شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هذا المنذر لیس فیلسوفاً... و

هذا المنذر لیس فیلسوفاً... و"الشاي ليس بطيئاً"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن وحرية التعبير

السبت 2 سبتمبر 202311:46 ص

كأيّ شاعرٍ آخر ممّن يكتبون مثل تلك القصائد لكي يجعلوا من حيواتنا ممكنة إلى هذا الحدّ الذي نُصدّقهم فيه، فنحاول جاهدين الإحاطة بهم لكنّهم سرعان ما ينفلتون مُتملّصين من أيّة محاولة لاحتوائهم. هل كان الشاعر مُعلّماً دون أن يدري أو يقصد ذلك؟! أم أنّه لا بدّ أنّ أحداً قد افترى على منذر مصري فوجد نفسه في الصباح التالي قد تحوّل إلى شاعر؟

بين الرسّامين

يُسمح لي أن أقف وأتكلّم

عن أيّ شيء

باعتباري شاعراً

وبين الشعراء

لا يُسمح لي

إلّا أن أجلس وأنصت

باعتباري رسّاماً

كنتُ أعتقد دائماً أنّه لا ينبغي للشاعر أن يُؤكّد خطأ الفلاسفة التقليديّ، بل عليه أن يبدأ من الجانب الآخر الذي ينفيه، وهذا المنذر لا يبدو لنا فيلسوفاً. إنّه ببساطة يُتقن مُمارسة نفسه في قصائده بواقعيّةٍ شديدة. وهو بالطّبع لا يعزف على أيّ وترٍ ما دون التأكّد مُسبقاً من وضعيّته كعازف وقدرته/المكان والزمان اللذين يعزف فيهما/ وقبل كلّ شيء، إن لم يكن هناك مقصد دقيق ونبيل إلى هذا الحدّ الذي يتطلّب منّا هذه المُمارسة، فلا داعي للمجازفةِ أصلاً، وربّما كان الصمت أفضل.

كنتُ أعتقد دائماً أنّه لا ينبغي للشاعر أن يُؤكّد خطأ الفلاسفة التقليديّ، بل عليه أن يبدأ من الجانب الآخر الذي ينفيه، وهذا المنذر لا يبدو لنا فيلسوفاً. إنّه ببساطة يُتقن مُمارسة نفسه في قصائده بواقعيّةٍ شديدة

وما نجده في هذه القصائد هو ذلك الانفتاح الكيانيّ بأفضل مستوياته الواقعيّة، حيث لا إقامة إلاّ في اللحظة الهاربة دائماً، والتي تتحطّم وتُولد في البشر والأشياء... وهذا المكان... الطرف الآخر في المعادلة والأكثر صرامة، قد يكون شاغلنا الأساسي في السرد: عدتُ ووجدتُكَ نائماً/بكامل زينتكَ ما عدا الحذاء/على الكنبة العلويّة في غرفة الاستقبال/فماذا تريدُ أشدّ من هذا/وضوحاً!/خاصّة وأنّكَ أضأتَ/مصابيح الشرفة والسقف والجدران/ولم تطفأ التلفاز/ورغم كلّ هذا الوضوح/وقفتُ طويلاً/أنظرُ إليك مُتسائلاً/ماذا تفعل؟

منذر لا يدع لعبة تقنيّة ما، ومُعترفٌ بها كأداة حادّة على الوجهين، دون أن يُمرّرها لنا بدقّةٍ مُتوخّياً منها هدفاً ما... وهو لا يفتعلها لأنّها بالنسبة له حكمةً لا بدّ منها، كأن يردّ على نفسه مثلاً بكلماته نفسها، مُبدّلاً بعض مواضعها، ضارباً بعضها ببعض، مُستخدماً كلّ السُبل الممكنة لإبقاء الّلعبة مفتوحة:

لا يستطيعون أن تُحبّهم

إلّا بشرط

أن يستسلموا لك

بلا شرط.

وفي موقع آخر من قصيدة أخرى: إنّه يتظاهر/بأنّه يتظاهر/ بأنّه يهتمّ بها/هو لا يكتب عنها/على الورق/هو يرتمي عليها/على الورق.

ما نجده في هذه القصائد هو ذلك الانفتاح الكيانيّ بأفضل مستوياته الواقعيّة، حيث لا إقامة إلاّ في اللحظة الهاربة دائماً، والتي تتحطّم وتُولد في البشر والأشياء.

إنّه مفتون بالفكرة، بدقّتها السيكولوجيّة البحتة، ضمن مفردات الحياة المُعاشة، الأكثر وضوحاً وتمثّلاً... لا يستبطن تاريخاً، ولا يُؤدلج ضرورة ميتافيزيقيّة مُعيّنة كما يفعل بعضهم، بل هناك هذا الإلحاح المستمرّ على معالجة الأشياء ومعناها من الدّاخل، وذلك كلّه لا يتبدّى إلّا ضمن نطاق العاطفة الشخصيّة المُحالةِ بقسوة إلى جانبها المعرفي.. وكأنّ قدراً آخر يترصّدها:

في سهولة كشفهِ مُتوارياً/ليحسب الآخرون أنّه هكذا/ جرياً على حالهِ/كحديقةٍ خلفيّةٍ/شُغل عنها أصحابها زمناً/فتكدّست فيها أكوامٌ من خردةٍ/سكّان الطوابق العليا/تخلّلتها أعشابٌ بريّة/لا أحد يدري/من أين جاءت بذورها/مُتّخذاً الوحدة/ مظهراً ثابتاً للرّوح/كان كلّ ما يفعله/ينتظر أحداً...

إنّ ذلك الجَدل والتعارض اللغويّ المقصود منه خلق أكبر طاقة مُمكنة من الدلالة المحمولة على وجهين، هو السّائد في الكثير من قصائد هذه المجموعة، وإلى درجة الهوس أحياناً، وكأنّه بذلك لا يرغب بأن يردّ المعنى المُحقّق على ذاته كي يُنتج معنىً آخر فحسب بل ليؤكّد أيضاً تلك المتعة الخاصّة، وذلك بضربِ مُتناقضات أو مُتوازيات لغويّة بعضها ببعض، وكأنّ الغاية النهائيّة من ذلك كلّه هي قتل المعنى: كنتُ أكتب بقلم ذي رأس أحمر/كلمات زرقاء/وبقلم ذي رأس أسود/كلمات بيضاء/كانت أقوالي هي/أفعالي/كنتُ رجل أقوال.

وفي موقع آخر من القصيدة ذاتها: كان صمتي مفتوحاً/وكلامي مُغلقاً/كنتُ أستطيع أن أقول/كلّ شيء/بكلمة/وأقول لا شيء/بكتاب.

وأيضاً: كرّستُ حياتي/أبحثُ عن شيء/أكرّسُ له/حياتي.

وكما أنّ هناك ثمّة قصّة قصيرة مُكتملة في كلّ قصيدة من قصائد هذه المجموعة، تُوجد أيضاً امرأة ما في القصّة، والشاعر لا يُموضع امرأة مُعيّنة في كفّة ميزان راجحة، وهو لا يرغب أصلاً بأن يُسمّيها أو يُجسّدها، إنّه يجمعهنّ جميعهنّ في سلّةٍ واحدة كمن يقطف العنب... كما أنّه لا يخشى أيضاً من أنّ يجد سلّته تلك، في نهاية المطاف مجرّد سلّة مثقوبة.

والمرأة في قصائده هذه تتبدّل وتختلف، تختفي وتعود، لتظهر أخيراً بثوبها القديم مُتجاوزةً واقعيّتها المُحقّقة، ورقة التوت التي لن تسقط أبداً: هو امرأة ما أحتاجه/ تراني بغير وجهي/ وتناديني بغير اسمي/لا يُعيقني في الطريق إليها/أيّة ذكرى/أنا الباحث عن المعنى/ في حجرةٍ مُغلقة/ادخل وأخرج منها/لا من باب/ ولا من نافذة/الاكتشاف هو/لذّتها/في الظلمة حيث تتعرّى/كأنّه/الفجر/الأوّل.

إنّ السّرد القصصي في القصيدة، المنقول تماماً من شفويّة مقصودة كخامةٍ أساسيّة، إن لم يُحقّق شرطه بأن يجعل من القصيدة قابلةٍ للتصديق، إلى هذا الحدّ الذي تتطابق معه "أنواتنا" المعرفيّة _ الجماليّة، مع مرجعيّة الشاعر وقدرته على البوح بهذا الإسناد القوي لكلّ ما من شأنه أن يجعل الفكرة مُضاءةً إلى هذا الحدّ، وبكلّ تفاصيلها الإيحائيّة، بكلّ ادّعاءاتها المُحقّقة، ونواقصها غير المُعلنة، فهذا السّرد لن يجد جسداً ما يرتديه في قصيدةٍ حديثة أصبحت اليوم هي البداية الارتجاعيّة لكلّ ما يُمكن النظر إليه بعين خاصّة إلى تراث مُحقّق من جانب (كما يفعل أدونيس)، ومن جانبٍ آخر تلك البداية (القفزة) المُتمثّلة بالماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، وما يُمكن النفاذ إليه من مرجعيّات أخرى هي قيد التجريب (كما يفعل منذر وآخرون...).

بالطّبع ليس من الضروري أن يكون الشاعر مُدركاً لأبعاد تجربتهِ إلى هذا الحدّ (من وعيه النقديّ) الذي يُمكن معه أن تتعثّر قصيدته نفسها، فقد يكون بذلك كمن يُمارس كتابةً أخرى بطريقةٍ شعريّة، بل ربّما عليه أن يكون مُدركها الناقص، الواعي الكامل لنقصانها، وأقصد بالضبط مُرتكبها العاطفيّ، وهي القصيدة، تلك الحركة الدّائمة، التي ينبغي تحطيمها دائماً وبناءها من جديد، لا الاستكانة لها وتحنيطها.

منذر لا يدع لعبة تقنيّة ما، ومُعترفٌ بها كأداة حادّة على الوجهين، دون أن يُمرّرها لنا بدقّةٍ مُتوخّياً منها هدفاً ما... وهو لا يفتعلها لأنّها بالنسبة له حكمةً لا بدّ منها، كأن يردّ على نفسه مثلاً بكلماته نفسها

أكثر ما يلفت الانتباه في قصيدة منذر تلك هو تلك الدّقة المُحكمة في السّرد... وفي الوقت الذي تكون فيه لحظته الانفعاليّة مُمكنة إلى أقصى حدّ، يكون ذلك الانفراج العاطفيّ ناتجاً حسابيّاً مُمكناً كأيّة مسألة رياضيّة أخرى في غير عالم القصيدة! وأعتقد أنّ ما يحدث في قصيدةٍ من هذا النوع، هو أقسى أنواع التراجيديا... مع كلّ امتلائها المُفترض بادّعاءات مثل ادّعاءات منذر مصري! ويبدو ذلك واضحاً في قصيدة (سأحبّكَ وأنا تراب).

كنتُ أعتقد ولا أزال أن أيّة كتابة إبداعيّة هي في أحد أهمّ ركائزها كتابة صداميّة من نوعٍ ما... سواء أكانت تقصد ذلك أم لا، لكن في الغالب هي ترغب في ذلك دائماً، ولا أُريد هنا أن أستخدم مفردات علم النفس بقدر ما أُريد أن أُشخّص تجربة ما... هي بعمومها تنطبق على أيّة تجارب إبداعيّة أخرى، تلك الأنا الشعريّة الخاضعة (لتموضعها الكيانيّ) بين(الأنوات) الأخرى، التي لا تقلّ عنها رغبةً في المكابدة... وهي بذلك لا تنشد أيّة إقامة في الماضي ولا بالمستقبل، بل دائماً ذلك الحضور الأعمق والأكثر هشاشة، تلك الإقامة ما قبل الموت، وما كان حياةً تمضي إلى نهايتها وبرؤيةٍ وجوديّة صرفة، ولذلك فهذه الأنا لها انتقاماتها الجميلة على أكمل وجه، وإن كان لها أن تُحبّ أيضاً فهي الأكثر براعةُ أحياناً من أن تُعلن حبّها علانيّة، ومثال ذلك قصيدة (سأحبّك وأنا تراب)، إلى من يهدي منذر قصيدته تلك؟

وبالمقابل تلك القصائد المصحوبة بإهداءات من نوعٍ ما، وما يتضمنّه بعضها من محاولات قتل صريحة، تبعاً لوعي الأنا فيها أو وهمها المُفترض، ما أرغب في النفاذ إليه: هنا في قصائد منذر، قد لا تجد أيّة حادثة انفصال تتحقّق بمعناها الكامل، أو كأن تنشد معناها الخاصّ ضمن احتفائيّتها الخاصّة البريئة تماماً من اقتراح أيّ قارئ على الرغم من تحقّقه الكامل (أنسي الحاج في أجمل قصائده)، لكن استناداً إلى الإرث الشفويّ في قصيدة النثر العربيّة الحديثة، قد لا تجد أيّة بدايات مُكتملة إلى هذا الحدّ، الذي وصلت معه هذه القصيدة مع منذر مصري، حكواتي بارع خرج لنا كي يخبرنا ويقترح لنا كشاهد حقيقي في نصّه.



إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image