم تنتهِ بإغلاقه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard