أن تعيش في دمشق يعني أن تعيش جنباً إلى جنب مع التاريخ: هي من أقدم مدن العالم والتي ما تزال مأهولة بالسكان حتى يومنا هذا، وفق منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونيسكو".
وعندما تعيش في دمشق، سيكون من الطبيعي أن تختار مطعماً عمره مائة عام كي تتناول طعام غدائك، ومن ثم تتحلى بكأس من البوظة المصنوعة على الطريقة التقليدية في أحد محلات سوق الحميدية الأثري، والذي يعود تاريخ تأسيسه إلى نهايات القرن التاسع عشر.
في أحد الأيام كنت مع صديقي في واحد من هذه المطاعم ننتظر وجبتنا، فأحضرها لنا طفل يعمل في المحل. ببعض السؤال عرفنا أن هذا الطفل هو من أحفاد العائلة المالكة للمطعم، وأنه بدأ بالعمل هنا لخدمة الزبائن خلال عطلته الصيفية. قال لنا إنه يكره المدرسة، ويحب كرة القدم.
نظرت إلى وجهه وحركاته، هو يبدو فعلاً كنسخة مصغرة عن والده، لكنه يحمل بعض ملامح جيل الألفية، ككرش صغير غريب بالنسبة لطفل في عمره، وهاتف محمول في جيبه يتفقده كل حين. فكرت: ماذا لو اختار هذا الفتى الصغير طريقاً آخر عندما يكبر؟ كأن يتابع دراسته أو أن يسافر؟ أو حتى أن يصبح لاعب كرة قدم؟ ماذا لو اختار أن يتخلى عن ميراث عائلته؟
"الولد سر أبيه"
عام 1873 سافر محمد صدّيق الخباز من دمشق متجهاً نحو اسطنبول طلباً للرزق. عاش هناك متنقلاً بين المهن، إلى أن استقر به المطاف في محل للشاورما، وهي طبق شرق أوسطي شهير يُحضّر من اللحم أو الدجاج، حيث تعلم صناعتها بكل اتقان.
وبعد ثلاث وثلاثين عاماً، أي في العام 1906، عاد "الصدّيق" إلى دمشق ليفتتح محله الصغير لبيع الشاورما، وكان الأول من نوعه في المدينة، وحمل اسمه حتى اليوم. عاش الرجل بعدها عمراً طويلاً وحافلاً، وتوفي في سبعينيات القرن الماضي عن عمر يناهز المئة وعشرة أعوام.
عام 2019 التقيت بابن حفيده، أيمن الخباز، وتحدثنا عما يجعل هذه المؤسسة، مطعم الصديق، وهو اليوم من أشهر المطاعم في دمشق، قائمة حتى اليوم.
يقول أيمن في حديث لرصيف22: "ليست هناك وصفة سرية للنجاح، فهو يعتمد بشكل أساسي على الكرم والإخلاص. عندما تعطي للعمل حقه يعطيك حقك. ورثنا المهنة عن جد أبينا، حيث كان أبي يرافق جدي في العمل منذ طفولته، ومن ثم أصبحنا نرافق أبي ونراقبه ونتعلم منه طريقة اختيار البضاعة وطريقة إدارة العمل. ما نزال حتى اليوم مخلصين لطريقة جد أبي في صناعة الوجبة وتقديمها".
ويضيف الرجل الذي تفرغ للعمل في المطعم منذ أن كان في سن الخامسة عشر تقريباً: "أحببت المهنة من محبة أبي وجدي لها. كنت أحلم منذ صغري بأن أكبر لأصبح مثلهم. اليوم يعيد ابني الوحيد هذا التاريخ، رغم أنه في المدرسة الآن، إلا أنه يفضل العمل في المطعم. سبحان الله كل واحد بيلحق أبوه"، يقول بلهجة دمشقية وثقة مطلقة.
"وماذا لو قرر ابنك أن يختار لنفسه طريقاً آخر؟" نسأله فيجيب: "أسعى لأن يكمل العمل من بعدي ولأن يحبه مثلي. أحكي له باستمرار عن نجاحات جده وجد جده، وأحضره معي في العطل المدرسية كي يتعلق بالمكان ويحبه. سيعرف عندما يكبر كمية التعب والجهد الذي سيلزمه للبدء من الصفر في أي خيار آخر يتخذه في حياته"، ويبتسم الرجل متابعاً: "أعتقد أن خطتي تسير على ما يرام، فابني يخطط لدخول الجامعة ودراسة إدارة الأعمال كي يتمكن من إدارة المطعم بفاعلية أكبر. هذا العمل لن يستمر إلا إذا حافظنا عليه كعائلة".
"مثلما استلمنا، من واجبنا أن نسلّم"
لم يرغب الحاج موفق بكداش أن يطيل الحديث، إذ يبدو بأنه معتاد على التحدث باقتضاب وحزم.
إنه "الحجي" الأنيق، الذي يأمر وينهي ويدير محله بنظرة دون الحاجة للكثير من الكلام. لقد ورث العمل عن والده، محمد حمدي بكداش، والذي أسس المحل عام 1895 أي قبل حوالي 124 سنة، ليكون اليوم صاحب الكلمة العليا في أقدم وأشهر محل في دمشق لصنع البوظة على الطريقة التقليدية.
يقول الحاج موفق: "أنا أعمل هنا منذ الأربعينيات. عندما كنت طفلاً صغيراً كان عملي في خدمة الزبائن والتجول بين الطاولات كي أحضر الطلبات. مع التقدم في السن، تعددت المهام التي أوكلت إليّ. اليوم آتي إلى المحل ساعتين في الصباح الباكر قبل أن يمتلئ بالزبائن لأشرف على سير العمل. إنها أمانة استلمتها من أبي وسلمتها لأبنائي".
وعند السؤال عن موقف الجيل الجديد من أبنائه وأحفاده من المهنة، أشار الرجل إلى أنه أجبرهم على تعلم المصلحة والعمل بها. "هذا تراث ومن المعيب التفريط به".
ولم يكن من السهل الحديث مع ابن الحاج موفق، وهو رجل أربعيني يعمل محاسباً في المحل. "لا كلمة لأحد هنا بوجود الحجي"، يقول رافضاً الإدلاء بأي جملة أو معلومة أخرى عن عمله.
"طول ما الإدارة مضبوطة الشغل ماشي"
خلف الجامع الأموي الدمشقي مباشرةً من الناحية الشرقية يقبع مقهى النوفرة، منذ حوالي 230 عام، ليكون واحداً من أقدم مقاهي المدينة.
يجلس العم صالح الرباط على طاولته التي يستطيع أن يرى منها المطبخ والعمال، وعلى الجهة الأخرى الطاولات والزبائن. ضحكته لا تفارق وجهه وعيناه الملونتان تضفيان على سحنته طابعاً مميزاً.
يقول الرجل أثناء لقاء معه في المقهى مسترجعاً بعض الذكريات: "أعمل هنا منذ أن كنت في الرابعة من عمري، حيث استلم جدي المقهى عام 1941، وكان اسمه صالح، كاسمي، أما المقهى فكان اسمه "الذهبية" ثم تحول إلى "النوفرة نسبةً لنافورة بنيت فيما بعد قرب المقهى، وكانت المياه تنبثق منها بغزارة، كانت أيام خير".
اليوم، يتناوب على إدارة شؤون المقهى أبناء العم صالح وأبناء أخيه، "أسبوع لأبنائي وأسبوع لأبناء أخي": يشير خلال حديثه.
أحد هؤلاء الأبناء هو أحمد، والذي يجلس في محل صغير مقابل للمقهى، يبيع التحف والشرقيات للمتسوقين والسياح، ويراقب سير العمل في المقهى بالوقت ذاته.
حاول أحمد العمل بعدة مهن ومنها تصليح السيارات، لكنه في نهاية المطاف عاد إلى المقهى، خاصة بعد مرض والده واضطراره للعمل مع أخوته بإدارة المقهى: "بدأت بالمجيء إلى هنا منذ أن كان عمري سبع سنوات، ومع قرب منزلنا من المقهى، نادراً ما أضطر للخروج خارج سور دمشق. أنا تقريباً عالق في هذا المكان"، يضحك محاولاً إخفاء حزن دفين ما.
يشير الرجل إلى كون مقهى النوفرة هو مصدر الدخل الوحيد لكثير من العائلات، "لذلك لا يبدو إغلاقه أو التوقف عن العمل فيه أمراً سهلاً"، ويشرح عن ظروف العمل الصعبة، كاضطرارهم لدفع ضرائب مرتفعة، وعدم تمكنهم من ترميم المقهى الأثري المعرض لمخاطر الانهيار أو التصدع، نتيجة تعقيد الإجراءات المطلوبة لذلك.
واليوم، يحاول أحمد توجيه أولاده لمتابعة دراستهم والبحث عن مستقبلهم بعيداً عن هذا المكان: "لا أحب أن أراهم يفنون أعمارهم بين الطاولات والأراكيل كما فعلت أنا". وعندما سألته إن كان يخاف على ضياع العمل فيما لو تخلى الأبناء عن المتابعة فيه قال: "لا علاقة لصلة القرابة العائلية بنجاح العمل. الموضوع كله مرتبط بالإدارة الصحيحة".
وعندما تعيش في دمشق، سيكون من الطبيعي أن تختار مطعماً عمره مائة عام كي تتناول طعام غدائك، ومن ثم تتحلى بكأس من البوظة المصنوعة على الطريقة التقليدية في أحد محلات سوق الحميدية الأثري، والذي يعود تاريخ تأسيسه إلى نهايات القرن التاسع عشر
من الشائع في سوريا أن تكنى العائلات بنوع المهنة التي يقوم بها أبناؤها، أو التجارة التي يمارسونها، فهناك الحبَّال والعطَّار والزيَّات والقهوجي والصابونجي والحبوباتي والصايغ، وغيرها الكثير من الكنى التي تدل على أن أبناء العائلة بقيوا يمارسون هذا النوع من النشاط التجاري على مدى سنوات طويلة
بعض الأرقام
تشير الإحصائيات إلى أن الشركات العائلية تشكل واحدة من أهم روافد الاقتصاد في جميع أنحاء العالم.
وفي الشرق الأوسط 90% من الشركات هي شركات عائلية، تساهم بنحو 80% من الدخل القومي، وتوظف 70% من حجم العمالة.
بالنسبة إلى سوريا يبدو أن الوضع كان على هذه الحال منذ زمن بعيد، إذ يفتخر التجار والحرفيون السوريون بأنهم من الأعرق في التاريخ، وبأن أعمالهم تعيش أجيالاً وأجيال. من الشائع في سوريا أن تكنى العائلات بنوع المهنة التي يقوم بها أبناؤها، أو التجارة التي يمارسونها، فهناك الحبَّال والعطَّار والزيَّات والقهوجي والصابونجي والحبوباتي والصايغ، وغيرها الكثير من الكنى التي تدل على أن أبناء العائلة بقوا يمارسون هذا النوع من النشاط التجاري على مدى سنوات طويلة من الزمن، حتى صار كنية لهم.
رغم ذلك تشير الدراسات إلى أنه من بين كل 100 مؤسس لعمل عائلي، هناك 30 فقط تستمر أعمالهم بعد وفاتهم، وأن الشركات العائلية التي تستطيع الاستمرار حتى الجيل الرابع والخامس لا تزيد نسبتها عن 3%.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...