شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"الحجاز" في دمشق... ماذا يعني أن يرحل مقهى؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 28 يونيو 202101:25 م
Read in English:

Damascus’ Al-Hijaz Café Is Gone... The End of an Era!

- مقهى الحجاز... هل تعرفه؟

- سمعت عنه

- في ما مضى كان هنا

- أين؟

- هنا...

وأشار بذراعه إلى المكان الخالي الذي بدأت ترتفع فيه أعمدة "نيرفانا". ضجيج يعلوه ضجيج، احتجاج وحزن ثم وداع "للمقهى الشعبي" من دون جنازة، ولا فاتحة على روح ذاكرة الضحايا من روّاد المكان، وهم كثر جداً، ومتنوعون، مختلفون ومتشابهون، هاربون من القصر العدلي، ومنسحبون، مقبلون على الحياة وراحلون. جريمة جديدة أضيفت إلى سابقاتها ارتُكبت بصمت قاتل، وفي وضح النهار. تُنسى بعدها كأنك لم تكن هنا، ولم تعبر في الجوار، ولم تصعد الدرج الصغير، ولم تُلقِ التحية على الناس والرفاق والمارقين، ولم تجلس على الكرسي الأليف تتحدث إلى آخر الزوار من الأصدقاء؛ حسيبة عبد الرحمن، عبد الله فاضل، فاضل الفاضل، عادل محمود، سامي التكوين، محمد سيد رصاص، وفاتح جاموس. ولم تلتفت إلى الوراء لتسترق السمع إلى تاريخ "دمشق ونجد وعمان"، يرويه قطار المحطة المتوقف، وماء السبيل المقطوع، وأعمدة لورانس السبعة.

دلّلت دمشق أبناءها بطريقة جميلة، فاحتفظت على مدى تاريخها بمقاهٍ للمقيمين فيها، والقادمين إليها، عندما كانت شوارعها الرئيسية "بغداد والعابد"، وأسواقها القديمة، وضفاف بردى، تعجّ بالمقاهي الشعبية. في ذاك الوقت، وتحديداً في فترة الستينيات من القرن الماضي، تجاوز دور المقهى الثرثرة، والترفيه، وشرب الشاي، إلى مناقشة هموم العمل والمهن والثقافة والسياسة. فهذا مقهى النجّارين، وذاك مقهى الخبّازين والقمّاحين، وآخر للعمال وبائعي الطيور. وهذه مقاهي "البرازيل"، و"الكمال"، و"هافانا"، و"الروضة"، أُعدت للسياسيين والمثقفين والأدباء. وهذا مقهى "الله كريم" للمتفائلين بـ"بكرا أحلى"، وذلك مقهى "الخرسان" للمترفّعين عن الكلام من الصم والبكم، وذاك مقهى "التايبين" للقلوب الضعيفة، ومقهى "خود عليك" للظرفاء ومحبي الحياة، ومقهى "خبيني" للمتوجّسين من الطربوش العثماني، ومقهى "الديرية" للقادمين من دير الزور، ومقهى "القلمون" للقادمين من القلمون، حتى إذا ما جئت دمشق باحثاً عن أحد معارفك، قصدت مقهى أبناء منطقتك أو مهنتك.

غذّت الحرب الانهيار الحاصل في المجتمع السوري، فتعززت قيم السوق والبزنس على حساب الهوية والذاكرة

غذّت الحرب الانهيار الحاصل في المجتمع السوري، فتعززت قيم السوق والبزنس على حساب الهوية والذاكرة، وعلت كفّة مُحدثي النعمة. أما حالة "الفِرجة" على الخراب المستمر، فقد توطنت، وسادت، ومادت، وخلقت مناخاً تحفيزياً لقناصي الفرص وشركائهم من النافذين لمضاعفة الهدم، كون البلد قد ذهبت مع الريح، والحياة مستمرة بوتيرة أعلى مما يمكن للمرء أن يتحمل، أو يستوعب. والضرائب التي اقتصّتها الحرب، لم تقتصر على أرواح الناس، بل تعدّتها إلى ضخ سحابات من الدخان لم تنقشع إلا وقد ظهرت "أرضُ شام ٍجديدة"، لا مكان فيها للذاكرة العتيقة، ولا مكان فيها لطاولة تأخذك إلى حيث سوريا بلد ملون، فيه "أمة عربية واحدة"، وفيه "تحيا سوريا". حسناً، لقد أنجز كل شيء، لن تشعر بعد الآن بالعار من العري أيها السوري. إن لم تمت بالحرب، تمت بالحياة. تعيش لتنام فحسب، ثم تستيقظ محاولاً تجنب الأسباب كلها التي تدفعك إلى الانتحار. سيأتيك صوت المدافع قائلاً: "بعيدة أنا، لكنني ما زلت موجودة". تصمت بعدها، وتبتسم لذاك الوجه الغريب الذي لن يسعفك الوقت لتألفه، لأن الحفريات قد بدأت، والقائمون على المشروع أعلنوا أن مساحة الدمار على امتداد البلاد قد ضاقت، ولم يبقَ إلا فسحة الحجاز السماوية لاستبدالها بـ"نيرفانا" تجلب لأصحابها رغوة كثيفة، ودخلاً سنوياً جيداً، وهو ما لا تستطيع كراسي الحجاز، ولا طاولاته المتسخة أن توفره.  

إن لم تمت بالحرب، تمت بالحياة. تعيش لتنام فحسب، ثم تستيقظ محاولاً تجنب الأسباب كلها التي تدفعك إلى الانتحار

ذهب حيز الأوكسجين الأخير المتبقي وسط المدينة. ذهب "الستر والغطا" للهاربين من زحف النجوم الخمسة. ذهب "الحجاز" بلا رجعة، وذهبت معه رفاهية الوقت التي كنا نمتلكها لإضاعتها، مطمئنين أن المال القليل الذي نملكه يكفي ويفيض، ولن يشعرنا بالحرج، ولن يدفعنا لنتحسس جيوبنا بإيدٍ مرتجفة عند التسديد. ذهبت الحرية الوافرة، والألوان السياسية. لن تروي بعد الآن نكاتاً بصوت عالٍ ليسمعها مجاوروك من الملاصقين لك، ولن تضحك عليها. لن تتباهى ببساطة "الحجاز" التي هزمت فخامة جنيف وحرارتها التي ذوّبت صقيع "سوتشي"، وضمت إلى طاولتها قبل الهدم بقليل سوريين موالين، ومعارضين، وسجناء سابقين، ومتعبين من الانتظار من دون أن تشهد ولو لمرة واحدة دماً وديّة، أو عراكاً وتسوية، ولا حتى انسحاباً وعودة. فأنت تجلس في حيز صغير لكنه يتسع للعالم.

أي عقل هذا الذي يعمل ويسير بهذا الاتجاه؟

"لم تبقَ فسحة للفقراء في دمشق"، تقول الكاتبة حسيبة عبد الرحمن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard