شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أيّد ثورة يوليو ورفض مقابلة عبد الناصر... سيرة السنهوري

أيّد ثورة يوليو ورفض مقابلة عبد الناصر... سيرة السنهوري "حامي الحريات"

في 11 آب/ أغسطس عام 1895، وُلد لموظف صغير في مجلس بلدي في مدينة الإسكندرية، شمال مصر، طفل صغير أسماه عبد الرزاق، لكن الأب لم يعِش طويلاً ليرى ابنه وقد أصبح أحد أعلام الفقه والقانون في البلاد؛ إنه الدكتور عبد الرزاق السنهوري، رئيس مجلس الدولة في الفترة بين عامي 1949 و1954.

توفي والده وهو في السادسة من عمره، وكان الطفل مريضاً فلم يعلم بظروف وفاة الأب، بحسب مذكراته التي أعدّتها ابنته نادية السنهوري، وزوجها الدكتور توفيق الشاوي، تحت عنوان "عبد الرزاق السنهوري في أوراقه الشخصية".

تلقى السنهوري، تعليمه الابتدائي والثانوي في الإسكندرية، ونال شهادة الدراسة الثانوية سنة 1913، ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة الحقوق (كلية الحقوق حالياً)، وحصل منها على الليسانس عام 1917. وبعد تخرّجه بعامين، اندلعت شرارة الثورة القومية سنة 1919، فتأثر بها وانحاز إليها، ودعا إلى إضراب الموظفين ونجح فيه، وتزعمه وانضم إلى الحركة الوفدية برئاسة الزعيم سعد زغلول.

عُيّن السنهوري، عضواً في النيابة العامة وتدرج في الوظائف حتى رُقّي وصار وكيلاً للنائب العام سنة 1920

عُيّن السنهوري، عضواً في النيابة العامة وتدرج في الوظائف حتى رُقّي وصار وكيلاً للنائب العام سنة 1920، ثم انتقل بعد ذلك لتدريس القانون في مدرسة القضاء الشرعي، وسافر إلى باريس سنة 1921 في بعثة وحصّل الدكتوراه في العلوم القانونية، والدكتوراه في العلوم الاقتصادية والسياسية، ودبلوم القانون الدولي، وعاد إلى مصر سنة 1926 ليعمل مدرساً للقانون المدني في كلية الحقوق، حتى أصبح أستاذاً مساعداً فأستاذاً، ثم انتُخب عميداً للكلية سنة 1936، وفقاً للمؤلف لمعي المطيعي في كتابه "موسوعة هذا الرجل من مصر".

وفي سنة 1936، نادى السنهوري، بوضع قانون مدني جديد في مصر، واستجابت الحكومة لرأيه، وشكلت لهذا الغرض لجنةً كان هو من أبرز أعضائها، ثم انتهى الأمر بإسناد مهمة التعديل إليه وحده سنة 1938، وانتهى وضع التقنين المدني الجديد في صورة مشروع متكامل سنة 1945، ومر بمراحله التشريعية إلى أن صدر في أواخر شهر تموز/ يوليو من سنة 1948.

وإلى جانب ذلك، شغل الدكتور السنهوري منصب وزير المعارف 4 مرات، وأوفد إلى مؤتمرات دولية كثيرة، وظل عضواً في مجمع اللغة العربية منذ سنة 1946 إلى أن توفي عام 1971، وعُيّن رئيساً لمجلس الدولة من عام 1949 إلى 1954، الذي شهد حادثة الاعتداء عليه.

ويتضح من خلال مذكراته، أنه شارك في وضع قوانين بعض الدول العربية؛ إذ كتب بتاريخ 12 آب/ أغسطس سنة 1946: "أنا الآن في مدينة دمشق أنجز عملاً وددت منذ ثلاث سنوات لو أنني أنجزته... أضع قانوناً مدنياً لسوريا كما وضعت هذا القانون لمصر والعراق".

الميل نحو الحرية والديمقراطية

تظهر من خلال مذكرات الرجل الشخصية، التي جمعتها ابنته الوحيدة نادية وزوجها، أن الرجل كان ميّالاً دائماً إلى حقوق الإنسان والحريات والمساواة، منادياً بالديمقراطية، وسيادة القضاء واستقلاله التام حتى يحقق العدالة المرجوة، وهو ما دفع ثمنه جلياً بعد ذلك.

وامتاز الرجل بحبه الشديد لمجال عمله، وتحدث عن عشقه للقانون بقوله:

ولدي هو "القانون" لم أرزقه إلا بعد جهد.

وتعلّق ابنته على ذلك بقولها: "يظهر أن الولد الذي تبناه هو القانون المدني المصري الموحد الذي اشتغل في مراجعته خلال لجان متعددة منذ عام 1937، وقد أشار إليه في مذكراته بتاريخ 12 آب/ أغسطس عام 1949، ببيتين من الشعر، هما:

إني ختمت بذلك القانون عهداً قد مضى وبدأت عهداً

وأقمت للوطن العزيز مفاخراً وبنيت مجداً".

وعندما جاءته الفرصة، نفّذ السنهوري أفكاره حتى صارت واقعاً يعيشه الناس، فقد نقل المؤلف فاروق عبد البر، في كتابه "موقف عبد الرزاق السنهوري من قضايا الحرية والديمقراطية"، ما كتبته إحدى المجلات عنه، بقولها: "السنهوري الفقيه الذي تبنى مواد القانون فجعلها حراباً تحمي الحريات وتذود عن الأحرار، والقاضي الذي ارتفع به كرسيه فوق الأغراض والأشخاص... ثم تربع على عرش مجلس الدولة، فكان الضوء الأحمر لكل حكم ظالم، ليقف عند حده، على يديه صال مجلس الدولة وجال، فاطمأن الناس، وهدأت النفوس، وأحست الحكومة بأن من وراءها 'ديدباناً' يقظاً لا يفرط في حق، بل هو أقوى من القوى، حتى يأخذ الحق منه".

أرجو ألا أموت قبل أن أرى الوقت الذي ينادى فيه بسيادة الأمة ضد كل سلطة سياسية أو اقتصادية، لا على صفحات الجرائد وفي بطون الكتب، بل في كل كبيرة وصغيرة من حياة الأمة العملية

وكانت أفكار الرجل الأساسية تتمحور حول سيادة الأمة وسلطان الشعوب، إذ يقول في مذكراته: "أرجو ألا أموت قبل أن أرى الوقت الذي ينادى فيه بسيادة الأمة ضد كل سلطة سياسية أو اقتصادية، لا على صفحات الجرائد وفي بطون الكتب، بل في كل كبيرة وصغيرة من حياة الأمة العملية"، مؤكداً أن "المستقبل لسلطان الشعوب".

ورأى عبد الرزاق السنهوري أن العدالة لا بد أن تكون أساساً قائماً في الدولة، وليست مجرد فن من الفنون: "لا تجعلوا العدالة فناً"، كما أنه في تأسيسه لقواعد العدل والحقوق، يؤكد أن "القاضي يحتاج حتى يحصل على الكفاءة اللازمة للقضاء ألا يقتصر على دراسة القوانين، بل يتعدى ذلك إلى العلوم الاجتماعية والاقتصادية والمالية، ويدرسها بشكل عام".

والمطلع على سيرة السنهوري وشخصيته، يراه يركّز على حقوق الإنسان، وحرية التعبير. يقول: "إن الشروط الأساسية للسلم الاجتماعي هي صيانة الوفاق بين المواطنين، وبذل مجهود دائم في إقامة المصالحة والوفاق بين المصالح والآراء المختلفة".

ويؤكد الدكتور السنهوري أن "الحرية لا تُعطى لكنها تؤخذ، فإذا كانت هذه الأمة جديرةً بالحياة، فإن أمامها متسعاً، لأخذ حريتها من الغاصبين"، مشيراً إلى أن "السلطة الشرعية يجب أن تكون هي السلطة الفعلية، لا أن تكون السلطة الفعلية هي السلطة الشرعية".

نصير الحريات والديمقراطية

لم يكتفِ الرجل بتدوين الكلمات في مذكراته فقط، وإنما جعلها واقعاً شعر به المواطنون في مصر. يدلّ على ذلك ما ذكره المؤلف محمود عبده، في كتابه الصادر عام 2011، بعنوان "عبد الرزاق السنهوري: أبو القانون وابن الشريعة"؛ إذ يؤكد أنه "عندما كان السنهوري رئيساً لمجلس الدولة، صار المجلس في عهده حصناً حصيناً للحريات، وملجأ آمناً للمواطنين ضد عسف الحكومة، وخرجت أحكامه التي تؤكد مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة أمام القانون وصون الحريات الشخصية، وقد أرست أحكام القضاء الإداري مبدأ خطيراً غير مسبوق، هو اختصاص القضاء الإداري بالرقابة على دستورية القوانين".

وحاول الدكتور السنهوري خلال رئاسته للمجلس أن يحقق أمنيةً سابقةً له دوّنها في مذكراته؛ إذ كتب يقول: "وددت لو خدمت القضاء في شيء، هو أن أجعل من السلطة القضائية مهيمنةً على السلطتين التنفيذية والتشريعية، بعد وضع الضمانات الكافية للقضاء ونزاهته".

ويظهر جلياً تأثير الدكتور السنهوري في حياة المواطنين خلال رئاسته للمجلس، من خلال قول الكاتب الصحافي أحمد بهاء الدين، الذي يؤكد أن "السنهوري صار بطلاً قومياً لدى كل فئات الشعب في مصر"، موضحاً أنه "كانت المعركة السياسية على أشدها قبل الثورة (تموز/ يوليو 1952)، وكانت معظم المواجهات السياسية تنتهي إلى مجلس الدولة، وكان يصدر أحكاماً قضائيةً بلغت القمة في شجاعتها ونزاهتها ودقتها في مراعاة القانون، وعمقها في تطبيق روح القانون، وهو الأصعب والأهم"، وفقاً لما ورد في كتاب "أحمد بهاء الدين: من حملة مشاعل التقدم العربي"، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 1994.

بالطبع هذا الوضع لا يرضي السلطات القائمة على الاستبداد، فاشتد غضب القصر الملكي على مجلس الدولة ورئيسه "السنهوري"، خاصةً أن الشعب استفاد من جو الحرية الذي بثه المجلس في ربوع البلاد، وكانت الصحف المعارضة للقصر من أوائل المستفيدين، فزادت من حدة حملاتها على الملك ورجاله، وكان رد القصر مصادرة تلك الصحف وتعطيلها.

كانت الصحف المعارضة من أوائل المستفيدين من السنهوري وعدالته، فزادت من حدة حملاتها على الملك فاروق، وكان رد القصر مصادرتها

إلغاء مجلس الدولة

ويؤكد محمود عبده أنه "لم يجد أصحاب تلك الصحف سوى اللجوء لمجلس الدولة، الذي لم يتردد بدوره في إلغاء قرارات المصادرة في أحكام مدوية كانت تُزيد الصحف جرأةً في حملاتها، وسار الأمر على هذا النحو حتى فقد الملك فاروق صبره، وأصدر في أيلول /سبتمبر 1951 أمراً إلى الحكومة الوفدية، برئاسة مصطفى النحاس باشا، بأن تصدر مرسوماً بإلغاء مجلس الدولة، وكادت الحكومة تنصاع لرغبة الملك وتوقع المرسوم لولا المعارضة القوية من بعض وزرائها".

وفي مقال له بعد وفاة السنهوري، كتب ضياء الدين شيت خطاب، الذي يُعدّ "شيخ القضاة العراقي"، مقالاً في رثاء الأول بمجلة القضاء عام 1971، أورده الكاتب أحمد فوزي في مؤلفه "رجال فكر وقانون... سيرة وحكاية"، قال فيه: "في سنة 1949 عُيّن الفقيد رئيساً لمجلس الدولة، فأقام قواعده على أسس متينة، ويُعدّ بحق المؤسس الحقيقي له، وقد أصدر أحكاماً قضائيةً رائعةً، تشهد له بالقوة، والوقوف بجانب الحق، حتى أن الصحف المصرية أخذت تشيد به، فقالت إحدى المجلات عنه: 'كان قبساً من العدل في دنيا كلها ظلم، وشعاعاً من النور في مجتمع كله ظلام، كان الناس يشتد بهم الجور فلا يلجأون إلّا إليه، ويطاردهم الطغيان فلا يلوذون إلّا به، فقد كان أقوى من الجور، وأقوى من الطغيان'".

ثمن الموقف

وكعادته في مناصرة الحريات، ومواجهة الظلم والاستبداد، وقف عبد الرزاق السنهوري مع حركة الضباط الأحرار ضد الملك فاروق، حتى صاغ بنفسه وثيقة تنازل الأخير عن العرش، في غضون ثورة تموز/ يوليو 1952، لكنه لم يكن يعلم أن هذا الأمر لن يدوم طويلاً، وسينقلب عليه جمال عبد الناصر في ما بعد.

في أثناء الأزمة السياسية التي وقعت في آذار/ مارس عام 1954، بين رئيس الوزراء محمد نجيب، ومجلس قيادة الثورة بقيادة جمال عبد الناصر، بسبب رغبة الأول في عودة الجيش إلى ثكناته مرةً أخرى، وإعادة إحياء الديمقراطية والحياة النيابية، وقف السنهوري إلى جانب هذا الرأي، خاصةً أن هذا ما يتفق مع أفكاره وآرائه، وهو ما لم يرضِ عبد الناصر.

ويشير عبد اللطيف البغدادي، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، في الجزء الأول من كتابه المعنون بـ"مذكرات عبد اللطيف البغدادي"، إلى أن "السنهوري اقترح إعادة دستور سنة 1923 فوراً، وأن يُحلّ مجلس قيادة الثورة حتى يطمئن محمد نجيب على نفسه لأنه يشعر بالقلق، وأن هذا الحل الذي يقترحه هو أسرع وأضمن الحلول لإنقاذ هذه البلاد من كارثة محققة".

ويعلق الكاتب لمعي المطيعي على حديث البغدادي، بقوله: "السنهوري هنا قد انحاز إلى صف القوى الشعبية التي طالبت بحل مجلس قيادة الثورة، وبرجوع الجيش إلى ثكناته، وبالعودة إلى الدستور، وهو بذاك أصبح مستهدفاً من قبل العناصر التي تريد أن تستبد بحكم البلاد".

وهناك سبب آخر لحنق جمال عبد الناصر على السنهوري، يتبيّن مما ذكره أحمد فوزي في كتابه المعنون بـ"ستة رجال فكر وقانون"؛ إذ يقول: "في يوم 26 آذار/ مارس، التقى الدكتور السنهوري وعبد الحكيم عابدين (أحد أعضاء جماعة الإخوان)، وعرض السنهوري عليه اشتراك الإخوان في الحكم، ومثل هذا اللقاء وما جرى فيه لم يكن ليخفى على المخابرات المصرية، ومعنى ذلك أنه (أي السنهوري) كان جادّاً في إنهاء الحكم العسكري وإعادة الحكم المدني".

انحاز السنهوري إلى صف القوى الشعبية التي طالبت بحل مجلس قيادة الثورة، وبرجوع الجيش إلى ثكناته، والعودة إلى الدستور، فأصبح مستهدفاً من قبل العناصر التي تريد أن تستبد بحكم البلاد

ونترك اللواء محمد نجيب، ليحكي ما حدث آنذاك، وفقاً لما ذكره في كتابه "كلمتي للتاريح"؛ بقوله: "توجهت مظاهرة مدبرة إلى مجلس الدولة، يوم 29 آذار/ مارس 1954، مكونة من عمال مديرية التحرير وجنود وضباط البوليس الحربي، واقتحم المتظاهرون مبنى المجلس الذي سُحبت الحراسة من حوله، ودخلوا إلى قاعة الاجتماع (اجتماع السنهوري والأعضاء)، وكان قد صدر قرار بتأييد الديمقراطية والحياة النيابية".

ويؤكد نجيب: "اعتدى المتظاهرون على الدكتور عبد الرزاق السنهوري وباقي الأعضاء بالضرب الشديد، ومزقوا القرار الذي تم اتخاذه، وبعد أن تم حبس مستشاري الدولة في قاعة الاجتماعات أُجبروا على توقيع بيان بتأييد مجلس الثورة"، وهو ما ذكره البغدادي أيضاً في مذكرته.

وأمام النيابة العامة، اتهم الدكتور السنهوري جمال عبد الناصر علانيةً بتدبير الحادث، ورفض مقابلته عندما زاره بعد الاعتداء عليه، وسقط الأول من رئاسة مجلس الدولة بحكم قانون منع الوزراء الحزبيين من ممارسة العمل وتولي المناصب المهمة (كان السنهوري ينتمي إلى الهيئة السعدية).

ويبدو أن الرجل لم ينسَ ما فعله عبد الناصر، فدوّن في مذكراته بتاريخ 19 حزيران/ يونيو 1967 (بعد أيام من نكسة 1967)، قوله: "هناك من التجار من يتعمد إحراق متجره حتى لا ينكشف إفلاسه، فهل ترى هذا التاجر الذي علّم رجال السياسية أساليب العمل؟"، وكتب أيضاً: "هنيئاً لحكومتنا المظفرة، إنها دائماً على الحق، وهي دائماً تكسب الرهان".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard