في نادرة طريفة يذكرها شهاب الدين أحمد التيفاشي، في كتابه "نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب"، تحقيق: جمال جمعة، على لسان رجل يُدعى بكار بن رياح، أن "قوّاداً من سكان مكة كان يتخذ من داره خمارةً، يجتمع فيها الرجال والنساء للشرب والجنس، فلمّا شكوه لأمير المدينة، نفاه هذا الأخير خارجها. واتجه نحو جبل عرفات وبنى داراً لنفسه وعاد فيها ما كان يفعله في مكة، وجاءه أصحابه على حميرهم لبعد المسافة، حتى فسدت أحداث مكة بسببه".
شكوه مجدداً، فطلبه الأمير وقال له: "يا عدو الله، طردتك من حرم الله فصرت تفسد في ذلك المعشر الحرام الأعظم. لكن القوّاد أنكر، حتى تركوا الحمير تستدل إلى بيته الجديد لتكون حجةً عليه. وهنا أمر الأمير بتجريده وجلده. فطلب القوّاد الإذن بالكلام وقال للأمير: أصلحك الله من ضربي، قال: نعم يا عدو الله، فقال: والله في ذلك أشد عليَّ من أن يشمت بنا أهل العراق ويضحكوا منا، ويقولوا: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير. فضحك الأمير وعفا عنه".
يفرد صاحب الكتاب فصلاً كاملاً للحديث عن مهنة القوادة وأربابها، برغم المنع والتحريم الإسلامي لهذه المظاهر مع ظهور وانتشار الرسالة المحمدية لعدّها نوعاً من الزنا، وشكلاً من أشكال استعباد وامتهان كرامة المرأة، والتسليع الرخيص لجسدها. إلا أن التحريم والكف عن البغاء -برغم شدته- لم يمنعا من انتشار مهنة الجنس والقوادة، وأربابها من القوّادين والقوّادات، تحديداً في العصرين اللاحقين، الأموي والعباسي، برغم بقائها في إطار شبه المغيب و"المسكوت عنه" تاريخياً.
راياتٌ حمراء
كان البغاء منظّماً تنظيماً جيداً "أيام الجاهلية"، وأقامت البغايا في خيم خاصة رُفعت عليها رايات حمراء، كما يشير ابن منظور في كتابه "لسان العرب". وقد جعلن من "التنحنح" والسعال علامةً على استعدادهن لاستقبال طلّابهن. ولذلك سُميت الواحدة منهن بـ"القحبة"، لأنها تؤذن لطلابها بـ"قحابها"، أي سُعالها.
كان البغاء منظّماً تنظيماً جيداً "أيام الجاهلية"، وأقامت البغايا في خيم خاصة رُفعت عليها رايات حمراء، وقد جعلن من "التنحنح" والسعال علامةً على استعدادهن لاستقبال طلّابهن
وكان لديهم قاموسهم الجنسي الخاص، وأنواع متعددة من الزيجات، ولم يجدوا حرجاً أو غضاضةً في ذكره واستعراضه في أشعارهم، ولغتهم اليومية في ما سيُسمى "فجوراً" وخدشاً للعقيدة. فعرفوا كل أشكال الجماع والنُكاح، في ظل مجتمع أمومي حاكم، لم يكن ترفاً أو وطراً بقدر ما كان حاجةً اجتماعيةً فرضها الواقع المعيش تزامناً مع انتشار ظاهرتَي "وأد البنات الوليدات" و"الغزو"، وما يرافقها من سبي، ما فرض كثرة الرجال على الإناث، وتالياً اشتراك بعضهم في امرأة واحدة، ما أدى إلى اعتماد الخط النسائي في تحديد النسب.
واقترنت الممارسة الجنسية عند العرب في تلك الفترة بكونها "فعلاً مقدساً"، فيذكر المسعودي (ت:956) في "مروج الذهب"، أن جماعةً من العرب تقدّس الإناث على أنهن من "بنات الله"، وكانوا يعبدونهن تقرباً من الله. ويرد ذكر هؤلاء في النص القرآني: "وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ" (سورة النحل: الآية 57).
الإشارة ذاتها نجدها لدى ابن جرير الطبري (ت:923) في "تاريخه": تلك المعبودات الأنثوية، مستشهداً بما ورد في سورة النجم: "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22). فاللات وفقاً للطبري اسم مؤنث لله، و"الضيزى" تشير إلى الضيزان وهو صنم وضعه المنذر الأكبر على باب عاصمته الحيرة ليسجد له الناس امتحاناً لطاعتهم، بالإضافة إلى "إساف ونائلة" اللذين مسخهما الله إلى حجرين لجرأتهما في الاختلاء وممارسة الجنس داخل الكعبة. وبرغم عدم اتساق تلك الإشارات إلى قدسية الجنس لدى العرب، إلا أنها عند صلاح الدين المنجد في كتابه "الحياة الجنسية عند العرب"، كافية لتوضيح مفهوم الجنس المقدس عند العرب قبل الإسلام.
"قاع الإيروتيكية"
تغيرت الأمور بعد انتصار الدعوة المحمدية، التي ألغت الرق، وحرّمت الوأد، وحولت الغزو إلى "جهاد مقدس" يمارسه العرب ضد غيرهم من الشعوب نشراً للعقيدة الجديدة، كذلك نتيجة الفتوحات-الغزوات الإسلامية التي أدت إلى فيض كبير من النساء ممن اختُطفن بالقوة ليُصبحن "سبايا".
كل ذلك الانقلاب باتجاه نظام أبوي، جعل من الرجل-الذكر مركز المجتمع الجديد، وانقلبت التعددية التي كانت ملكاً للنساء إلى الرجال، فشرّع الدين الجديد للرجال "الزواج بأربع نساء"، و"ما ملكت أيمانهم" من الجواري. يُضاف إليه، زواج المتعة الذي تم إحلاله لفترة وجيزة خلال عمليات الفتح، قبل أن يتم تحريمه نهائياً وفقاً للمصادر التاريخية السُنّية.
مع انتشار الدعوة، وجدت الطبقة الفقيرة في دور البغاء والقوادين والحمامات ملاذاً لإطفاء غرائزها، في ما يُطلق عليه؛ قاع الإيروتيكية العربية المحظور"
يرى صلاح الدين المنجد، في المرجع السابق، أن "الخلخلة السابقة مع انتشار الدعوة، أفرزا شكلاً جديداً من العلاقات الجنسية على أساس طبقي، وشيوع علاقات غير مسموح بها شرعاً بين نساء غير مشبعات جنسياً، ورجال محرومين، وأنماط بين أفراد الطبقة الأرستقراطية الناشئة كنوع من الترف الجنسي. أما الطبقة الفقيرة، فقد وجدت في دور البغاء والقوادين والحمامات ملاذاً لإطفاء غرائزها، في ما يُطلق عليه؛ قاع الإيروتيكية العربية المحظور".
سرعان ما امتلأ هذا القاع بسائر المفاسد الاجتماعية لأسباب عديدة، منها الفقر وشظف العيش، والتهميش وانقسام المجتمع إلى طبقات متباينة اقتصادياً، وتالياً كان أحد أشكالها سوق الدعارة الذي تصمت المصادر التاريخية عنه في الحقبة الأولى من حكم الدولة الأموية، التي حوّلت السلطة العربية إلى ملكية وراثية، شبه حضرية. لكنها سرعان ما انجرفت نتيجة الترف إلى شتى أشكال الممارسة الجنسية والمجون التي دخلت دار الخلافة ذاتها، حتى أن الخليفة هشام بن عبد الملك فاخر قائلاً: "أتيت النساء حتى ما أبالي امرأةً أتيت أم حائطاً".
يقول عروة بن الزبير، عن عاصمة الأمويين دمشق: "الفاحشة فيها فاشية، والناس قلوبها لاهية". حتى مكة المدينة المقدسة، يذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد أنه "كان بها ما يجمع الرجال والنساء ويحمل إليهم الشراب، وما كان اجتماعهم لذكر الله، بل للهو والتمهيد للتمتع بالجنس". واشتهرت تسمية "السمسار" كأحد أشهر قوّادي ذلك العصر.
وفي العصر العباسي، ومع اتساع الدولة واختلاط أعراقها، شاعت بيوت اللهو، ودور اللذة الجنسية في بغداد وما حولها، والقيان. وعرف خلفاء بني العباس بحبهم للهو والجواري. ويذكر ابن مسكويه في كتابه "تجارب الأمم" أنه في سنة 321 هـ، خرج أمر الخليفة العباسي القاهر بالله بـ"تحريم القيان والخمر وسائر الأنبذة وقبض على المغنين والمغنيات، ونفى بعضهم إلى البصرة وبعضهم إلى الكوفة"، برغم أنه كان من محبي الخمر والجواري.
أصناف القوّادين/ ات
يذكر التيفاشي في كتابه سابق الذكر، اثنين وعشرين صنفاً من هؤلاء. منها عشرون على الإناث واثنان على الذكور، من النساء عشرة ومن الرجال عشرة، واثنان ليسا هم من الرجال ولا من النساء، وهما ممازجا الصنفين وهم: الخدام والمخنثون. وأما أصناف القوّادين فأولهم: الحوش الذي يُعرف لدى الفرس بـ"الزملكاش"، وهو يحمل آلات الطرب مع الجارية إلى بيت طالبها، ثم يعود بها إلى منزلها من دون أن يكون له أجر معلوم بل يرضى غالباً بما يُمنح له.
وهناك، حوش الحوش وهو يرافق الجارية إلى دار حريفها (أي مضاجعها)، وينتظر خارجاً حتى تُنهي عملها، وله الجدر (أي الربع) مما كسبته الجارية. وهناك المُعرس وله نوعان؛ الأول: يُسمى الأقرع، والآخر، الملآن. الأقرع: له منزل يدعو زبائنه إليه من الرجال والنساء. أما الملآن، فله بيت فيه امرأة يستقبل فيه فقط من يضاجعها. وهناك السمسار الذي عُرف في العصر الأموي، وله نوعان؛ المُدلس والقطاة، ويجلسان في السوق وأمام الدكاكين ويدعوان لتجارتهما جهاراً، وأيضاً الدكدف وهو من أشهرهم حيلةً، يتخذ من هيئة التجار سبيلاً لقوادته. أخيراً، المُسكن، وهو قواد واسع الثراء، له دار كبيرة يجمع فيها النساء والغلمان، على طرقات السفر، ويصطاد زبائنه بالخداع والإغراء.
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت البغايا يمشين في الشوارع ولم يعاقب الرسول أياً منهن، فهل يُمكن أن نكون أكثر حرصاً على الدين من النبي محمد نفسه؟
بالنسبة إلى القوّادات، هناك المريدة والمتصرفة والقابلة والدلّالة، وهن في الغالب جوّالات منهن من يتسترن بعباءة التدين والعبادة، للوصول إلى أغراضهن، ومن يتجولن بحجة الوصول إلى ديار الحج، أو بائعات جوّالات يبعن الخرق والأخفاف وأدوات الزينة. وهناك أيضاً القابلة والماشطة والخافضة والطرقية والحجامة، وهُن ممن يدخلن البيوت بحجة مساعدة النساء قبل أن يُدخلن الطالب عليهن بغرض الجنس. والواصلة التي يذكرها ابن منظور في المصدر السابق، في ما يرويه عن عائشة زوجة النبي من أنها تقول: "الواصلة أن تكون بغياً في شبيبتها، فإذا يئست وصلته بالقيادة (أي القوادة)". ومن أشهر أسماء القوادات؛ ظلمة، وقديماً قال العرب "أقود من ظلمة"، والقصد في التسمية يعود إلى امرأة كانت تسرق، فلما شبّت زنت، ولما عجّزت قادت، ولما قعدت اشترت تيساً، فكانت تجعله يثب في بيتها على العنوز.
"الدعارة ليست خطيئةً"!
الإشكالية الأهم التي خلقت جدلاً بين المؤرخين، ما جاء القرآن على ذكره في موضوع تحريم البغاء، والالتباس الحاصل في تفسيره على اعتبار أن التحريم وقع فقط على "إكراه الفتيات على ممارسة البغاء". تقول الآية: "... وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" سورة النور (الآية: 33).
يقول المؤرخ والباحث الإسلامي التونسي محمد الطالبي (2017-1921)، في حوار أجرته معه إيمان حمدي لصحيفة (express) الفرنسية، إن الدعارة ليست محظورةً إسلامياً، ويُمكن للنساء غير المتزوجات العمل في الدعارة، مستشهداً بالآية الأخيرة على أن "الممنوع هو إكراه الفتيات على الدعارة، وليست الدعارة نفسها".
ويتابع الطالبي أنه "في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت البغايا يمشين في الشوارع ولم يعاقب الرسول أياً منهن"، متسائلاً: "هل يُمكن أن نكون أكثر حرصاً على الدين من النبي محمد نفسه؟". ويحاول الطالبي الربط بين البغاء والزنا المحرّم إسلامياً الذي يستوجب العقوبة فقط على المتزوجين. ففي الإسلام يثبت الزنا في حال وجود أربعة شهود يقولون إنهم رأوا الفعل الجنسي، ويسخر قائلاً: "لا أعتقد أن الشخص الذي يريد ممارسة الجنس سيطلب من أربعة شهود أن يأتوا ويثبتوا وقوع الفعل".
لكن في نظر آخرين، فقد جاءت الآية كـ"حلٍّ زمني مؤقت"، في طريق القضاء نهائياً على ظاهرة البغاء المنتشرة اجتماعياً، مع تشبّع الناس للدين الجديد والاقتداء بتعالميه. ويورد الطبري في تاريخه أيضاً، سبب نزول الآية، قائلاً إنها جاءت بعد استجارة إحدى جواري خصم النبي محمد في المدينة، ويُدعى عبد الله بن سلول، زعيم الخزرج الطامع في حكم يثرب، والذي كان على خصومة مباشرة معه. ابن سلول كان يرعى تجارة الجنس المزدهرة وقتها، وحاول إكراه الجارية وتُدعى "معاذة" وفقاً لما يورد ابن كثير في "البداية والنهاية"، على الزنا، لكنها استجارت بأبي بكر قبل أن تصل القضية إلى النبي، ويأتيه الوحي وفقاً لما جاء في الآية من تحريم إجبار الفتيات الراغبات في الزواج على ممارسة الزنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...