لم يكنّ آلة صماء للجنس؛ نساء وجوارٍ في التاريخ العربي والإسلامي وظفن طاقات معرفية ومعلومات دينية وقيماً أخلاقية لخدمة رغبتهن في العلاقة الجنسية مع الرجل، إما قبولاً أو رفضاً، وسجلتها مرويات عدة في المصادر الأدبية التراثية.
هذه المرويات كشفت عن لون من الحجاج أو المناقشات التي دارت في لحظات حميمية بين امرأة ورجل، وجهت دفة العلاقة لصالح رغبة المرأة، بعدما أتاحت بعضُ الفرص أوقاتاً للجواري يظهرن فيها براعتهن بشكل خاص في مثل هذا اللون، إذ كانت الجواري المهتمات بالفنون والمعارف الأدبية والدينية والتاريخية يفزن بالتقدير.
ولأن الجواري المثقفات كنّ مفضلات عند ذي الشأن والمسؤولية أو عند مالكيهن، فقد طلب أبو محمد الحسن المهلبي (وزير معز الدولة البويهي) من أبي الفرج الأصفهاني (ت356هـ) تأليف كتاب يجمع فيه ما قيل عن الجواري الشاعرات المغنيات، فألف الأصفهاني كتابه المعروف "الإماء الشواعر".
الجانب الأكثر إشراقاً في المرويات هو إظهار مدى براعة المرأة في الحجاج وإدارة حوار مُقنع أو جدال أو نقاش مؤثر، والانتصار فيه، وحصار لغة العنف أو الاغتصاب أو التهديد التي يلجأ إليها الطرف الآخر، كما أنها تظهر قدراتهن على توظيف المعارف الدينية والأخلاقية في تحقيق أهدافهن في لحظات خاصة تدور وقائعها في غرف النوم.
الحوار في وجه التهديد أو الإغراء... للرفض
ملاذاً وانتصاراً للمرأة، هكذا تتحول العلوم والمعارف. والقدرة على إدارة نقاش تتسم بالمصارحة والوضوح، وتجنب الوقوع تحت التأثير الديني، بحسب ما تعرضه روايات التراث.
في كتابه "الحيوان"، روى أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255 هـ) موقفاً لعيسى بن مروان، أحد الكتبة، الذي اختلى بامرأة، غير محدد درجة علاقتها بعيسى، فهو بحسب الرواية "إما أن يكون صادق ظريفة، وإما أن يكون تزوجها"، ويبدو أنه كان اللقاء الأول لهما في الجنس، لكن الجاحظ قبل أن يصل لهذه المرحلة وصف مميزات عيسى بن مروان بأنه شديد الغزل، يحفظ أشعار العشاق وأحاديثهم، وخاصة التي تفهم معانيها النساء، يشرب النبيذ ويغني أصواتاً، وكلها صفات مفضلة عند النساء، أما عيوبه فتتمثل في صفة شكلية: "كان أقبح خلق الله تعالى أنفاً، حتى كان أقبح من الأخنس، ومن الأفطس، والأجدع"، وفقاً لما ذكره الجاحظ.
وظفت نساء وجوارٍ في التاريخ العربي والإسلامي طاقات معرفية ومعلومات دينية وقيماً أخلاقية لخدمة رغبتهن في العلاقة الجنسية مع الرجل، إما قبولاً أو رفضاً، وسجلتها مرويات عدة في المصادر الأدبية التراثية
بالموازنة بين مميزاته وعيوبه، هل ترفض له صديقته طلب ممارسة الجنس معها؟ تقول الرواية إنه "لما خلا معها في بيت، وأرادها على ما يريد الرجل من المرأة، امتنعت، فوهب لها، ومنَّاها، وأظهر تعشقها، وأغراها بكل حيلة"، حينئذ صمدت المرأة أمام الإغراء والعطايا والحيل، ثم دار بينهما نقاش، فسألها: "خبّريني، ما الذي يمنعك؟ قالت: قبح أنفك وهو يستقبل عيني وقت الحاجة، فلو كان أنفك في قفاك لكان أهون عليّ! قال لها: جُعلت فداكِ، الذي بأنفي ليس هو خلقة وإنّما هو ضربة ضربتها في سبيل الله تعالى". وهنا حاول عيسى ممارسة نوع من التأثير على حسها الديني، لكنها كانت أذكى وأنضج، "فقالت واستغربت ضحكاً: أنا ما أُبالي، في سبيل الله كانت أو في سبيل الشيطان. إنّما بي قبحه. فخذ ثوابك على هذه الضربة من الله أما أنا فلا".
وبالرغم من امتلاك عيسى بن مروان مواهب عدة مؤثرة في النساء، فإن صديقته أصرت على رفض طلبه، مفندة طريقته للعب على حسها الديني، لأن جزاء الجهاد في سبيل الله يأخذه من الله وليس منها هي، وبهذا تكون أجهزت على آخر حيلة لديه.
كانت تتحول العلوم والمعارف إلى ملجأ للمرأة. والقدرة على إدارة نقاش تتسم بالمصارحة والوضوح، وتجنب الوقوع تحت التأثير الديني، بحسب ما تعرضه روايات التراث.
مروية أخرى، رواها أبو حيان التوحيدي (414هـ) في الليلة الثامنة والثلاثين من ليالي كتابه "الإمتاع والمؤانسة"، أن أحد الأشرار واسمه أسود الزبد "اشترى جارية كانت في النّخّاسين عند الموصليّ بألف دينار، وكانت حسناء جميلة، فلمّا حصلت عنده حاول منها حاجته، فامتنعت عليه".
وفقاً للرواية، فإن الجارية ترفض طلب ممارسة الجنس من مالكها، بالرغم من أنه كان يُظهر "شرّه ولعنته، وسفكه للدم، وهتكه للحرمة، وركوبه للفاحشة، وتمرده على ربِّه القادر، ومالكه القاهر". مثل هذه الصفات جديرة بإلجام الجارية وصمتها، لكن العكس هو ما حدث، فقد رفضت وعللت رفضها بأنها تكرهه، ويبدو أن الأسباب التي ذكرها التوحيدي مندهشاً من قدرة الجارية على الرفض أمامها، هي الأسباب نفسها الداعية للرفض.
ولم يشأ أسود الزبد، أن يُظهر الشرّ هذه المرة، بل لجأ إلى الحوار والنقاش، فسأل الجارية: "ما تكرهين مني؟ قالت: أكرهك كما أنت. فقال لها: فما تحبين؟ قالت: أن تبيعني. قال لها: أو خير من ذلك أعتقك وأهب لك ألف دينار؟ قالت: نعم. فأعتقها وأعطاها ألف دينار".
ليس التوحيدي وحده مَن أُعجب بهذا التصرف، ووصفه بأنه "مما ظهر من حُسن خلقه"، بل "عجب الناس من نفسه وهمّته وسماحته، ومن صبره على كلامها، وترك مكافأتها على كراهتها، فلو قتلها ما كان أتى ما ليس من فعله في مثلها".
مع إصرار المرأة ووضوحها، وإيجازها في التعبير عن كراهية سلوكه "أكرهك كما أنت"، حققت انتصاراً تمثل في الإفلات من علاقة غير مرغوبة ومؤذية لها على المستوى النفسي، وفي حصولها على الحرية مع مكافأة.
توظيف المعارف والجدل... للقبول
مسجلاً لأسرار الحياة الخاصة، رصد ابن عبدربه الأندلسي (328هـ) في كتابه "العقد الفريد" روايتين من داخل غرف نوم الخليفة العباسي هارون الرشيد (193هـ) تبرزان ثقافة الجواري داخل القصر، ومدى البراعة في توظيف هذه الثقافة في أوقات اللهو والاستمتاع.
الرواية الأولى، تُظهر إصرار جاريتين على العلاقة الجنسية مع الخليفة، كل واحدة تحاول الانتصار لنفسها، ودعم رأيها بنوع من العلوم الدينية وهو رواية الحديث النبوي، وتفيد الرواية أن هارون الرشيد جلس ذات ليلة بين جاريتين، واحدة مدنية والثانية كوفية، "فجعلت الكوفية تغمز يديه، والمدنية تغمز رجليه، فجعلت المدنية ترتفع إلى فخذيه، حتى ضربت بيدها إلى متاعه، وحركته حتى أنعظ"، أي انتصب، وهكذا نجحت الجارية المدنية في إثارة عضو أمير المؤمنين.
ولأنها ليست وحدها، فقد لاحت ملامح معركة في الأفق، وكان من الأفضل اقتسام العضو بينهما، وفضَّلت الكوفية فتح حجاج ومناقشة لإثبات حقها، وإقامة الدليل على الخصم، فقالت: "نحن شركاؤك في البضاعة، وأراك قد انفردت دوننا برأس المال وحدك، فأنيلي منه". وبرغم أن الكوفية لجأت لقاعدة تجارية بسيطة، وهي أن الاشتراك في البضاعة يوجب الاشتراك في المال، فإن المدنية راوغت وهربت لإثبات حقها بطريقة دينية، كي تقطع الطريق على الكوفية، "فقالت: حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: 'من أحيا أرضاً مواتاً فهي له ولعقبه'". ويبدو أن الكوفية وجدت متسعاً في إثبات حقها برواية الحديث النبوي، لذا تشجعت وقامت فدفعت المدنية وأخذت قضيب الرشيد بيديها مستحوذة عليه قائلة: "حدثنا الأعمش عن خيثمة عن ابن مسعود أنه قال: 'الصيد لمن صاده لا لمن أثاره'".
الرواية الثانية، نقلاً عن إسحاق ابن أشهر، أن مغنياً عباسياً وهو إبراهيم الموصلي، تقول إن هارون الرشيد لاعب جاريته وقامرها، بحيث يكون الفائز هو الأمير وله الطاعة، فقمرته، الجارية أي كسبته في اللعبة، وبحسب ابن عبدربه "قال لها: تمني! قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره، ثم لاعبها فقمرته. فقال لها: تمني! فقالت: المعاودة. فغشيها، ثم لاعبته فقمرته. فقالت: قم لميعادك! فقال: لا أقدر على ذلك! قالت: فاكتب لي به عليك كتاباً آخذ به متى شئت! قال: ذلك لك. فدعت بدواة وقرطاساً. ثم كتبت: هذا كتاب فلانة على مولاها أمير المؤمنين: إن لي عليك قرضاً آخذك به متى شئت وأنى شئت من ليل أو نهار".
هذه الوثيقة أو الكتاب الذي طالبت به لحفظ حقها هو استثمار ناجح لمعرفتها بآية الدين في القرآن الكريم، "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" (البقرة:282)، وعليه انصاع الخليفة لها.
أبطال بعض القصص والمرويات استخدموا المغالطات في الحجاج لاختراق المفاهيم السائدة في الذهن، ولإثبات الحق في فعل ما، ورغم سذاجة بعضها ووضوح تهافته فإنها تحيل إلى الطرافة
أما الأكثر دهشة في القصة، والأكثر استثماراً لكتابة الدين، هو ما فعلته الوصيفة التي حضرت هذا اللقاء بينهما، ونصحت الجارية صاحبة الدين "تزيدي في الكتاب"، أي أضيفي له جملة من باب الزيادة، "فإنك لا تأمنين الحدثان"، أي تعاقب الأيام، ربما يأتي زمن أنت فيه غير موجودة ويظل لك الدين ولم تأخذيه، وعليه نصحتها بكتابة الجملة التالية: "ومن قام بهذا الذكر حق قيامه فهو وليُّ ما فيه". والوصيفة هي التي شهدت هذا الموقف. إذاً فهي ولي الدين بعدها؛ الأمر الذي أدهش هارون الرشيد، "فضحك الرشيد حتى استلقى على فراشه، واستظرفها، وأمر بأن تنزل مقصورة، وأن يجرى عليها رزق سنيّ، وشُغف بها، ويقال: إنها مراجل أم المأمون"، وفقاً لما ذكره ابن عبد ربه في "العقد الفريد".
وهكذا فإن مراجل، وعن طريق معارفها وفطنتها استطاعت أن تحصل على أكثر من المطالبة بدين جارية أخرى، بل استحوذت على قلبه، فأنجبت منه أحد أبرز خلفاء الدولة العباسية هو الخليفة المأمون (218هـ).
مغالطات أبطال القصص
أبطال بعض القصص والمرويات استخدموا المغالطات في الحجاج لاختراق المفاهيم السائدة في الذهن، ولإثبات الحق في فعل ما، وبرغم سذاجة بعضها ووضوح تهافته، فإنها تحيل إلى الطرافة، والإعلان عن رغبة الشخص في شيء ما؛ مثلاً، أراد أحدهم أن يحذر من الغناء ذات مرة، فاستند على مغالطة كونها من تجربة ذاتية، وهي أن الغناء باب لارتكاب فاحشة الزنا، ويمثل هذا ما رواه الجاحظ في كتابه "الحيوان: "قال الحطيئة لفتيان من بني قريع، وقد كانوا ربّما جلسوا بقرب خيمته، فتغنّى بعضهم غناء الرّكبان، فقال: يا بني قريع! إيّاي والغناء؛ فإنّه داعية الزّنا".
في رواية للتوحيدي، أسف رجل وامرأة بينهما علاقة جنسية من كلام الناس عليهما، واعتبراه نوعاً من الظلم والاتهام، وتعقب حياة الناس الخاصة، وبحسب التوحيدي فإنه سمع "أبا بكر ابن الأمام المقرئ البغدادي يقول: كان عندنا ببغداد رجل يهوى إمرأة جارٍ له، فقال لها ليلة وقد علاها يحشوها: علمت يا فلانة أن الناس يتهمونني بك. قالت: وما عليك أن يأثموا وتؤجر. فقال لها وهو يغوص فيها: الله عزّ وجل حسيب الظالم".
أما ابن القارح (424هـ تقريباً) فقد سجَّل استياء بطل رواية ساقها في رسالته إلى الشاعر أبي العلاء المعري (449هـ) الذي رد عليها برسالته الشهيرة "رسالة الغفران". وبحسب ابن القارح، فإنه "دفع رجلٌ إليّ صديقٌ جاريةً أودعها عنده وذهب في سفره، فقال (أي المؤتمَن) بعد أيام لمن يأنس به ويسكن إليه: يا أخي ذهبت أمانات الناس؛ أودعني صديق لي جاريةً في حسابه أنها بكر، جربتها فإذا هي ثيب". وأحزنه أن تضيع الأمانة، وتتفلت أخلاق الناس، فلا يأمنه الصديق ويحذره أن الجارية بكر، ويتضح من التجريب أنها مجرد ثيب، ملقياً باللوم على عدم كذب صديقه، متجاهلاً خيانة الأمانة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت