وسط ظلمة تلفّ المكان، قرر حسن واثنان من أصدقائه النزول إلى النهر، مع مولّد كهرباء وكابلات عدة، وطبعاً وعاء لجمع صيدهم "الثمين" الذي يحلمون بجمعه، مستغلين نوم غالبية سكان القرية وابتعاد أعين الصيادين ومحبي البيئة عنهم.
في منطقة الصوراني، في ريف طرطوس، اعتاد حسن وكثيرون غيره صيد الأسماك باستخدام الكهرباء، للحصول على كمية أسماك كبيرة وفي وقت قليل، لكن استمرار هذه العملية طوال الأيام من الربيع حتى الخريف، وكثرة الصيادين الذين يستخدمون الكهرباء، جعلا كمية الأسماك في تراجع مستمر.
اعتاد كثيرون في سوريا صيد الأسماك باستخدام الكهرباء، للحصول على كمية أسماك كبيرة وفي وقت قليل.
ويخبرنا الشاب الثلاثيني الذي فضل الحديث إلى رصيف22، باسم مستعار، أنه بعد انتظار نحو ساعتين، جمع عدداً قليلاً من السمك، بكمية تصل إلى حدود الكيلوغرام الواحد فقط، وهي بالكاد تكفي لسهرة شواء بسيطة مع صديقيه، ويوضح أن مغامرتهم هذه قبل سنوات عدة كانت تنتج عنها كيلوغرامات عدة من السمك. وعن سبب اللجوء إلى الكهرباء يقول ساخراً: "الكل عم يصطاد هيك، ما حدا أحسن من حدا".
قبل سنوات عدة، انتشرت بين سكان الأرياف السورية طريقة جديدة للصيد، باستخدام الكهرباء، وغالبية رواد هذه الطريقة ليسوا صيادين محترفين بل مجرد هواة، أو أشخاص يرغبون في التسلية، وفي بعض الأحيان التفاخر بصيد كميات كبيرة.
ويشرح أحد سكان ريف مدينة طرطوس الساحلية بأن هذه الطريقة تُعدّ سهلةً وغير مكلفة، وكل ما تحتاج إليه هو القليل من البنزين في المولّد وشريطين كهربائيين، ويتابع بأن هذه الطريقة سببت الضرر الكبير للسمك والحياة المائية، لأن هؤلاء الصيادين لا يلقون بالاً لحرمة السمك ولا لحقوقه، فينزلون للصيد في النهر خلال فترة التزاوج ويصطادون الإناث المتجهة نحو وضع البيوض، ومن المعروف أن الأنثى في فترة التكاثر تمشي عكس التيار وتختار مكاناً بالقرب من الضفاف، ويجب أن يكون تدفق المياه ضعيفاً، وأن يكون المكان واسعاً.
الصيد بالكهرباء في الأرياف السورية - خاص رصيف22
تهديد كائنات أخرى
حينما تنتشر الكهرباء في الماء فهي تُلحق الضرر بالسمك وغيره من الكائنات، ومنها الحنكليس، أو ما يسمى ثعبان البحر الأوروبي، والذي يُعتبر من الكائنات الحية المهددة بالانقراض على العالم وفي سورية بشكل خاص بسبب الصيد الجائر، ويشرح أحد سكان المنطقة بأن هذا الحيوان يموت للأسف دون فائدة فهو ليس هدف للصيادين بحد ذاته ولكنه يموت بجملة الأحياء التي تموت بالكهرباء.
بعيداً عن الأحياء المائية والأسماك، تتسبب هذه الطريقة بحالات وفاة سنوياً ويتحدث أهالي ريف دريكيش عن شاب توفي مؤخراً قبل أقل من شهر، وهو في الأربعينيات من العمر وأب لولدين، وغالباً ما يتم لفلفة الموضوع ولا يُعلن الأهالي السبب الحقيقي للوفاة خوفاُ من المساءلة لأن هذا النوع من الصيد ممنوع قانوناً في سورية.
هذه الطريقة تُعدّ سهلةً وغير مكلفة، وكل ما تحتاج إليه هو القليل من البنزين في المولّد وشريطين كهربائيين، لكنها سببت الضرر الكبير للسمك والحياة المائية، لأن هؤلاء الصيادين لا يلقون بالاً لحرمة السمك ولا لحقوقه، فينزلون للصيد في النهر خلال فترة التزاوج
وترجع حالات الوفاة لخطأ في التنفيذ إذ يعتمد الصيادون على صنع دارة كهربائية كاملة، يستخدمون فيها مولد كهربي أو شبكة الكهرباء القريبة من المياه، ويضعون أحد الاقطاب في الماء بالقرب من المولدة والطرف الآخر في رأس عمود خشبي، والذي يحتوي على شبكة من أجل عملية سحب الأسماك، وهنا تنصعق الأسماك الموجودة وتفقد الوعي وتظهر فوراً على سطح المياه في استسلام تام، وبذلك يمكن صيدها والسيطرة عليها بسهولة، وبعد بضع دقائق تعود إلى الحياة مرة أخرى، وتتنشر عادة الكهرباء بمساحة تُقدر بحوالي المترين في هذه العملية.
برأي أسامة حميشة ان الخوف من مخاطر هذا النوع من الصيد مبالغ فيه، لأن من يمارسه هم صيادون هواة، وبالتالي يصطادون كميات صغيرة، كما أن الكهرباء تمشي في الماء متر او مترين ولا تُلحق الضرر بمساحات كبيرة، وعندما نتحدث عن كميات صيد كبيرة فهذا يعني انتشار الكهرباء لعدة أمتار في الماء ورفع الفولت لستة آلاف وهو أمر مكلف وصعب، بحسب رأي حميشة.
ولكن رغم ذلك يحارب الصيادون المحترفون والهواة هذا النوع من الصيد ويمنعون من يملك مولدة استخدامها في الصيد، ويشرح حميشة وهو من هواة الصيد ويمارسه بالطرق التقليدية، بأن الكهرباء تؤثر على صيدهم وتمنع الأسماك من الاقتراب حينما تشعر بوجودها.
الحنكليس الذي تهدد حياته عملية الصيد بالكهرباء - خاص رصيف22
أضرار بيئية كثيرة
من جانبه يوضح الدكتور علاء الشيخ أحمد مدير فرع المنطقة الساحلية في الهيئة العامة للثروة السمكية والأحياء المائية، أن الصيد بالكهرباء يُعتبر وسيلة مدمرة للثروة السمكية، فهو يسبب موت الأحياء المائية المتواجدة في المنطقة التي تم وضع الكابلات الكهربائية فيها، حيث تموت الأسماك الصغيرة والكبيرة، وأيضاً تنفق البويضات واليرقات والأمهات، مما يؤثر على المخزون القومي من الأسماك، وعلى حجم الاستهلاك والكميات المعروضة في الأسواق ويرفع أسعار الأسماك.
وبالنسبة لمستهلك هذا النوع من السمك، يشرح الدكتور الشيخ أحمد بأن التيار الكهربائي يترك بعض الأيونات في جسم السمكة، مما قد يؤدي إلى أضرار عديدة في جسم الإنسان بعد تناوله، وعن وجود الملوثات الأخرى، يتابع الشيخ أحمد بأن هذا النوع من الصيد يُسبب تلوث المياه بالزيوت والمشتقات النفطية المتسربة جراء تشغيل المولدات الكهربائية، ما يؤدي لنفوق الأحياء المائية في منطقة التلوث إن لم تمت بالصعق الكهربائي، كما يسبب الهواء الملوث الناجم عن الوقود المستخدم لتشغيل المولدات ونواتج احتراق هذا الوقود المتعددة كالعناصر الثقيلة خصوصا الرصاص تلوث الهواء في المنطقة المحيطة بمكان الصيد بالكهرباء، وكذلك يسبب هذا الصيد تلوث ضوضائي يؤثر سلباً على صحة الإنسان من النواحي البدنية والنفسية والعصبية ويتسبب في ضعف السمع وأمراض القلب .
التيار الكهربائي يترك بعض الأيونات في جسم السمكة، مما قد يؤدي إلى أضرار عديدة في جسم الإنسان بعد تناوله، وهذا الصيد يُسبب تلوث المياه بالزيوت والمشتقات النفطية المتسربة جراء تشغيل المولدات الكهربائية، ما يؤدي لنفوق الأحياء المائية في منطقة التلوث
يؤكد هذه المخاطر المحاضر في "المعهد العالي للبحوث البحرية" في جامعة تشرين والاختصاصي في إدارة المصائد السمكية الدكتور فراس الشاوي، موضحاً أن الصيد بالكهرباء محرم دولياً حيث يؤدي التيار الكهربائي إلى شل حركة الأسماك أو نفوقها إلى جانب قتل جميع أشكال الكائنات الحية المتواجدة في العمود المائي والتي لا يمكنها تحمل شدة التيار الكهربائي كالأسماك الصغيرة والعوالق النباتية والحيوانية والتي تشكل الغذاء الرئيس للأسماك، إلى جانب حدوث تحلل كهربائي للماء وإطلاق بعض الأملاح والأكاسيد المضرة بالبيئة، ويوضح الدكتور الشاوي أن أبحاث بريطانية كشفت نفوق 60 % من الكائنات الحية المائية في المنطقة التي يتم الصيد فيها عبر الكهرباء.
من الناحية الصحية، يشرح الدكتور الشاوي أنه يوجد مساريين، الأول حدوث تشنجات ونزف في أنسجة الأسماك، قد تعطي لحوماً طعمها أقل جودة مقارنة مع لحوم الأسماك المصادة بالطرق التقليدية، والمسار الثاني -والذي هو قيد الدراسة حالياً- احتواء الأنسجة لبعض الايوانات نتيجة لاستخدام الكهرباء، ولكن لم يتم اثبات لذلك إلى هذه اللحظة، بحسب الدكتور الشاوي.
اضافة إلى أن الأسماك النافقة والتي لم يتم جمعها بعد صعقها بالكهرباء سوف تحلل في الوسط المائي وتطلق غاز CO2 والذي بدوره يرفع من حموضة الوسط المائي ويجعله غير مناسب للكائنات الحية وخاصة إذا تم الصيد ضمن البحيرات، بحسب الدكتور الشاوي.
الصيد بالكهرباء في الأرياف السورية - خاص رصيف22
ويوضح المحاضر في "المعهد العالي للبحوث البحرية" في جامعة تشرين، أنه لا توجد دراسة تعطي الواقع الحقيقي للثروة السمكية في الأنهار، وفاقم الموضوع الحرب في سورية، وخروج بعض المناطق عن سيطرة الدولة، لكنه باعتقاده لا يوجد نوع مهدد بالانقراض لأن عملية الصيد تكون في منطقة محددة وضمن مجال محدد وبالتالي لا تؤدي إلى استنزاف كامل للمخزون السمكي من أي نوع، ولكن إذا زادت وتيرة الصيد كماً وعدداً ممكن أن نشهد تراجع أو ندرة في ظهور أو صيد أحد الأنواع السمكية.
يُجرم القانون السوري الصيد الجائر بكل أنواعه.
الناحية القانونية
يُجرم القانون السوري الصيد الجائر بكل أنواعه، وأفرد لصيد الأسماك بنوداً خاصة بهذا الأمر، لكن التطبيق حتى اليوم ليس على الشكل المطلوب، وبحسب الدكتور الشيخ أحمد، صيد السمك بالكهرباء يُعتبر جريمة وخروجاً عن القانون، وصيداً مدمرا غير مسموح به، وذلك بموجب القانون رقم 11 لعام 2021 القاضي بإحداث الهيئة العامة للثروة السمكية والأحياء المائية ومقرها محافظة اللاذقية.
وينص القانون من ضمن بنوده العديدة على معاقبة الشخص الذي يصطاد السمك بالكهرباء، بمصادرة جميع أدواته وتنظيم ضبط في مخافر الشرطة المختصة وتوقيفه وإحالته إلى القضاء، من أجل تقديمه لمحاكمة وعقوبة الحبس والغرامة المالية، والتي حُددت بالسجن من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات، وبالغرامة من 1000000 ل.س مليون ليرة سورية إلى 3000000 ل.س ثلاثة ملايين ليرة سوري.
الصيد بالكهرباء في الأرياف السورية - خاص رصيف22
القانون الجديد نص أيضاً على إحداث ضابطة تابعة للهيئة، ولها صلاحيات للعمل على كافة المسطحات المياه العذبة وكافة الموانئ في المياه البحرية، وبإمكانها تنظيم الضبوط بحق المخالفين لكنها لم تباشر أعمالها بعد، بسبب العمل على تحديد بعض الإجراءات والتجهيزات، بحسب الدكتور الشيخ أحمد، ولكنه يتوقع أن تباشر عملها خلال فترة غير بعيدة، ولحين تمام ذلك تستعين الهيئة بوزارة الداخلية بتنظيم دوريات مشتركة معهم لمراقبة المخالفات وإجراء الضبوط المناسبة بحقهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...