إلى وقت ليس بالبعيد، كان على الشاعر الغنائي المصري، إذا أراد أن يوقع تنازلاً يمنح به حق استغلال كلمات الأغنية إلى المطرب، أن يذهب إلى أقرب فرع لمصلحة الشهر العقاري ليوقع ذلك التنازل.
في المكتب المزدحم دائماً، يحصل الشاعر على رقم انتظار كغيره، وينتظر دوره بين من جاء ليؤجر شقته أو محله التجاري، أو يبيع سيارته أو دراجته النارية، أو يوّكل محامياً في قضية ميراث. بين كل هذه الإجراءات "الجدية"، يُنادى على الشاعر حين يحين دوره. وأمام الموظف أو الموظفة يفصح عن الطبيعة "الشعرية" لعقد البيع أو التنازل الذي جاء يجريه. لن يتناول منه الموظف كلمات القصيدة ليوقعها بالخاتم الحكومي وينقضي الأمر، بل على الشاعر بعد أن يذكر اسم الأغنية، أن يُملي على الموظف مطلعها، كلمات المذهب والكوبليه الأول على الأقل. وكثيراً ما يبدي الموظف تعليقاً أو اثنين حول كلمات الأغنية، ليست تعليقات رقابية بالطبع، فهذا دور مؤسسات أخرى، لكنها تعليقات انطباعية، أو مازحة: (في فرع مزدحم كنت أوقع تنازلاً عن كلمات أغنيتي "مفيش مانع" -غنتها الفنانة فيروز كراوية- وتعليقا على عبارة تقول "ما دام الأوضة ع الشارع"، سألتني الموظفة ضاحكة: "يعني لو الأوضة داخلي ما ينفعش؟" ربما ظنت أن الأغنية تتحدث عن شروط الشقة والزواج).
لحسن الحظ، قبل عدة سنوات، "انتزعت" جمعية المؤلفين والملحنين قراراً بنقل تلك العملية برمتها من مصلحة الشهر العقاري إلى إدارة الرقابة على المصنفات الفنية. أخيراً، لا مؤجري شقق هنا ولا باعة موتوسكيلات. جميع "العملاء" هنا تنطق سيماهم بطبيعتهم؛ مؤلفون نحيلي الأجساد، شاردون، منكوشو الشعر، بنظارات غليظة، يحملون ملفات بها قصائدهم. صحيح أن نقل الإجراءات إلى المصنفات يقتضي وجود المتنازل إليه على عكس الشهر العقاري، وصحيح أنه يقتضي أولاً الحصول على الموافقة الرقابية (وكانت تلك من قبل عملية منفصلة)، إلا أن تفهّم الموظفين هنا أفضل بحكم جهة عملهم، لا تعليقات ساخرة ولا خلط بين كلمات أغنية وعقد تأجير شقة مفروشة. غير أن تلك "التسهيلات" تمت بعد أن انتهى العصر الذهبي لمؤلفي الأغاني، أي عصر الكاسيت.
في ظل السهولة النسبية لعملية إنتاج الكاسيت، وغزارة الأغاني المطلوبة لـ "تعبئة" كل تلك الألبومات، ازدهر "سوق" كتابة الأغنية، وكان أبرز نجومه – للمفارقة- نقيب الموسيقيين الحالي مصطفى كامل، الذي كتب أشهر أغاني التسعينيات، و"عبأ" ألبومات كاملة بكلماتهتميز ذلك العصر (الذي ذكرتنا به حفلة كاسيت 90+ التي استضافتها جدة مؤخراً) بظاهرة الألبوم السنوي، الذي يغني فيه المطرب – شهيراً كان أو مغموراً- عشر أغان على الأقل.
في ظل السهولة النسبية لعملية إنتاج الكاسيت، وغزارة الأغاني المطلوبة لـ "تعبئة" كل تلك الألبومات، ازدهر "سوق" كتابة الأغنية، وكان أبرز نجومه – للمفارقة، بل للمفارقات- نقيب الموسيقيين الحالي مصطفى كامل، الذي كتب أشهر أغاني التسعينيات، و"عبأ" ألبومات كاملة بكلماته (بصحبة رفيق مشواره الملحن عصام كاريكا)، قبل أن يتوقف كامل عن القناعة بدور المؤلف ويتجه للتلحين والغناء.
لاحقاً تسلم منه الراية مؤلف غنائي أكثر موهبة هو أيمن بهجت قمر، الذي دشن عهده بأغنية نانسي عجرم "آه ونص"، لكن ذلك كان مع بداية عصر آخر هو عصر "السنجل"، أو الأغنية المفردة، التي صار "ينزل" بها المطرب من حين لآخر، بلا موعد معين، لم يعد هناك "ألبوم الصيف" أو "شريط راس السنة"، بل صار ممكنا أن يغيب المطرب طوال الموسم، أو حتى عاماً أو اثنين، ليعود بأغنية وفيديو كليب، ولا يحتاج الأمر لذكاء كبير لندرك أن ذلك أثر سلباً على "سوق" الشاعر الغنائي، وساهم أيضاً في ظهور "فنانين شاملين"، يكتبون كلماتهم ويلحنونها وربما يغنونها أحياناً، ومن أبرزهم اليوم "عزيز الشافعي".
وكأن ما سبق لم يكن كافياً؛ خفت صدى فرع آخر من الأغنية التجارية، هو "أغنية التتر" التي كانت عنصراً أساسياً في أي عمل تلفزيوني، فصارت اليوم عنصراً نادراً رغم غزارة الإنتاج التلفزيوني في عصر المنصات. ومن نافلة القول، أن ذلك أثر سلباً - فيما أثر- على الاستعانة بالقصيدة الشعريةوكأن ما سبق لم يكن كافياً؛ خفت صدى فرع آخر من الأغنية التجارية، هو "أغنية التتر" التي كانت عنصراً أساسياً في أي عمل تلفزيوني، فصارت اليوم عنصراً نادراً رغم غزارة الإنتاج التلفزيوني في عصر المنصات. ومن نافلة القول، أن ذلك أثر سلباً - فيما أثر- على الاستعانة بالقصيدة الشعرية، التي ربما لم تكن مكتوبة خصيصا لتُغَنى، أو على الأغنيات المكتوبة في شكل قصيدة، كما هي أغنيات أحمد فؤاد نجم، التي أثار الفنان محمد الحلو الجدل بتغيير بعض كلماتها، حين حوّر عبارة "عمار يا اسكندرية" من تتر مسلسل "زيزينيا" إلى "عمار يا سعودية" لتحية جمهور مدينة جدة في "حفل الكاسيت".
أغلب الظن أن حفلة الحلو لو كانت في المغرب العربي على سبيل المثال، ولو أنه قال "عمار يا مغربية" مثلاً، لم يكن لينفجر جدل أو غضب، وكلاهما يشير – في حالة السعودية/ الخليج – إلى حساسية تتخطى مجرد مسألة الملكية الفكرية لكلمات الأغنية، حساسية ترجع – باختصار – إلى اختلال ميزان العلاقات السياسية والاقتصادية الآنية بين المشرق والمغرب، إلا أن حق المؤلف في كلمات أغنيته (وهو حق لا يلغيه حتى التنازل التجاري) يبقى قائماً، خصوصاً أن المفارقة جعلت "مجاملة" الحلو على حساب كلمات الفاجومي لا غيره، وهو الشاعر الذي طالما تحمل أن "تُلصق" به كلمات ثورية لم يكتبها (وصف ذلك بالقول: بيستخبوا فيا)، لكنه بالتأكيد لم يكن ليقبل أن تلصق به أي "مجاملة".
"عادي، فعلتها أم كلثوم من قبل"، هكذا يقولون، قاصدين تغيير كوكب الشرق لكلمات أحمد رامي في "يا ليلة العيد"، لتصبح "يعيش (الملك) فاروق ويتهنى" بدلا من "تعيش يا نيل وتتهنى"، وذلك حين حضر الملك حفلتها في النادي الأهلي سنة 1944، وأنعم عليها بلقب "صاحبة العصمة". نعم فعلتها أم كلثوم، ونعم كان ذلك زمناً آخر (أو يفترض أنه كذلك)، ولكن هذا لا يعني أن تصرفها كان محقاً، ولا يصير مقبولاً سواء أقدمت عليه كوكب الشرق، أو حتى أحمد عدوية وهو يضيف أهل كل منطقة يزورها إلى نهاية أغنية "يا بنت السطان" (يا عيني ع السويسية، وكمان الطنطاوية.. إلخ). فللأغنية مؤلف هو وحده يملكها، سواء كان الفاجومي، أو رامي، أو حسن أبو عتمان مؤلف أشهر أغنيات عدوية، سواء كان حياً أو راحلاً، وسواء كتب التنازل في الشهر العقاري أو في إدارة المصنفات الفنية، غير أن المغني، فوق مسرحه، كثيراً ما ينسى- تماماً كما الجمهور نفسه ينسى- أن تلك الكلمات، لها صاحب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع