شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حماتي حفظت موعد دورتي الشهرية أكثر مني

حماتي حفظت موعد دورتي الشهرية أكثر مني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 24 أغسطس 202311:39 ص

في بلادنا، وبالإضافة لكون الحمل ومن ثم الإنجاب فرضاً اجتماعياً، إذا تأخرت به لأي سبب كان ستقع المرأة في شركٍ يصعب عليها الإفلات من خيوطه، فهي حتماً عاقر، ولابدّ في كل لقاء من شروحات لحالتها الإنجابية، بل عليها حمل ورقة وقلم، حتى لو اضطرّت للخروج لتبتاع كيلو بندورة، لتسجّل في القائمة أسماء الأطباء "الشاطرين"، وفي ظهر الورقة تكتب ما تمليه الجارة التي تصادفها من وصفات عشبية ووضعيات جنسية ستؤكد حملها، مستبيحةً بذلك كل خاص.

امتثلتُ شخصيّاً لذاك الفرض، أو للدقة، أُجبرت على الامتثال، فسؤال حماتي المتكرّر كل شهر: "إجتك؟"، كان ثقيلاً على فتاةٍ تُخفي موعد دورتها الشهرية عن أمها، حيث أنه خاصّ للغاية، لم تقتحم أمي تلك الخصوصية مرّةً، لأجدها مستباحة بعد زواجي، لدرجة أن حماتي حفظت تلك الأيام الخاصة عن ظهر قلب، لكن سؤالها لم يخلُ من نظرة العتب حين أجيب بنعم، تهزّ برأسها وتتمتم: "خير إن شالله".

كنت أومأ برأسي أحياناً، وفي كل مرة أقرّر أن أجيب بأنه شأن خاص، اقتحمته بفضولها الصباحي لترتيب أكياس القمامة بشكل يومي، وبذلك سجّلت في ذهنها روزنامة لدورتي الشهرية والإباضة.

كنت أومأ برأسي أحياناً، وفي كل مرة أقرّر أن أجيب بأنه شأن خاص، اقتحمته بفضولها الصباحي لترتيب أكياس القمامة بشكل يومي، وبذلك سجّلت في ذهنها روزنامة لدورتي الشهرية والإباضة

علمت أم زوجي بحملي قبل أن أعلم، رفضي للبطاطا المقلية (طبقي المحبب) منحها إشارة، فرحت بذاك الحمل، وابنها، وكل العائلة، وكل الكواكب، إلا أنا، كان شعوري كمن يكتب واجب الرياضيات مرغماً وهو "باليونيفورم" المدرسي، حتى قبل أن يأكل وجبته ويتابع أفلام كرتون.

تعايشت مع الوضع، ظروف الوحام القاسية للغاية، والنصائح الآتية من كوكب زمّردة التي كنت أجابهها بكتب عن الحمل والإنجاب، يغنيها الطبيب بسام الذي جعلني أفطر شهر الصوم، ليتحول كوكب زمردة من أطباء نساء إلى مفتي الأزهر.

أنجبت طفلي الأول وكأني أقدّمه على طبق من بكاء للجميع، لم يمنح شعور الاكتفاء، بل الذنب اللامنقطع.

فرح أبي وأمي للخبر، بتلك البشرى تأكدت العائلة بأن ابنتها ليست بعاقر، وبدأت حربي الضروس لاختيار اسم المولود، تيقنت حينها بأن الحظ كل الحظ أن تحظى الأم في بلادي بزوجٍ "موديرن" متفهّم، يدعم زوجته بقرارات جريئة، كاختيار اسم طفلها!

الأمومة السريعة غير المرتّب لها اجتاحت روتيني الذي لم يستقرّ بعد مع حدث الزواج وتغيراته الضخمة، من تغير مكان سكن ووجود كائن يلازمني الفراش ويقاسمني كل وقتي، وبالرغم من سعادتي للرفيق والحبيب، إلا أنه روتين أقلَمتْ نفسي معه.

وحده طفلي من دفع الثمن، فمزاجية أمه غير المستعدة والمتفاجئة بوجوده السريع، جعلتْ منه طفلاً عصبياً يبكي ولا يريد الانسجام.

تقول أخت زوجي (خريجة التربية وعلم النفس)، بأنه شعور طبيعي لطفل عاش ضمن رحم مضطرب، فعدم استقرار الأم ينعكس على الجنين، ليستقر بعد عامه الثالث.

صدّقتُها رغم عدم بحثي عن الأدلة، ما زاد جرعة الذنب لدي.

كنتُ أمّاً تجاهد للوصول إلى المثالية، ملبس ومأكل وتعليم طفلي فوق الأولويات، حتى نسيت نفسي، وشيئاً فشيئاً تحوّلتُ لأمي: لا أذهب الى حفلات الأعراس، لمن سأترك عناية الطفل؟ تركت العمل واعتزلت الأصدقاء، وأجبرت نفسي على زيارات لا أحبّذها لجارات لديهن أطفالاً بعمر طفلي علّه يكوّن محيطه الصحي، بذلت مجهوداً في أن يكبر قبل أوانه، تخلّى عن الحفاض باكراً، تعلّم الأرقام والألوان بلغة أجنبية، أقرأ له عن "إبساك" التي حلمت بالطيران فيبكيها، ويتعاطف مع "الأمير الصغير"، كما يغرق في معمل "شارلي" للشوكلاته، تعاطفه مع "ماتيلدا" قد أمرضه، ارتفعت حرارته حزناً على الفتاة المظلومة، كما شهق مع هاري بوتر في كل مرّة صادف بها فولدمورت.

في كل أسبوع، ورغم الضائقة المادية، أشتري له لعبة، يشبع قبل أن يتم طبقه الشهي، لا أكمله فهو الأحقّ، ولو أني اشتهيت بضع لقيمات… أكابد نفسي كلّما راودتني، أعدّ له شطائر "سبونج بوب"، وإن طلب زوجي واحده أنهره، فالطفل هو الأحقّ.

بالغت بالاهتمام بولدي لدرجةٍ حولته اتكالياً، لا يلبّي احتياجاته الأساسية، لأدرك بأني ألحقتُ الأذى من شدّة الاهتمام بسبب عقدة الذنب.

كبر ابني واشتدّ عوده، عدتُ لذاتي أرمّمها وأطبطب عليها قدر المستطاع، استأنفت الكتابة والرسم، عدتُ لفنجان الكابتشينو المسائي مع كيس الشيبس الذي لا ينفد، كانت لحظات الاسترخاء ممتنة لي، لكن العالم بأسره لم يكفّ عن مطاردتي: "جيبيلو أخ حرام عليكي".

لم أكترث لتلك التوسلات، ولا لفضولٍ أقرّ بوجود مشكلة إنجابية، كنت أهزّ برأسي عند كل محاضرة، فلن أقع بالفخ ثانية.

بدأ طفلي الوحيد بتكرار الإلحاح الملقّن، فأعلمته بأنه شأن خاص وقرار شخصي يخصّني وحدي، تفهّم الأمر لكن بذرة أخرى بدأت تنفلق ها هنا، وكلما يمرّ مقطع على شاشة هاتفي لأطفال يُلتهمون دون ملح، تهزّ الشجرة بأغصانها، اللهفة تطوّرت لخفقانٍ شديد، كطفلٍ شاهد دميته المفضّلة على الواجهة الزجاجية، فتسمّر لرغبته بها.

كان قرار الإنجاب هذه المرة ذاتياً، ليس إذعاناً لعويل المحكمة والقضاة المحيطين بي، ولا خوفاً من جملة: "جيبي، إذا راح واحد بضل واحد"، فإيماني بالقدر يضع نصب عيني رحيل ثلاثة أبناء دفعة واحدة.

كان هناك شيء حميمي يجمعني وطفلي الثاني قبل أن يوجد، أقدمت على الخطوة بكامل إرادتي العقلية والجسدية، فروقات شاسعة في فترة الحمل وفروقات شاسعة بين طبع الأخوين، رغم تاريخ الميلاد الذي جمعهما، أيضاً لم أعد تلك الأم المضحيّة، عليّ تمرين طفلي على تقدير الذات وتقديري.

شيئاً فشيئاً تحوّلتُ لأمي: لا أذهب الى حفلات الأعراس، تركت العمل واعتزلت الأصدقاء، وأجبرت نفسي على زيارات لا أحبّذها لجارات لديهن أطفالاً بعمر طفلي علّه يكوّن محيطه الصحي

ألتهم كل ما أشتهي، حتى لو كانت حصّة ابني الأول، ليعترض مع فاه فاغر وكأنه لا يصدّق بأن أمه التي تسامح بحصتها فعلتها!

لم أستطع أن أخفّف من رعايتي للمولود الجديد؛ إلا أنها ظلّت معتدلة بعيدة عن التطرف مهما بالغت بها. يقع ولا أنتشله فوراً، أداعبه باعتدال، فلا بأس بالضحك الطبيعي.

لست مضطرة لخفض صوتي عند نومه، أذهب لكلّ الأماكن دون أن يشكّل عائقاً يُجلسني في البيت، لا أحمّله فوق طاقته، يتعلم ما يجب أن يتعلمه دون زيادة، لا حاجة للغة أجنبية ولم تقسَ أظفاره بعد، ولا حتى للعدّ فوق الثلاثة. أفكر بإرساله للروضة عند إتمامه العام الثالث، حتماً سأتعوّد على بعده. يخلع الحفاض عندما يستعدّ، ولست مضطرة لأبرّر لجارتي "السوبر مام" التي تخلّت طفلتها عن الحفاض في شهرها التاسع، وألقت قصيدة الأصمعي في عمر السنة، بل فطمت نفسها عن الرضاعة عند الأربعة أشهر. طالما دليلي العلمي معي، سأتجاهل الكرة الأرضية بقوانينها التربوية الزائفة.

كلّ هذا لم يكبح شعوراً دافقاً بالأمومة، شعرتُ بأني ماما للمرة الأولى، ماما بالرضا لا بالإكراه، تُطعم طفلها بكلّ متعه، تحمّمه وكأنها من يحتاج للعب بالماء لا هو.

يناظرني طفلي بامتنان وكأنه يقول: "شكراً ماما لأنك أنجبتني من أجلكِ، لا من أجل أي أحد."

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard