شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
نظام على صفيح

نظام على صفيح "ساحل"... هل تنفجر الحاضنة الطائفية في سوريا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

أوهم النظام السوري العلويين منذ بداية الأحداث في 2011، عبر أدواته التي سنّها وصقلها وشذّبها ثم موّهها على مر العقود، بأنّ كل ما يحدث هو رغبة إسلامية سُنّية متشددة في أخذ الحكم منهم، مع ما قد يترتب على ذلك من قتل واغتصاب وتهجير ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية والاجتماعية.

واستغل النظام جيداً الذاكرة العلوية المُشبعة بواقعة "التلل"، مجزرة الجامع الكبير(أيام العثمانيين)، التي عُززت في ما بعد بمجازر تلكلخ وعقربا وريف اللاذقية بعد عام 2011، والتي استهدفت العلويين.

اكتمل الشريط واتصلت مجازر الماضي بمجازر الحاضر في أذهان العلويين، وأصبحوا يخافون المستقبل، ويشعرون بأنهم سيعيشون وقائع "التلل"، إن لم يُرسلوا أبناءهم إلى الخدمة الإلزامية. تجلى ذلك بشكل أكثر وضوحاً بعد مجزرة عدرا العمالية المروّعة عام 2013.

يرى كُثر من أصحاب الرأي في البيئة العلوية، أنّ النظام السوريّ سهّل عملية الربط تلك، وبات الكثير من العلويين اليوم (بعد 12 عاماً من بداية الحرب)، يعرفون أنّ النظام أخرج الإسلاميين من السجون، وسهّل -بشكل مباشر أو غير مباشر- نشاط داعش وغيرها، كي يقول للعالم أجمع: "انظروا، هذه ليست ثورة أو مناداةً بإصلاح، هي حرب شريفة أخوضها نيابةً عن العالم كله ضد الإرهاب، ويجب عليكم دعمي في هذه الحرب لأني أدافع عنكم!".

انكشف الأمر الآن لدى الكثير من أبناء الطائفة العلوية، وخاب أملهم في تحسن الوضع المعيشي والاقتصادي بعد أن وضعت الحرب العسكرية الطاحنة أوزارها. الغالبية الساحقة منهم تؤمّن قوت يومها من راتب الوظيفة الحكومية الذي بات يعادل 9 دولارات أمريكية، ومن زراعة الأراضي التي لا تصلها مياه الريّ في الكثير من المناطق. زد على ذلك غلاء أسعار السماد بعد سيطرة "الحليف الروسي" على أحد أهم معامل تصنيعه، والمعاناة الكارثية اليومية في تأمين البنزين لدراجاتهم النارية التي يعتمدون عليها في التنقل والوصول إلى أراضيهم الجبلية الوعرة. أما تأمين الغاز المنزلي ومازوت التدفئة، فيما يعوم "الحليف" على بحارٍ من النفط والغاز، فحديث آخر.

بات الكثير من العلويين اليوم، يعرفون أنّ النظام أخرج الإسلاميين من السجون، وسهّل نشاط داعش وغيرها

كل هذه الأسباب وغيرها، دفعت العلويين لفتح عيونهم أكثر على ما يجري حقيقةً في وطنهم، ومن ثمّ اللجوء إلى المطالبة بحقوقهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتقاد سياسات "الحكومة" والنقص الحاد في كل متطلبات الحياة، مقابل ترف وبذخ الطبقة الحاكمة وحاشيتها وكل من يرتبط بها. أبعد من ذلك، ثمة من رفع سقف الانتقادات منهم لتطال "شخص الرئيس".

"كيفهم رفقاتك بإدلب؟"

فراس غانم، شابٌ ثلاثيني من محافظة طرطوس، يُعرّف بنفسه على صفحته الشخصية على فيسبوك على أنه مُقيم في دولة الموزمبيق، في ولاية مابوتو! بات يُعرَف في وسطه الاجتماعي بانتقاده عبر منشوراته، كل ما يخرج من تصريحات المسؤولين في الدولة السورية، وتأتيه الكثير من التساؤلات، كما يقول: "كتير أسئلة بتجيني على فيسبوك: غريب أمرك يا فراس أنت من الموالاة، كيف بتسترجي (تجرؤ) تحكي هيك وأنت مقيم في سوريا؟!". وعلى الضفة الأخرى، يخاطبه الكثير من أهل الساحل بلغة مشابهة: "وبالمقابل الموالاة -وطبعاً صاروا قلال كتير بجبالنا وساحلنا- بيسألوني: 'شو يا معارض كيفهم رفقاتك المعارضة بإدلب؟!'".

يردّ غانم على تلك الأسئلة عبر منشورٍ له على فيسبوك: "أنا فعلاً موالٍ ولكني موالٍ للوطن سوريا ولا أمتُّ بصلة إلى الموالاة الموالية للنظام الموالي لروسيا وإيران ولا للموالاة الموالية للمعارضة الموالية لتركيا والخليج. أنا مع كل ثائر خرج في سوريا ولم يسفك الدماء ولم يدمر ويؤذي الممتلكات العامة. أنا مع كل ثائر لم يرفع البندقية في وجه أخيه السوري".

غانم الذي بات يختصر معاناة شريحة واسعة من أبناء الساحل، وربما الكثير من السوريين، يختم منشوره: "على كل حال ما رح كبّر المنشور لأني صراحةً صرت عم عاني من اكتئاب من الوضع المأساوي اللي وصلنا له، وكلو بسبب غباء النظام، وغباء الائتلاف المعارض اللي قرارهم ما بيدهم وبيجوا يضحكوا على مواليهم ويبيعوهم وطنيات وهنن مأجورين وبالأصل ما بيسترجوا حتى يصرحوا تصريح دون الرجوع لأسيادهم". 

آخر منشورٍ لغانم على صفحته الشخصية كان بتاريخ 2 تموز/ يوليو 2023، تعليقاً على بيان الخارجية السورية الذي تنتقد فيه قتل الشاب "ناهل"، من قبل الشرطة الفرنسية في إحدى ضواحي باريس: "سؤال للسيد وزير الخارجية إذا ما في إحراج ولا إزعاج، يا ترى لو السلطات الروسية أو الإيرانية قتلوا طفل كنتم رح تصدروا بيان تدينوهم؟! أنا برأيي كان الأفضل تتحفظوا".

غاب غانم بعدها عن النشر، ما أثار تساؤلات لدى متابعيه، لكنّ مصيره كان معروفاً، فقد نشر في 30 حزيران/ يونيو الفائت، خبر استدعائه للتحقيق معه: "مطلوب للمثول أمام 'العدالة' بسبب منشوراتي"، متمنياً من متابعيه الدعاء له والذكر الحسن: "قد لا أعود فتقبّلوا مني فائق شكري واحترامي وتقديري لكل من يكنّ لي المحبة والاحترام".

غابت أخبار غانم بعدها، لينشر أحد متابعيه نقلاً عن صديق له استُدعي إلى التحقيق والتقى به في زنزانة في سجن طرطوس المركزي، أن فراس يواجه خمس دعاوى جنائية (جرائم إلكترونية)، وأنّ ما يحتاجه هو "التعاطف معه ودعمه ولو بكلمة طيبة. الحرية لفراس غانم ولجميع معتقلي الرأي في سوريا".

"أنا مُنتخب... وأنت موظف"

لم يقتصر الغضب الشعبي في الساحل السوريّ على حالات فردية تعبّر عن نفسها بشكل منفصل، بل ظهر إلى العلن على شكل غضب جماعي في بلدية دوير رسلان التابعة لمحافظة طرطوس، حيث رفض الأهالي إقالة مجلس البلدية المُنتخب من أجل تعيين آخرين بعثيين. وفي مقطع فيديو غزا مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر أحمد كامل أحمد، وهو رئيس بلدية دوير رسلان واقفاً في وجه محافظ طرطوس عبد الحليم عوض خليل، وملوّحاً بسبابته بكل ثقة، وهو يقول: "أنا مُنتخَب وأنتَ موظّف" (المُحافظ في سوريا يُعيَّن بشكل مباشر من قبل رئيس الجمهورية). خلف السيد أحمد يقف أهالي البلدة داعمين ومؤكدين: "هاد الزلمي نحنا انتخبناه، بدنا ياه، وما بدنا غيره". ومع انتشار المقطع مثل النار في الهشيم وتداوله على منصات معارضة، أتى الأمن كالعادة وقام باعتقال أحمد، فيما تمكّن ابنه من الفرار.

سؤال للسيد وزير الخارجية إذا ما في إحراج ولا إزعاج، يا ترى لو السلطات الروسية أو الإيرانية قتلوا طفل كنتم رح تصدروا بيان تدينوهم؟! أنا برأيي كان الأفضل تتحفظوا

ومن الجدير بالذكر أنّ للسيد أحمد ابناً آخر قُتل في معارك ريف اللاذقية بعد التحاقه بالخدمة الإلزامية، في تأكيدٍ غير جديد على أنّ النظام لا يكترث بحاضنته ولا يتذكرها إلا عندما يحتاجها. وعليه، استذكر أحد أهالي قرية دوير رسلان ابن رئيس البلدية "الشهيد" في يوم اعتقال والده: "لقد رُدّ الدين الذي بذلتَه بدمك، وأوفوا ما قدمته من تضحيات وبطولات، نعم يا رفيقي أنت حررتَ ضباط الجهات الأمنية من حصار مبنى العلبي في كسب، وهم ردوا جميلك أضعافاً مضاعفةً. نعم يا رفيقي لقد اعتقلوا والدك ويلاحقون أخاك، بوركت شهادتك فاليوم قتلوك مرةً أخرى بغدرٍ ثانٍ".

يقول الدكتور راتب شعبو، المعارض والكاتب السوري والمعتقل السياسي السابق، وهو أحد أبناء الطائفة العلوية: "الأصوات الغاضبة ومرتفعة السقف هي، بحدود علمنا، من العلويين حصراً، وغالباً من موالين أشداء للأسد حين كان الأسد يبطش بسوريين آخرين. هذا يقول إنه ليس لهذا الغضب، الذي يبقى 'ودياً' أو 'أهلياً' مهما علا صوته، أفق سياسي يُنتظر. الأفق الممكن هو مقدار من عقلنة العلاقة بين السلطة والمجتمع، في أحسن النتائج. وهو شيء غير قليل على كل حال".

يضيف: "من المستبعد دخول النظام في صراع مكشوف مع ركيزته الاجتماعية. لأنه بذلك إنما يقطع الغصن الذي يستند إليه. وهذا ما يدفعه إلى اختيار سبيل المعالجة الهادئة ومحاولة ضبط علاقته بالمجتمع. لكن يبقى موضع تساؤل إن كان بمقدور النظام، في ظروفه السياسية والاقتصادية المتردية، أن يعقلن، شيئاً ما، علاقته بالمجتمع. وهل لهذه العقلنة، إن حصلت، أن تفتح باباً لاحتجاجات أوسع قد يصعب ردّه؟".

ويتابع شعبو: "أما إذا اختار النظام البطش سبيلاً لقمع الاحتجاجات المتصاعدة، فلن يطول الوقت قبل أن ينفتح الباب على فوضى تهدّد بتفكيك المجتمع وما بقي من جهاز الدولة".

"الرابعة" وزيادة الأسعار

يقول "أبو حسن" (65 سنةً)، وهو موظف متقاعد، وفلاح من أبناء قرى ريف طرطوس: "عمري يقترب من السبعين، وأنا لا أزال بكامل صحتي وعافيتي وهذه نعمة كبيرة، ولكن إلى متى نعمل هكذا مثل 'الدواب'؟ أعمل اليوم فآكل، ولكنني أعلم أنني في الغد قد أسقط أو أنزلق في أثناء عملي المجهد، وأصرف كل ما لديّ ولن يكفي ثمن الأدوية والعمليات الجراحية، ولكن لا يوجد أي خيارٍ آخر أمامنا. تعبنا يا عمي، وقرفنا كمان".

يتابع كلامه بغضبٍ وحسرة: "مو بس عم نشتغل متل الدواب، الله وكيلك عم ناكل متل الدواب، ما عم نجيب إلا الخضرة الرخيصة يلي ما بيرضى إنسان ياكلها، من الخيار عم نشتري هاد الخيار الكبير القاسي، والبندورة القرعة الكبيرة، منيح عم نقدر نشتريهم اليوم، يمكن بكرا ما نقدر، لأن كل يوم في سعر جديد، وما بتعرف ليش، لا رقابة ولا محاسبة، دنيا فلتانة صارت عالأخير، إذا كيلو السكر صار بـ14 ألف ليرة سورية، وكيلو التفاح بسبعة آلاف ليرة، والراتب صامد وشامخ مية ألف ما بيتغير! ما طلع ولا مسؤول قدّملنا أي توضيح مقنع حول ليش الغلا عم يصير! كلو بيقلك قيصر وحصار، بس تعا شوف السيارات من أفخم ما يكون، موبايلات وأجهزة كلها موديل السنة!".

ما طلع ولا مسؤول قدّملنا أي توضيح مقنع حول ليش الغلا عم يصير! كلو بيقلك قيصر وحصار، بس تعا شوف السيارات من أفخم ما يكون، موبايلات وأجهزة كلها موديل السنة

ويضيف أبو حسن: "هلق دارجة كل تاجر منتفع وسارق الدولة بدو يركب إنارة بتشتغل عالطاقة الشمسية بالشوارع عنا بالضيع. طيّب ركب بكل بيت ضو واحد بس ولادنا مدارس وجامعات وبدن يدرسوا، البطاريات أسعارها غالية ومانها قدرتنا، شو بدنا بالشوارع، ضوّولنا بيوتنا بالأول، ولّا ما بيمشي الحال إلا إذا مرقوا الناس بالشارع وشافوه منور وذكروكم بالخير! لا تصدّق ما حدا بيعمل خير لوجه الله، كلو سارق ومنافق، ما عاد عنا ثقة بحدا أبداً".

عن مسببات الغلاء الفاحش يقول الصحافي السوري كنان وقاف، وهو أحد أبناء محافظة طرطوس، إنّ النظام يستغل قانون قيصر والعقوبات ليبرر الارتفاع الجنوني في الأسعار، مؤكداً أنّ سبب الغلاء هو النظام نفسه، من خلال "الإتاوات" التي تفرضها الفرقة الرابعة. فبعد أن ترسو البواخر المحملة البضائع في المرفأ وتدفع كل ما يترتب عليها "لن يجري إخراجها إلا بعد توقيع 'غفير' عسكري يتبع للفرقة الرابعة. و'جرّة قلم' هذا الغفير تستلزم رسوماً ليست ضمن قانون الجمهورية العربية السورية، ولا تدخل إلى خزينتها مطلقاً، لكن المتعارف أنها 'إتاوة الرابعة'".

بعد دفع الإتاوة المزاجية التي قد تصل إلى مئتين في المئة من قيمة البضاعة، يستطيع صاحب البضائع إخراجها من المرفأ، ولكنه يبدأ رحلةً جديدةً وشاقةً من الإتاوات المتتالية من حواجز الفرقة الرابعة المنتشرة في كل مكان، فعلى الطرق الدولية الواصلة بين المحافظات تقف الشاحنات على حاجز الرابعة حيث يتم تقدير قيمة الإتاوة بحسب قيمة البضاعة، وبحسب أبعاد الشاحنة وفق قانون عجيب: "يقاس طولها وعرضها مع ارتفاعها مضروباً بالقيمة المالية المفروضة على كل متر مساحة"، وإذا أراد إدخال بضاعته إلى أحد مستودعاته في إحدى المدن الصناعية، فالإتاوة الثالثة تنتظره عند حاجز "الرابعة" على مدخل المدينة الصناعية، وبعد التصنيع أو التجميع يُخرج البضاعة من المدينة الصناعية فيكون حاجز المخرج في انتظاره لدفع الإتاوة الرابعة، ثم الإتاوة الخامسة عند نقلها مرةً أخرى بين المدن والمحافظات لتوزيعها، بحسب وقاف.

وليس من النادر أن تلحق بها إتاوة سادسة أو سابعة. وبعد كل هذه الإتاوات التي لا تدخل خزينة الدولة أبداً، لكنها ستدخل بكل تأكيد ضمن كلفة السلعة التي يشتريها المواطن السوري من السوق، يُسأل؛ من هو المسؤول عن الارتفاع الجنوني في الأسعار: قيصر أم "الرابعة"؟

"هالوطن عم يغدر فينا"

ليس المواطنون العاديون هم فقط من يصرخون في وجه النظام. وصلت الاحتجاجات إلى جرحى الحرب، ولعلّ أبرزهم يعرب مصطفى، وهو ضابط سابق في الجيش السوري النظامي، خرج إلى الناس في مقطع فيديو يتسم بالتلقائية وانعدام التخطيط المسبق، ما أكسبه عفويةً ومصداقيةً شعبيةً وانتشاراً واسعاً لدى الجمهورَين الموالي والمعارض. لفت مصطفى في حديثه إلى جزئية لم تكن موجودةً من قبل في العقل الجمعي العلوي الموالي، إن صحّ التعبير، حيث أكبَرَ من شأن الخدمات التي قدّمها للوطن أو الدولة أو النظام، وعدّ أن ما قدمته له الدولة في المقابل لم يكن بالمستوى المطلوب.

اللافت في حديث مصطفى استخدامه كلمة "وطن" في الجمل ذات المحتوى النقدي العالي، مثل: "لأن شكلو هالوطن عم يغدر فينا... على عينك يا تاجر"، و"أنا مغدور ببيتي من الوطن، أنا مغدور بعلم ابني من الوطن"، و"وطني عراسي وعيني بس إذا بدك تدسلي عطرفي، بدي إحكي وروح أعمل يلي بدك ياه كمان".

بعد مدة من حديثه وكتاباته الكثيرة حول أحوال الناس وواقع النظام، اعتُقل الصحافي وقاف، ابن محافظة طرطوس مرّاتٍ عدة، وذلك بسبب نقده الدائم لسياسات الحكومة والنظام ورغبته في وجود سلطة رابعة، فالوطن بحاجة إلى "صحافة لا يحكمها إلا قول الحقيقة، حقيقة تفضح كلّ فاسد وفساد، تقف في وجه كلّ طاغية ليبقى وطناً يظلّل أبناءه، ولكني نسيت أنّ الفساد عندنا هو الحاكم، والمفسدون هم أزلامه، وأننا مجرّد عبيد في مزرعتهم التي أقنعونا كذباً أنها وطن".

تجاوز كنان الخطوط الحمراء حين بدأ ينتقد تصرفات بشار الأسد التي كان أشهرها انتقاده لقاءه مع سلاف فواخرجي وزوجها وائل رمضان في ظل أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة يعيشها السوريون في الساحل والداخل، ما يعكس لا مبالاة فاقعة، وقد ذيّل منشوراته على فيسبوك بجملة "دام ذُلُّك"، في تهكم واضح على عبارة "دام عزّك يا أسد" التي كان يُذيّل بها الموالون الأشداء صور بشار الأسد ونصوص تمجيده بمناسبةٍ أو من دونها.

جاءت سوريا على مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2023، في المركز 175 من 180 دولةً، بحسب تقرير نشرته منظمة "مراسلون بلا حدود"

اعتقال كنان ليس حدثاً في حدّ ذاته مع إدانة فعل الاعتقال، فسوريا على مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2023، جاءت في المركز 175 من 180 دولةً، بحسب تقرير نشرته منظمة "مراسلون بلا حدود"، في 3 أيار/ مايو الماضي، ووصفت الوضع فيها "بالخطير جداً".

لكن الجدير بالاهتمام في قصص اعتقال وقاف، علاقته مع سجّانيه وعناصر الأفرع الأمنية. فمنهم من كان يتظاهر بتفتيشه أمام الكاميرات دون خلع ملابسه: "قد تستغربون إن قلت لكم إنّ أغلب العناصر والضباط الذين قابلتهم كانوا من المعارضين قلباً، والمحتجين على نظام الفساد هذا، لكنهم خائفون على أنفسهم ثانياً، وعلى عائلاتهم أولاً. ففي أثناء تنقلي بين النظارات حتى أصل إلى مرحلة المثول أمام القاضي، حرص الكثيرون منهم على الهمس في أذني بأقوى الشتائم للنظام!"، يقول وقاف.

ويروي أن سجانيه عدّوه ممثلاً عنهم في المطالبة بحقوقهم إذ همس أحد العناصر في أذنه: "لا تدعهم يكسرونك. ابقَ صوتنا نحن الفقراء". لكنه لم يستمر طويلاً، فاضطرّ إلى الهرب خارج سوريا لينجو بحياته: "كنت أحسّ بصدق مشاعرهم فعلاً، وأقرأ الحبّ في عيونهم، وقد تكون هذه الكلمات من العناصر الأمنية بعد تكرار سجني لاحقاً، هي ما وضع الأمانة في عنقي بوجوب الاستمرار في كتاباتي".

معتقَل يدافع عن سجّانيه

تعاطف العناصر الأمنية مع كنان وقاف، يلخص حالة البؤس والإحباط والشلل التي ابتلى بها النظام طائفته، حيث أوهمها بأنه يدافع عنها، ولم تُكتَشف الخديعة إلا بعد أن خسرت معظم شبابها في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، تماماً مثل أولئك العناصر الذين ينفذون الأوامر مُكرهين، ولا حول لهم ولا قوة إلا بضع همسات في أذن معتقلٍ يدافع عن حقوقهم. ففي الأنظمة القمعية يدافع المُعتقل عن حقوق سجّانيه!

تعاطف السجّانين مع المعتقلين ليس حالةً نادرةً في سوريا، خصوصاً أنّ بطش النظام ووحشيته تجاوزا كل الحدود، ولا يمكن وضعهما -في حالة كنان- ضمن إطارٍ طائفي، إذ من المعروف أن النظام يبطش بكل معارضيه بغض النظر عن انتمائهم.

يذكر المعارض والمعتقل السياسي الدكتور راتب شعبو، أنه تم إطلاق سراح "الطليعة المقاتلة" التابعة لتنظيم الإخوان المسلمين قبل إطلاق سراحه بسنوات عدة، مع أنّ الطليعة المقاتلة هي جماعة سُنّية حملت السلاح في وجه النظام، فيما كان راتب شعبو معارضاً سياسياً شيوعياً، ينتمي إلى الطائفة العلوية ولم يرفع في حياته أي سلاح.

وحول إمكانية انفجار الحاضنة الشعبية للنظام وأسباب تأخرها في اكتشاف فساد الطبقة الحاكمة وزبانيتها، تقول الباحثة والطبيبة النفسية وفاء سلطان (سوريّة من مواليد بانياس على الساحل السوري، وتقيم في الولايات المتحدة)، لرصيف22: "هناك نقطةٌ مهمةٌ جداً يتغاضى عنها الجميع، هي أنّ الثورة لم تنفجر بعد في الساحل ليس من منطلق الخوف من الحكومة فقط، وإنما بسبب غياب الثقة بين شرائح المجتمع، نظراً إلى تاريخ طويل جداً من الاضطهاد الذي أصبحت آلامه مغروسةً في المادة الوراثية للأجيال، لكن في ظلّ الاختناق المعيشيّ وصل بهم الأمر إلى نقطة لم يعد لديهم عندها ما يخسرونه، ولن يكون هناك وضع أسوأ مما هم فيه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image