"لقد ظللت أفكر في الأفكار التي أقدّمها في هذا الكتاب على مدى أربعين عاماً"؛ كانت تلك كلمات هارلود كوشنر التي بدأ بها تحفته "الرب راعي"، إذا سلّمنا بصدق تصوّر الكاتب الأمريكي جون شتاينبك الذي يقول بوضوح: "جمهورك شخص واحد فقط، أنت تنمّيه بالتساؤل والتجريب، لسنوات تطّور نقطة قوتك بالبحث مرةً بعد الأخرى في العوامل التي تساعد على ذلك بكل السبل ومختلف الوسائل"، وربما هذا تحديداً ما يمكن فهمه في اختيار السعودية هذا العام لثيمة الكوميديا من أجل دراستها والحديث عنها أكثر من أي شيء آخر.
مهرجان أفلام السعودية هو مهرجان محلي تماماً لا يشبه مهرجان البحر الأحمر الأكثر انتشاراً وشهرةً وعالميةً بالطبع. هو مهرجان محدود أو محدد للسعودية، ومصنوع تحديداً من أجل شباب السينما السعودي، للتركيز على نقاط القوة والضعف للصناعة الناشئة حديثاً في المملكة من أجل أفضل تطوير ممكن، لا يشغله أي شيء سوى توفير الوقت والجهد من أجل شباب سعودي يمكنه تحقيق تلك الريادة المنتظرة.
هو مهرجان محدود أو محدد للسعودية، ومصنوع تحديداً من أجل شباب السينما السعودي، للتركيز على نقاط القوة والضعف للصناعة الناشئة حديثاً في المملكة من أجل أفضل تطوير ممكن
لم تكن الكوميديا وحدها في المشهد بالرغم من سيطرتها عليه؛ اختار المهرجان الكاتب السينمائي أمين صالح للكتابة عن المخرج العالمي جان لوك غودار، الذي رحل قبل شهور قليلة، ليقدّم كتاباً عن مسيرته وحياته تحت عنوان "جان لوك جودار ما قبل الاسم... ما قبل اللغة"، كما اختار الأكاديمي والشاعر المقيم في إسبانيا عبد الهادي السعدون، المخرج بيدرو ألمودوفار، ليكون عنوان كتابه المتخصص في أعمال هذا المخرج الإسباني، الذي أثّرت أفلامه على صناعة السينما العالمية، وجاء عنوان الكتاب "سينما بيدرو ألمودوفار"، وقدّم السينمائي والكاتب الأكاديمي المغربي حمادي كيروم، كتاباً متميزاً في صناعة السينما تحت عنوان فن فهم السينما بين اللغة والنظرية. السينما حاضرة في الكتابات بالرغم من كل شيء.
تحت عنوان "سينما الكوميديا"، خرج المهرجان في دورته التاسعة (4-11أيار/مايو)، يحمل في ذلك نظرياً إلى جانب الأفلام، أكثر من 17 كتاباً بين مؤلف أصلي أو مترجم، تناول بعضها الثيمة، وبعضها الآخر مجال الصناعة السينمائية، ودراسة متخصصة تتناول الاحتياجات والرغبات لدى رواد السينما السعودية، ومنهم الناقد أمير العمري بكتاب بعنوان "وودي آلن ضحك وفلسفة"، وكتاب للناقد السينمائي عصام زكريا بعنوان "السينما السعودية قراءة نقدية تاريخية"، و"قطار الكوميديا" للكاتب السينمائي محمد رضا، و"ضحكات إيطالية: تاريخ وفن الكوميديا الإيطالية"، ترجمة رشيد عرفان وغيرهم. الجميع يتحدثون عن الكوميديا بشكل جاد يدرك أهميتها وقوة إنتاجها ومدى انتشارها.
الكوميديا في هيئة جادة
جميع تلك الكتابات كانت بمثابة دراسات أكاديمية تتساءل حول الكوميديا ومن خلالها، وما يبدو أنه تساؤل عالمي من خلال نماذج غير عربية أو سعودية، يصبح مجرد مجاز للاستخدامات الداخلية التي تحاول السعودية التفكير فيها لتطوّر المنتج البصري الكوميدي الذي يسيطر على المشهد يوماً بعد الآخر في أفلامها ومن خلال فهم السينما ذاتها، فهم لغتها ونظريتها ووضعها محلياً في ما يمكن أن يعبّر عنها. إلى جانب معمل إنتاج للعمل وورش كتابة ونقاش جميعها تخدم إنتاجاً آخر يستفيد من هذا الخطاب الكوميدي الجديد.
افتتح المهرجان دورته الاستثنائية بسبب موضوعها، بفيلم الرسوم المتحركة الكوميدي "سليق"، وتلك أول مرة يفتتح مهرجان عربي فيلم تحريك عن حياة سيدة اسمها هاجر تعيش وحيدةً ويتساقط منها سليق الأرز لعدم تحكّمها فيه، وتحاول أن تعتمد على نفسها. بطلة تتحسّس خطاها لتعتمد على نفسها تماماً مثل دولتها، الفيلم الأول لمخرجته، الفتاة التي تفتح السعودية أمامها مثل سعوديات أخريات المساحة للتجريب، تجريبي، متحرر تماماً، إلى جانب كل ذلك يدعم صناعة الرسوم المتحركة التي تتطور في السعودية بنماذج أصبحت أكثر شهرةً مثلما تفعل شخصيات مسامير مثلاً التي أصبح يعرفها الجميع خارج السعودية أكثر من داخلها.
عُرضت في المهرجان في ما بعد أفلام روائية طويلة مثل فيلم "أغنية الغراب" للمخرج محمد السلمان، وفيلم "سطار" للمخرج عبد الله العراك، وفيلم الخيال العلمي "عبد" للمخرج منصور أسد، وفيلم "طريق الوادي" من إخراج خالد فهد، كأفلام يتطور من خلالها سعي الصنّاع السعوديين إلى إنتاج كوميديا تخصهم في أفضل شكل يمكن أن تخرج فيه الكوميديا بصرياً وكتابياً. "سطار"، على سبيل المثال، حقق أرقاماً قياسيةً مع عرضه في دور السينما للجمهور العام، وجاء قبل "الهامور" و"خلاط+" اللذين حصدا أرقاماً كبيرةً لم تحقَّق من قبل لفيلم سعودي.
ثمة شيء شديد النباهة في اختيار الكوميديا عنواناً للدورة، من أجل تنمية وإظهار تلك القوة التي باتت رائدةً يوماً بعد يوم، ويمكن الاعتماد على أصحابها لإنتاج أفلام تنافس عالمياً من دون مبالغة.
إلى جانب هذه الأفلام التي كانت كبيرة التكلفة، جاءت تجارب أخرى يمكن ذكرها في أثناء عرض نتائج المهرجان، لكنها كانت تتشارك في ما بينها في تطوير لغة الكوميديا السعودي، نقطة القوة الأكبر التي تعتمد عليها الآن أكثر من أي وقتٍ مضى.
تنمّي تلك التجارب فرص السوق المحلي للإنتاج والتنافس والفهم الأقصى لنقاط القوة والضعف والتمسك بالرغم من كل ذلك بالنماذج الكوميدية التي يمكنها تحقيق الانتشار أكثر من غيرها، تماماً كما تعبّر عن حرية نسبياً في الموضوعات وطريقة معالجتها وسخريتها من كل شيء حولها.
ماذا تفعل الكوميديا؟ تسخر من الأشياء والأفعال علناً وتتسبّب في تطوير المجتمع أكثر من أي شيء آخر، فقط إذا سمحت الرقابة بذلك. ثمة حرية وتجريب يتحققان ويمكن البناء عليهما هنا والآن، يحرقان المراحل ويقفزان بالسعودية بعيداً في أفق رحب يكاد يضيق في مناطق عربية أخرى بسبب الصراعات فيها. تستغل السعودية الفرصة جيداً لتقتنص الريادة تحديداً بالكوميديا التي تنتشر أكثر وتصل أسرع وتقدم المجتمع في ثوب جديد مبشر.
تفاصيل فرعية للدورة العامرة بالأفلام
تنافس في المهرجان 52 فيلماً سينمائياً على جوائز المسابقات المختلفة، فيما تم اختيار 78 فيلماً للعرض، بالإضافة إلى 24 عرضاً موازياً، واستقبلت إدارة المهرجان 631 مشاركةً على الموقع الإلكتروني الخاص بالمهرجان، منذ إعلانها فتح باب الترشيح للأعمال السينمائية المشاركة في الدورة.
تنوعت الأعمال المسجّلة في الموقع، بين أعمال مشاركة في مسابقات عروض الأفلام، وأعمال مشاركة في مسابقة السيناريو غير المنفّذ، وتوزعت الأعمال المرشّحة للمنافسة في مسابقات المهرجان، بين: سبعة أعمال لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة، هي "أغنية الغراب" للمخرج محمد السلمان، و"المكان المهجور" للمخرجة جيجي حزيمة، و"عبد" للمخرج منصور أسد، و"طريق الوادي" للمخرج خالد فهد، و"بين الرمال" للمخرج محمد العطاوي، و"آخر السعاة" للمخرج سعد الصباغ، وأخيراً "رجل الخشب" للمخرج قتيبة الجنابي.
وشارك 28 عملاً في مسابقة الأفلام القصيرة، ستصبح متاحةً على الإنترنت للمشاهدة قريباً، وهي: "شريط فيديو تبدل" للمخرجة مها الساعاتي، "هل تسمع الجن في النخيل؟" للمخرج عبد المحسن آل بن علي، وفيلم "في حذائي" للمخرج لؤي التتان، "الترياق" للمخرج حسن سعيد، "شارع 105" للمخرج عبد الرحمن الجندل، "قصة شرطي" للمخرج داود شعيل، "يد أمي" للمخرجة كاردينيا هيمن حمة أمين، "قهوة" للمخرجة رشا الشريف، "سليق" للمخرجة أفنان باويان، الذي اختارته اللجنة ليفتتح الدورة، "وحشة السماء" للمخرجة مريم خياط، "جناحا زرقاء اليمامة" للمخرج عبدالعزيز آل سلطان، "دعاء أمل" للمخرج حمد الحمادي، "كبريت" للمخرجة سلمى مراد، "حوافر" للمخرج حمد عبد الله علي، "يا حظي فيك" للمخرجة نورا أبو شوشة، "يلا يلا بينا" للمخرج محمد حماد، "آخر حلم" للمخرجة ملاك مناحي، "تيه الحمام" للمخرج جان نبي البلوشي، "لا تروح بعيد" للمخرجة مريم خالد طيبة، "مكان في الزمان" للمخرج نواف الجناحي، "المدرسة القديمة" للمخرج عبد الله الخميس القادم من عالم تلفاز11 الكوميدي المبشر، "زبرجد" للمخرج حسين المطلق، "كورة" للمخرج زياد الزهراني، "كبش الفداء" للمخرج طلحة بن عبدالرحمن، "الاستشراف" للمخرج ماجد السيهاتي، "حجل" للمخرج لؤي الدفاعي، "عزيمة عشاء" للمخرج فيصل بوحشي.
كل تلك الأعمال التجريبية المبشرة لواقع سعودي مبشر، إلى جانب فيلم "شدة ممتدة" للمخرج سلطان ربيع، الذي حقق معادلةً مربكةً للمشاهد العادي، يمكن الوقوف عندها لفهم مدى تطور السينما السعودية.
"شدة ممتدة" المذهل
يبدو فيلم "شدّة ممتدة" طليعياً ومعبّراً عن كل ما سبق. يومان فقط كانا كافيين لتصويره كمغامرة شباب واعد ومتهور، وبتكلفة زهيدة بالرغم من الخيال الذي يحمله في الأساس، وهو من كتابة وإخراج سلطان ربيع، ومن إنتاج محمد الزبيدي. الفيلم مقامرة خطرة ربحت كل شيء.
ثمة حرية وتجريب يتحققان ويمكن البناء عليهما هنا والآن، يحرقان المراحل ويقفزان بالسعودية بعيداً في أفق رحب يكاد يضيق في مناطق عربية أخرى بسبب الصراعات فيها.تستغل السعودية الفرصة جيداً لتقتنص الريادة تحديداً بالكوميديا
يحكي الفيلم القصير قصة شاب سعودي يبدو متمرداً، يبدأ من لحظة ليلية الجميع فيها نائمون، بينما هو لا يزال في طريقه إلى البيت. يفتح باب البيت، وتتحول رغبته العميقة في النوم في أي مكان ممكن إلى مأساة متكررة بنفور الأب من عودته المتأخرة، وطلبات الأم الصباحية، ومساعدة الأخت الأصغر، وزحام الطريق وغيرها.
حرب البطل هنا هي مساحة للراحة، للكسل، والتمرد، للسخرية من طلبات الجميع، وطموحهم، وحماستهم تجاه الحياة، في مقابل "رحرحة" شاب تبدو أزمته/شدّته كلها في عدم وجود مكان هادئ في أي مكان في العالم للنوم.
موسيقى لا تفارق الفيلم، ولغة بصرية واعدة، من دون بهلوانية، وكوميديا يحكمها الموقف، ذكية في التقاط شخصية يمكن الضحك من خلالها لا عليها، لا تستهزئ بأي شيء بينما تسخر من روتينية حياة الآخرين، وبسيطة ونافذة. شاب في مواجهة مجتمع كامل، ببراءة طفل يريد أن ينام، لا صراع من جانبه في مقابل صراع الجميع ضد الجميع. هو فقط رجل يريد أن ينام، والجميع في صراع من حوله. ينتج ضحكاً ذكياً، ناضجاً، يمكن أن يصبح أصحابه أولاد النكتة الجدد.
ثمة شيء شديد النباهة في اختيار الكوميديا عنواناً للدورة، من أجل تنمية وإظهار تلك القوة التي باتت رائدةً يوماً بعد يوم، ويمكن الاعتماد على أصحابها لإنتاج أفلام تنافس عالمياً من دون مبالغة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.