في عدد لا بأس به من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات المصرية، تحتل منصة القضاء نقطة ذروة الأحداث، وكثيراً ما تكون هي مخرج حل عقدة الدراما، فهي السلطة الأكثر مهابة وقدسية بين مؤسسات الدولة بشعارها المهيب: ميزان العدالة المتزن على سيف يفصل بين الحق والباطل، وشعارها "العدل أساس الملك". حضورها في السينما والدراما المصرية ربما يكون كثيفاً، لكن ثمة مشاهد منها يمكن أن ننظر إليها باعتبارها "أيقونية"، مثل المشهد الشهير لمرافعة المحامي مصطفى خلف، الذي أدى دوره أحمد زكي فيلم "ضد الحكومة " بصرخته الخالدة: "كلنا فاسدون.. لا أستثني أحدا حتى بالصمت العاجز" في المرافعة الختامية بالفيلم، والتي تنتهي بالمحامي/ البطل يصيح باكياً: "أغيثونا... أغيثونا".
كثيراً ما يستعاد هذا المشهد على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال فيديو يجتزئ لقطات المرافعة بالفيلم مقترناً بتعليق لا يخرج مضمونه عن: "المشهد التاريخي لأحمد زكي في ضد الحكومة"، كما يكفي أن يكتب المرء الجملة الشهيرة ليحظى بلايكات وإعجابات مضمونة مسبقاً، ورغم أن تلك "المرافعة" في الظاهر تضع صاحبها ضمن جوقة الفاسدين، إلا أنها بطريقة مفهومة ضمناً؛ تعد تطهُّرية، ترفع صاحبها عن مستوى الفساد العام، بل يمكن أن نقول إنها طريقة منافقة نوعاً، لا تحمل حلولاً من أي نوع، إنها فقط ترفع اليد عن المشكلة، فلا يعود صاحبها جزءاً منها بمجرد الإشارة إلى وجودها، ورغم أنها لا تضمن حقاً أن يكون هذا الشخص غير فاسد، لكن أليس التصفيق كافيا؟
رغم أن تلك "المرافعة" في الظاهر تضع صاحبها ضمن جوقة الفاسدين، إلا أنها بطريقة مفهومة ضمناً؛ تعد تطهُّرية، ترفع صاحبها عن مستوى الفساد العام، بل يمكن أن نقول إنها طريقة منافقة نوعاً، لا تحمل حلولاً من أي نوع
هنا منصة القضاء غير ممسوسة، مهابة، هي الملاذ وربما مانحة الخلاص، حيث تتوجه إليها الصرخة المطالبة بالعدالة التي هي فوق الجميع، تتعالى المنصة على المشهد العام لتنصف الحق على الباطل والخير على الشر، وتميز بصرامة عقلانية بناء على الأدلة البريء من المجرم، رغم أن مرافعة مصطفى خلف التي تميزت بالبكاء والأداء الميلودرامي ترغب في الأساس إلى تجاوز الحجب الجافة للعقلانية إلى مخاطبة قلب تلك العدالة وعاطفتها الصماء، إلا أنها في الأساس تعبر عن وعي صاحبها المهزوم واليائس، إذ هو في صرخته الكئيبة المتباكية، ينزع نصراً هشاً مؤقتاً. لكنه أيضا قد يكون نصرا أخيرا لا يخبئ وراءه إلا الهزيمة المدوية، فالإيمان بقدسية منصة القضاء، وأنها قد تكون ملجأه الأخير، قد يكمن فيه الفخ.
في بلادنا صرنا نعرف أن القضاء الذي أطلق عشرات، وربما مئات الأحكام العشوائية والجائرة ضد أبرياء قد يكون أحياناً جزءاً من السلطة غير المترفعة عن قانون "كلنا فاسدون"، إلا من حيث ادعاؤها التطهر الذي صورها به فيلم " ضد الحكومة"، حيث تتضافر سلطة الشرطة مع النيابة مع أعلى درجات التقاضي لصالح السلطة السياسية التي صارت تتحكم في كل شيء، في تماهي مخيف.
المشكلة الأخرى الواضحة في تلك الصرخة المنافقة" "كلنا فاسدون"، أنها جملة غير عادلة، قيلت في قاعة " العدالة" إذ تفقد التمييز الضروري للقضاء بين البريء والمجرم، وتساوي الجميع مع الفسدة الحقيقين.
المشكلة الأخرى الواضحة في تلك الصرخة المنافقة" "كلنا فاسدون"، أنها جملة غير عادلة، قيلت في قاعة " العدالة" إذ تفقد التمييز الضروري للقضاء بين البريء والمجرم، وتساوي الجميع مع الفسدة الحقيقين
حسن سبانخ: صاحب الوعي المقاوم
في المقابل هناك مشهدان أيقونيان لعبهما عادل إمام أحدهما في مسرحيته الشهيرة "شاهد مشافش حاجة" والثاني في فيلم "الأفوكاتو" للراحل رأفت الميهي، الذي كتب وأخرج أفلاماً ظاهرها العبث وباطنها تشريح دقيق للعبث الأكبر الذي تسبح فيه مصر.
في المشهدين المعنيين، ظهرت منصة القضاء بشكل مغاير تماماً: منزوعة المهابة، قضاتها وممثلي العدالة هم جزء لا يتجزأ من المشهد الساخر، الأول هو مشهد المحكمة الشهير في مسرحية "شاهد ما شفش حاجة" والثاني مشاهد منصة القضاء في فيلم " الأفوكاتو" وأبرزها هذا الحوار الذي لا ينسى:
"من منا لا يتعامل بالعملة الصعبة؟ أني أريد أن أقول يا سيادة الرئيـس: من في هذه القاعـة لا يتعامل بالدولار؟! القضية أيها السادة تحتاج إلى ضمير أكثر من حاجتها إلى قانون، تحتاج إلى روح العدالة أكثر من حاجتها لتفسيرات محكمة النقض… سيادتك عندك ثلاجة 16 قدماً؟
= أيوه!
- جبت الدولارات بتاعتها منين؟
= من الزمالك.
- وحضرتك؟
× من العجوزة.
- وسيادتك؟
# ألفت كتاب في الكويت و دفعولي ثمنه هناك.
- وهربت من الضرايب! وهكذا يأتي السؤال أيها السادة:
إذا كان رب الدار بالدف ضاربا فلماذا لا يرقص أهل البيت؟ موكلي كان يرقص... وليس هنالك قانون أيها السادة يمنع الرقص. هل هنالك قانون يا حضرات المستشارين يمنع الرقص؟
هنا منصة القضاء ليست فقط جزءاً من مشهد ساخر، بل هي ضالعة في الفساد الذي يتعين عليها أن تقضي ضد مرتكبيه. وهو ما يدركه المحامي حسن سبانخ، فيتمكن على طريقة ديوجين فيلسوف المدرسة الكلبية، من قلب الوضع، لتصير منصة القضاء نفسها موضوع المحاكمة.
هنا منصة القضاء ليست فقط جزءاً من مشهد ساخر، بل هي ضالعة في الفساد الذي يتعين عليها أن تقضي ضد مرتكبيه. وهو ما يدركه المحامي حسن سبانخ، فيتمكن على طريقة ديوجين فيلسوف المدرسة الكلبية، من قلب الوضع، لتصير منصة القضاء نفسها موضوع المحاكمة
هنا وعي يقاوم، لا وعي مقاومة، وعي منتصر منذ البداية، وعلى عكس مصطفى خلف، الذي يرفع نفسه عبر الصرخة المنافقة "كلنا فاسدون"، لا يعبأ حسن سبانخ بهذا التمييز، إنه منخرط فيه، لكنه أيضا ليس جزءاً منه، ترفعه عنه يأتي من فهمه العميق لفكرة العدم، يقول سبانخ في الجملة الحوارية الشهيرة: "المجتمعات المتخلفة يا عبد الجبار متعرفش حاجة اسمها العلم وأي محاولة لتغيير حركتها بقوانين علمية تعتبر محاولة غير علمية في حد ذاتها".
يقول الفيلسوف بيتر سلوتردايك في كتابه نقد العقل الكلبي أو الساخر: "والحال أن الكلبي، يبتسم بكآبة وازدراء، من أعلى سلطته ومن فقده لأوهامه، إنه يقهقه بلا حرج حتى إن صفوة القوم يهزون رؤوسهم. ذلك أن قهقهته تصدر من الأحشاء، وأن لها قاعاً حيوانياً يتجلى بلا كبح. أن يضحك بهذه الشاكلة، تلك الضحكة الكاملة التي تحرر من التوتر، وتضرب صفحاً عن الأوهام وضروب التكلف".
لماذا "سبانخ"؟
الآن، فقد التنويري روح النكتة، أصبح متشنجاً كأنه في مرافعة جادة دائمة وأبدية أمام منصة قضاء يرتجى منها العدالة، لكن ما أن ننزع عن تلك المرافعة غطاء الميلودراما الرخيصة والبكَّاءة، حتى يتكشف ضعفها وتهافتها.
حتى إن صفة التنويري في حد ذاتها صارت نكتة، فذلك الذي بدأ حياته بالتهكم على قوى الجهل والظلام والوعي الزائف، أصبحت حججه ونقده أضعف مما ينتقده، وبالتالي لم يعد تهكمه يثير الضحك ضد ما ينتقده، بل صارت النكتة ترتد إليه هو نفسه، لهذا لم يعد يملك إلا الصراخ والتشنج، والانفصال عن روح العالم. يعيش داخل ما يمكن تسميته "معرفة حزينة" ومزاج في خدر اكتئابي.
بينما حسن سبانخ، تلك الشخصية الفريدة في تاريخ السينما، بكلبيتها التي لا مثيل لها فيما أنتجته السينما المصرية وربما العالمية، تتمكن دوماً من قلب هذا العالم، إنها داخله ومنفصلة عنه في الوقت ذاته، تفهم عوار القانون من البداية ولا تأمل في شيء، إنه يملك بحسب سلوتردايك ما يمكن تسميته بالوعي الزائف المستنير.
ما يميز روح سبانخ ليس النكتة وليس السخرية، بل ذلك التهكم الشديد الجدية ضد الأوهام. لذا، هو دائماً في حركة وفي فعل، ويرى بصفاء لأن عينيه غير مغرورقتين بالدموع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع