لم يتح للنساء السفر آنذاك إلا بقصد الزيارات الدينية إلى العتبات المقدسة في العراق أو إلى مكة؛ رحلة منشودة جعلت زوجة الملك الإيراني الشهير، ناصر الدين شاه، تتجشم عناء السفر وتخوضها. زوجها الأول، هو الملك القاجاري الأهم والأشهر، والذي عرف عنه حبّه للنساء والأدب والسفر. سافر إلى أوروبا ثلاث مرات خلال فترة حكمه الأطول في الفترة الملكية القاجارية (1848-1896) وانبهر بحداثتها وفنونها. تعرف هناك إلى آلة التصوير وجلب معه كاميرا، وأصبح مغرماً بالتصوير الفوتوغرافي.
رحلة سكينة سلطان الملقبة بـ"وقار الدولة"، بدأت عام 1899 أي ثلاث سنوات بعد وفاة ناصر الدين شاه (1896) أو اغتياله بالأحرى، على يد ميرزا رضا كِرماني، فصار بعد ذلك يسمّى بـ"الشاه الشهيد". تتذكره وقار الدولة التي يظهر في الرحلة أنها شابة، بهذا اللقب، في كلّ ما تراه عينها جميلاً، فتترك له مكاناً في خيالها، وتتمنى لو كان حاضراً ليستمتع مثلها بالمناظر الزاهية، رغم أنها قد تزوجت من جديد بعد رحيله، وهي، خلال هذه الرحلة، متزوجة من رجل آخر (معتصم المُلك).
تبدأ رحلة الحج التي رافقها فيها أخوها وحشد آخر من قاصدي بيت الله، من طهران، مروراً بالمدن الحدودية غرب إيران، ثم زيارة العتبات المقدسة في العراق، ومن هناك إلى سوريا، ومصر، ثم جدة ومكة والمدينة، لتنتهي بعد ثمانية عشر شهراً بالعودة إلى طهران، وفتح حديث رحلتها إلى نساء الحريم الملكي.
"ولأتحدّثْ عن حمّام حلب؛ ففي الحقيقة لم أرَ حماماً مثله حتى اليوم... رأيت في هذا الحمّام النّاس الطيبين، والنساء الحسناوات، والأطفال الملحاء واللطفاء."
صدر الكتاب في إيران تحت عنوان "خانُم! غداً التّرحال"، بتحقيق رسول جعفريان و كِيانوش كِياني، من قبل دار نشر "أطراف"، وهي دار حديثة وبديعة اهتمّت منذ تأسيسها بكتب أدب الرحلة والكتابة الإبداعية.
لكلّ ما دونته وقار الدولة خلال رحلتها عن المدن والشعوب حلاوته وأهميته كونها من النساء الإيرانيات الأوائل اللاتي كتبن مذكراتهن ورحلاتهن؛ ترى الأماكن والناس لأول مرة، تمدح البعض وتبغض الآخر، وتتميز لغتها ورؤيتها بحلاوة وإيجاز وصدق وبساطة في اللغة، كما أنها لا تخلو من الطرافة والتخييل.
هي لا تستمع كثيراً بالطريق، بل تشكو عسره بين برهات وأخرى، إلا أن ذلك لم يمنعها أن تذكر ما تراه جميلاً سواءً في الطبيعة التي يمرون من بينها وأمامها، أم المدن التي يمكثون بضع ساعات أو أيام فيها، ومن بين هذه المدن أكثر ما أثار اهتمامها ودفق مديحها هي "حلب"؛ المدينة التي ما أن اقتربت قافلتهم منها حتى أخذت تسطر اخضرار الطريق والأرض المعشوشبة بالقرب منها، وتحنّ إلى زوجها الرّاحل وتتمنى لو كان هناك ويشاهد تلك الأزهار.
تشبه سكينة سلطان الطريق المؤدّي إلى حلب وغاباته بغابات "جاجْرود"، المنطقة الخضراء القريبة من طهران، وتستطرد: "يا لها من أعشاب. كلّ الأيام في طرف، واليوم في طرفٍ آخر".
الأزهار والنباتات الخضراء بحريم زوجها الملك الذي تتذكّره بشوق وحنين!: "في الحقيقة هذه الأزهار الملوّنة والمتفتحة بين بعضها بعضاً تشبه حريم الشّاه الشهيد؛ حيث كانت كلّ واحدة من النساء ترتدي ثوباً مختلفاً عن الأخرى، وتتجمّل، ثم يمِسن منتشياتٍ هناك كالطواويس؛ تظهر كل واحدة منهن أنواع التغنّج والدلال بما لم تره عين الدّهر حتى ذلك الحين، ولن ترى. هذه الأزهار تشبه النساء. لعنة الله على قاتل الشاه الشهيد، ومن دمّر تلك العائلة. لا يمكن للإنسان أن ينسى ذلك!".
وحين يقتربون من حلب تلمح سواد المدينة بعد خضرة الطريق: "تلوح حلب من بعيد، بعد هذه الخضرة. وكأن هناك نخيلاً، لكنها ليست كذلك. قال أخي ينبغي أن تكون أشجار الزيتون. وحين سألنا، عرفنا أنه صحيح؛ شجر الزيتون. معمار المدينة يبدو حسناً جدّاً من البعيد. تلوح هضبة عالية أيضاً؛ العمارة فوقها تشبه (دوشان تَبِّه)".
"في الحقيقة هذه الأزهار الملوّنة والمتفتحة تشبه حريم الشّاه الشهيد؛ حيث كانت كلّ واحدة من النساء ترتدي ثوباً مختلفاً عن الأخرى، وتتجمّل، ثم يمِسن منتشياتٍ هناك كالطواويس"
وتتابع: "حلبُ مدينةٌ جيدة جداً. سكّانها نظيفون. وأزقتها ناصعة. عندما وصلنا، جاءت امرأة (حمّامية) وقالت: ألا تأتون إلى الحمام؟ قلنا: سنأتي غداً؛ لأننا كنا سنمكث ليلتين في حلب".
وفي معرض حديثها عن الاستحمام في حلب، ورغم شكاويها السابقة من وضع الحمامات في المدن التي مروا بها، تأخذ بمديح الحمّام في هذه المدينة: "ولأتحدّثْ عن حمّام حلب؛ ففي الحقيقة لم أرَ حماماً مثله حتى اليوم. كلّما وصفتُ وكتبتُ في مديحه سيكون قليلاً؛ فأكتفي فقط بأنني لم أرَ مثله. يعلم العُقلاء أن عيني قد رأت كثيراً من الأشياء، لكن هذا الحمام بالغ الجودة ولا يسعه الوصفُ. رأيت في هذا الحمّام النّاس الطيبين، والنساء الحسناوات، والأطفال الملحاء واللطفاء".
عند مغادرة حلب باتجاه الإسكندرية تنتبه وقار الدولة إلى جودة الحجر هناك، واختلافه عن الحجر الإيراني: "الحجر يتدفّق من الأرض. يحفرون الأرض ويستخرجون الحجر؛ ولذلك تكون مدينة حلب مبنية كلّها بالحجر. ولكن أيّ حجر! لشدّة طهارته وصقله لا تستقرّ حوافر الخيل عليه!".
تترك القافلةُ حلب باتّجاه الإسكندرية، ولم تزل سكينة سلطان تمتدح الطريق ووجود كثير من القرى التي يمرّون بها: "من ميزات هذه الأرض أنها تحتوي على عددٍ كثير من القرى."
"في كلّ مكان كنا نستمتع بمشاهدة الأعشاب والأزهار. في كلّ نصف فرسخ في نصف فرسخ ثمة قرية، لفرط ما تتمتّع هذه المنطقة بالطقس الجميل". هكذا تنهي الملكة الإيرانية حديثها عن حلب، لتواصل رحلتها إلى مكة وفي ذاكرتها نضارةٌ واخضرارٌ وأزهار من تلك المدينة السورية التي لا نذكرها اليوم سوى بكثيرٍ من الأسف والأسى!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...