شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
إذا وصلتْ إليك فتناولْها بيمينِك يا مولاي... رسائل النساء في تراث العرب

إذا وصلتْ إليك فتناولْها بيمينِك يا مولاي... رسائل النساء في تراث العرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 28 نوفمبر 202204:18 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.


لم تكن الكتابة عن "رسائل النساء" في الأدب العربي مهمةً سهلة ًفي نهاية المطاف، فالتراث العربي بأسره جُمع خلال العهدين الأموي والعباسي على أيدي رجال آمنوا بعقلية مجتمعهم التي حكمت على المرأة بالوأد المعنوي وضرورة اعتزال الحياة العامة في بيوت الحريم، على حد وصف الدكتورة عائشة عبدالرحمن في كتابها "الشاعرة العربية المعاصرة".

"لا يُعقل أن يكون للسيدة عائشة -وهي وارثة البلاغة النبوية- هذه الخُطب المحدودة القليلة التي وردت إلينا"، حسبما ذكر دكتور محمد بدر معبدي في مقدمة كتابه "أدب النساء في الجاهلية والإسلام". يقول معبدي: "لا أدري لماذا غفل علماء الأدب والشعر عن تسجيل تراث المرأة الأدبي والشعري العربي، وقصّر المفكرون والمؤرخون في إبرازه إلى حيز الوجود لنسد فراغاً كبيراً في المكتبة الأدبية؟".

ادّعاء عائشة عبدالرحمن يُمكننا أن ندلّل عليه باستحضار سيرةَ الشفاء بنت عبدالله العدوية، والتي وُصفت بأنها كانت "كاتبة في الجاهلية"، وبهذا فإنها كانت تتقن فناً نادراً عند العرب قبل الإسلام، وكانت إحدى القِلة الذي كانوا يتقنون الكتابة والقراءة، وهو ما يستدعي اهتماماً خاصاً بسيرة تلك المرأة الفريدة. برغم ذلك، فإن ما حدث هو العكس الصحيح، فلم تصلنا أيً من كتاباتها في العصر الجاهلي، ولم نعرف عنها شيئاً هاماً إلا ثقة الخليفة عمر بن الخطاب برأيها وكفاءتها، فعيّنها مُحتسبة على أسواق المدينة.

"لا يُعقل أن يكون للسيدة عائشة -وهي وارثة البلاغة النبوية- هذه الخُطب المحدودة القليلة التي وردت إلينا"

أكثر ما نجا من تلك الفلترة هو الأشعار التي أسهبت كُتبُ التاريخ في جمعها وتبويبها، فكان طبيعياً أن تتسرّب إليها إسهاماتُ النساء ولو لِماماً. هذا التسرُّب لم ينعكس على باقي آداب المرأة للأسف، فـ"أدب الرسائل النسائية" لم تحتفِ به كُتب التاريخ كما يجب، وبالتالي فإن ما وصلنا منها كان أقلّ القليل.

رسائل الفِتنة: حين قُتل عثمان

فجّر مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان الأوضاع السياسية في دولة الخلافة، وأجبر الجميع على التعاطي معها وفي مقدمتهم النساء اللائي ابتعدن عنها كثيراً طيلة العهد النبوي وخلافتيْ أبي بكر وعُمر. ظهر ذلك في وسيلة التواصل الوحيدة وقتها، وهي الرسائل، فحفظت لنا كُتبُ التاريخ نماذجَ عديدةً من رسائل سياسية تبادلتها خيرةُ نساء ذلك العصر مع نخبة الرجال، خلال لحظات الفتنة الجماعية التي عصفت بعقول الجميع بعد مقتل عثمان.

عندما اشتدَّ الحصار على عثمان ابن عفان بعثت الصحابية ليلى بنت عميس رسالة إلى قائدَيْ الاعتصام محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، قالت فيها: "إن المصباح يأكل نفسه ويضيء للناس، فلا تأثما في أمرٍ تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما، فإن هذا الأمر الذي تحاولون اليوم لغيركم غدا، فاتقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم".

لم يستجب الرجلان لنصيحة ليلى، واستمرَّا في تمردهما الذي انتهى بمقتل الخليفة الثالث. وهو ما استدعى تدخلاً من أشهَر نساء ذلك العصر، وهي عائشة زوجة النبي، والتي لعبت دوراً كبيراً في معارضة الإمام علي، وهي المعارضة التي وصلت ذروتها باندلاع معركة الجمل بين الطرفين المتخاصمين.

"لا ندري لماذا غفل علماء الأدب والشعر عن تسجيل تراث المرأة الأدبي والشعري العربي، وقصّر المفكرون والمؤرخون في إبرازه إلى حيز الوجود لنسد فراغاً كبيراً في المكتبة الأدبية"

على ضفاف تلك المعركة بعثت عائشة رسالةً إلى أهل الكوفة تشتكي فيها من أهل البصرة ومن تعرّضِ بعضهم لها بالقتل، قالت عائشة: "مكثنا فيها (أي البصرة) 26 ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده فأبوا واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها فخانوا وغدروا، وحافوا وحشروا، فجمع الله عزّ وجل لعثمان ثأره، فأقادهم فلم يفلت إلا رجل، وأردأنا الله منهم".

كذلك راسلتْ عائشةُ الصحابيَ زيد بن صوحان تُطالبه بالانضمام إليها في معركتها، قائلة: "نحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر. فإن أتاك كتابي هذا فانصرْنا على أمرنا هذا، فإن لم تفعل فثبّط الناس عن علي بن أبي طالب، وكُن مكانك حتى يأتيك أمري والسلام". هذه الدعوة رفضها زيد بعنفٍ وردَّ على عائشة بشيءٍ من الغلظة قائلاً "أمرك عندنا غير مطاع، وكتابك غير مجاب، والسلام".

نفس المباحثات الرساليّة عنيفة الطابع جرت مع الأشتر النخعي، أحد أصحاب علي، والذي سيُحارب معه لاحقاً في معركة الجمل، حيث بارَز عبدالله بن الزبير وكاد أن يقتله. بادر الأشتر بمراسلة عائشة طالباً منها الكفَّ عن الثورة على علي والالتزام بحُكمه.

حفظت لنا كُتب التاريخ نماذج عديدة من رسائل سياسية تبادلتها خيرةُ النساء مع نخبة الرجال، خلال لحظات الفتنة الجماعية التي عصفت بعقول الجميع بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان

ردّت عائشة على الأشتر برسالة زاعقة قالت فيها: "إنك أول العرب شبَّ الفتنة ودعا إلى الفرقة وخالف الأئمة، وسعى في قتل الخليفة المظلوم، وقد جاءني كتابُك وفهمت ما فيه، وسكيفينك الله وكلَّ من أصبح مماثلاً لك في ضلالك وغيِّك إن شاء الله".

ومن موقعها حرصت عائشة على تزويد حليفتها حفصة بنت الخطاب ببعض معلومات تطورات الأوضاع، فأرسلت لها تقول: "أما بعد، فإني أخبرك أن علياً قد نزل ذا قار، وأقام بها مرعوباً خائفاً لما بلغه من عُدّتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشقر إن تقدّم نُحر وإن تأخر عُقر".

وخلافاً لما هو شائع فإن عائشة لم تكن زوجة النبي الوحيدة التي تماهت مع تلك الأحداث الفارقة، فحاولت أمُّ سلمة زوجة النبي رأبَ هذا الصدع، وبعثت برقيةٍ جزيلةِ الألفاظِ متينةِ البنيانِ إلى عائشة تطالبها فيها بالعودة إلى المدينة، قالت في جزءٍ منها: "أقسم بالله لو سرتُ مسيرك هذا ثم قيل لي يا أم سلمة ادخُلي الفردوس لاستحييتُ أن ألقى محمداً هاتكةً حجاباً قد ضربه عليّ. اجعلي بيتَك حصنَكِ ووقاعةَ السترِ قبرَكِ حتى تلقيه وأنتِ على تلك". وهو ما ردّت عليه عائشة بشكلٍ غليظ قالت فيه: "ما أنا بعميّة عن رأيك، وليس مسيري على ما تظنين، ولنِعمَ المسير مسير فزعتْ فيه إليّ فئتانِ متناحرتان من المسلمين، فإن أقعد ففي غير حرج، وإن أمضِ فإلى ما لا بدّ من الازدياد منه".

لم تكتفِ أمُّ سلمة بذلك، وإنما بعثت رسالةَ تأييد إلى الإمام علي قالت له فيها: "لولا ما نهانا الله عنه من الخروج، وأمرنا به من لزوم البيوت، لم أدَع الخروج إليك والنصرة لك، ولكني باعثةٌ نحوك ابني -عدل نفسي- عمر بن أبي سلمة، فاستوصِ به يا أمير المؤمنين خيراً".

وبعد انقضاء الخلاف بين علي وعائشة، وبزوغ خلافٍ آخرَ أشدّ مع معاوية، انقسمت بسببه الأمة إلى شطرين، وهو ما كان يُسبّب صراعاً سنويًاً على إمارة الحج في مكة، قرّرت أمّ سلمة وأمّ حبيبة التدخلَ ومحاولة إصلاح ذات البين. راسلت أم حبيبة أخاها معاوية، فأطاعها، كما راسلت أمُّ سلمة علياً فهمَّ أن يُطيعها، لكن الحسن ابنه نهاه عن ذلك، فاستمرَّ الخلاف حتى مات علي.

وكانت من أوائل مَن راسلن معاوية وشجّعنه على التحرك والثأر للخليفة عثمان هي زوجته نائلة بنت الفرافصة بعدما بعثت له قميص عثمان المخضّب بالدماء مصحوباً برسالة بليغة قالت في جزءٍ منها: "أثخَنوه وبه حياة وهم يريدون قطْع رأسه ليذهبوا به، فألقيتُ نفسي عليه، فوطئنا وطئاً شديداً وعُرينا من ثيابنا، وحُرمة أمير المؤمنين أعظم. ولقد أرسلتُ إليكم بثوبه وعليه دمُه، وإنه والله لئن كان إثم مَن قتله لم يسلم من خذله، فإنا نشتكي ما مسّنا إلى الله، ونستنصر وليِّه وصالح عباده".

عهد العباسيين: زمن السياسة والتفاح

لم تخلُ التداعيات السياسية من تأثير على رسائل النساء في ذلك العصر أيضاً، فعقب انفضاض أكبر حربٍ أهلية في صفوف العباسيين بين الأمين والمأمون بانتصار الأخير بعثت السيدة زبيدة أم الأمين برسالةٍ عاطفية تستعطف فيها الخليفة المنتصر وترجو عفوَه.

قالت زبيدة: "كلّ ذنبٍ يا أمير المؤمنين، وإن عظُمَ، صغير في جنب عفوك. وكل زلل، وإن جلّ، حقير عند صفحك وذلك الذي عودك الله فأطال مدتك وتمم نعمتك. وأدام بك الخير ودفع بك الشر. هذه رقعة الواله التي ترجوك في الحياة لوائب الدهر. وفي الممات لجميل الذكر فإن رأيت أن ترحم ضعفي واستكانتي وقلة حيلتي وأن تصل رحمي وتحتسب فيما جعلك الله له طالباً وفيه راغباً فأفعل. وتذكر من لو كان حياً لكان شفيعي إليك"".

وكذلك تلقّى المأمون رسالة استعطاف أخرى من أم إبراهيم المهدي، الذي أعلن تمرّده على المأمون وطمعه في الخلافة، فكتبت له أمُّ إبراهيم تطلب منه العفوَ وألا يؤاخذها بذنبِ ابنها لكِبر سنّها، في رسالة طويلة قالت في نهايتها: "أنا يا أمير المؤمنين أمٌّ من أمهاتك، فإن كان ابني عصى الله فيك فلا تعصِهِ فيّ، والسلام".

تقول أمينة عبدالمولى في أطروحتها "أدب المرأة النثري من العصر الجاهلي حتى نهاية القرن الثاني الهجري"، إنه إذا كانت المرأة في عصر صدر الإسلام والعهد الاموي طرقت باب الرسائل السياسية، فإن طبيعة العصر الجديد أضافت إلى ذلك منحىً جديداً، وهي الرسائل التي عبّرت فيها المرأة عن عواطفها وأحساسيها.

وهو ما يتجلّى في عددٍ من الأمثلة التي عكست شغفاً كبيراً بين امرأة بارعة في اللغة وبين قائد عباسي كبير، مثل الرسالة التي بعثتها الشاعرة عَرِيْب إلى الوزير إبراهيم بن المدبّر قالت فيها: "أستوهب الله حياتك، قرأتُ رقعتَك المسكينة، التي كلّفتها مسألتك في أحوالنا، ونحن نرجو من الله أحسنَ عوائده عندنا، وندعوه ببقائك ونسأله الإجابةَ فلا تعوّد نفسك -جعلني الله فداءَها- هذا الجفاء، والثقة مني بالاحتمال وسُرعة الرجوع".

وعندما علمتْ أنه صام يوم عاشوراء كتبتْ له رسالةً قالت فيها: "قبل الله صومك، وتلقّاه بتبليغك ما التمست، كيف ترى نفسك نفسي فداؤك، ولم كدرت جسمك في آبٍ أخرجه الله عنك في عفاية، فإنه فظّ غليظ وأنتَ محرور، وإطعام عشرة مساكين أعظم لأجرك، ولو علمتُ لصمتُ صومك مساعدة، وكان الصواب في حسناتي دوني، لأن نيتي في الصوم كاذبة".

حينما أرادت إحدى الجواري التودّدَ إلى الخليفة المأمون بعثت له تفاحةً مصحوبةً برسالةٍ قالت له فيها: "، واصرفْ إليها يقينك، وتأمّل حُسنَها بطرفِك، ولا تخدشْها بظفرك، ولا تبعدها عن عينيك"، وعلى الأرجح فإن الجارية قصدت بهذه الهدية نفسها

كذلك كتب الشاعرة فضل رسالة إلى الأديب البغدادي سعيد بن حميد تعاتبه فيها قائلة: "فإن قطعتْ عنّا عادةَ البِرّ تمسّكْنا بعادتنا في الشُكر، وحملنا الذنب على الدّهر، وإن تكن الأخرى لم نعد الظنّ، ولم تأتِ بديعاً من الأمر".

وحينما أرادت إحدى الجواري التودّد إلى الخليفة المأمون بعثت له تفاحة مصحوبة برسالةٍ قالت له فيها: "إذا وصلتْ إليك يا أمير المؤمنين فتناولْها بيمينك، واصرف إليها يقينك، وتأمّل حُسنها بطرفك، ولا تخدشها بظفرك، ولا تبعدها عن عينيك، ولا تبذلها لخدمك، فإذا طال لبثُها عندك ومقامُها بين يديك، وخِفتَ أن يريمها الدّهرُ بسهْمِه ويقصدها بصرفه فيُذهب بهجتَها ويُحيل نضرتَها، فكُلها".

وعلى الأرجح فإن الجارية قصدت بهذه الهدية نفسَها، وشبّهت ذاتها أمام عين المأمون بالتفاحة الجميلة التي إن "حملتها لم تؤذك، وإن رُميتَ بها لم تؤلمك".

لماذا نسينا رسائل النساء؟

في نهاية كتابه حاول معبدي أن يضع بعض الإجابات على هذا السؤال، منها أن الرواة كان جُلُّ اهتمامهم منصبًاً على رواية الشعر وحفظه، الذي اهتموا به دون غيرهم من الآداب النثرية لأنه أبقى على الدّهرِ وأسرعُ في الاستظهار.

أيضاً، قدّر معبدي في كتابه أن الرواة في عصر الجمع والتحصيل كانوا أكثر اهتماماً بفنون العرب من الشعر والنثر بسبب قيمتها الفنية، ولم يحفلوا بروايات النساء التي وجدوا فيها ليناً وضعفاً. ويضيف أن النثر -بشكلٍ عام- لم يعتبره العرب قديماً فناً أدبيًاً يستحقُّ العناية والحفظ، وهو ما انسحب على أغلب الفنون التراثية النثرية الأخرى، كالخطابة وسجع الكهان. فجميع هذه النصوص ضاعت أغلب نصوصها إلا قليلاً. هذا القليل الذي بقي كان نصيب النساء منه أقلّ القليل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image