شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"صورة إيران" الفقيرة في الساحل السوري... كأنهم لم يمرّوا من هنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 14 يوليو 202302:12 م

قبل أشهر، أمضيتُ أياماً في شوارع اللاذقية السورية، أسأل العابرين والعابرات بضع أسئلة، واضحة وبسيطة. كان أوّلها ومفتاحها: هلّا تذكرون لنا اسم فيلم من أفلام السينما الإيرانية؟

وجّهت السؤال إلى نحو ستين شخصاً، عشوائياً، دون انتقائهم، في مدينة توصَف بالمنفتحة، وأكثر العابرين/ ات فيها شبّان/ شابات يدرسون/ ن في جامعتها. وما حصلتُ عليه من إجابات عن سؤالي الأول، لم يتجاوز عددها السبعة، والباقون كانوا يهزّون بأكتافهم ويمضون بغير اهتمام أو أسف.

لم يكن مفاجئاً أن هناك عيّنةً (عشوائيةً بالطبع)، لا تعرف شيئاً عن واحدة من السينمات المهمة في العالم، تنتج ما بين ستين إلى سبعين فيلماً سنوياً، وتلقى قبولاً حسناً حتى خارج ثنائية الاستقطاب السياسي بين النظام والمعارضة. الأمر أيضاً لا يتعلق بعزوف الناس عن الذهاب إلى السينما في مدينة لا صالة سينما فيها ولا عروض، فهناك إنترنت ويوتيوب و"ثريدز".

ولا يتعلق الأمر كذلك بسينما أقل شهرةً من السينما الأمريكية أو الغربية. تعلّقت المفاجأة بأن الإجابات السبع كانت لفيلم "طعم الكرز" للمخرج الراحل عباس كيارستمي، الذي تُرجم اسمه من الفارسية إلى العربية بطريقة غرائبية: "كياروستامي"، وكأن ليس هناك اسم رستم بالعربية (والإشارة من المترجم عن الفارسية غسان حمدان).

أُنتج "طعم الكرز" عام 1997، أي أنّ الإجابات كانت عن فيلم مضى على إنتاجه ربع قرن

أُنتج "طعم الكرز" عام 1997، أي أنّ الإجابات كانت عن فيلم مضى على إنتاجه ربع قرن، وبالتأكيد هناك مئات الأفلام التي تلته، ولكنّ السوريين، أو من سألتهم للدقة، لا يعرفون عنها شيئاً ولا نشمل هنا المشتغلين بالسينما. مع ملاحظة أنّ "كيارستمي" وُصف بشكل عام، بميله إلى معارضة النظام الإيراني برغم قضائه جلّ حياته مقيماً في طهران (ذكّرني بعمر أميرلاي).

يوسف بيامبر علامة ثقافية أم دينية؟

سحبنا السؤال على المسلسلات التلفزيونية، وحصلنا في زمن "العالم ـ شاشة" على علامة تامة لمسلسل "يوسف الصدّيق"، الذي يعاد سنوياً مرةً واحدةً على الأقل على التلفزيون الحكومي السوري، وعلى قنوات تابعة له، وقد حقق انتشاراً هائلاً وعُرض في أكثر من مئة دولة، ودُبلج إلى العربية وغيرها، وضمن الأسئلة لم يذكر أحد اسم مغنٍّ أو مغنية أو أغنية إيرانية.

دون مبالغة، كانت شوارع في اللاذقية وقت عرض المسلسل لأول مرة على شاشة تلفزيون "الدنيا" (حل محله تلفزيون "سما") عام 2010، تخلو تماماً من المارة، برغم أن الكهرباء لم تكن مقطوعةً، بفضل عوامل عدة منها قصة النبي يوسف، والأداء المذهل لطاقم العمل مجسّداً في الممثل القدير مصطفى زماني، وتوقيع المخرج "فرج الله سلحشور" (توفي عام 2016 بعد صراع مع المرض)، وربما خلت الشوارع في أمكنة أخرى، ولكن مسلسلاً آخر للمخرج نفسه، هو "أهل الكهف"، لم يحقق ربع انتشار مسلسل "يوسف الصدّيق". بعد ذلك ساد الصمت.

يوسف پيامبر (بالفارسية)، لم يكن مسلسلاً عن إيران، مثلما كان مسلسل "قيامة أرطغرل"، و"حريم السلطان" عن تركيا، بل كان مسلسلاً عن شخصية يهودية ميثولوجية من العهد القديم، وعبر محاولة التوفيق في العمل بين مختلف السرديات عن تلك الشخصية، حاولت الجهة المنتجة تقديم صورة خلفية لإيران غير طائفية، غير أنّ ذلك اصطدم برؤية مضادة رافضة للعمل من أساسه، إذ إن تصوير الأنبياء مرفوض عند غالبية الفقهاء، فالأزهر تدخّل ضد عرض المسلسل على قنوات مصرية عدة، لكن ذلك لم يمنع انتشاره.

شكّلت هذه المفارقات عتبةً لسؤال العيّنة عن أمور أخرى، فقد ظهر أنّ جزءاً من العيّنة لم يستطع ذكر اسم سلعة إيرانية شهيرة في السوق السورية، غير السجاد وحبوب الكبتاغون وسيارات السّابا كثيرة الأعطال، كما لم يستطِع كثيرون/ ات تذكّر كلمة فارسية أو النطق بها، برغم أن بين العربية والفارسية آلاف الكلمات المشتركة، ولم يخطر على بال مشارك/ ة قول أي كلمة من هذه الكلمات.

ما يمكن استنتاجه من أجوبة العيّنة، ببساطة، أنّ إيران ما تزال قارّةً مجهولةً لغالبية السوريين، وأنها غير حاضرة في حساباتهم (إلا عند المنتفعين بطريقة فجّة من المميزات المادية والسلطوية)، وباستثناء علاقات تجارية، يكاد لا يوجد سوريون في إيران ولا جالية سورية، وربما لم يكن مفاجئاً معرفة أنّ إيران لا تحتضن لاجئين سوريين وأنّها لم تفتح أبوابها لهم، وعموماً ليس لإيران سجل طيّب في استضافة من لجأوا إلى داخل حدودها، فإيران لا تشكّل "دولة استقطاب" لغالبية السوريين على اختلاف طوائفهم. يؤكد ذلك رفض قسم كبير من العيّنة (العشوائية)، الهجرة إلى إيران أو اللجوء إليها، لو أتيحت لهم الفرصة، ويفضلّون عليها مثلاً إيسلندا أو الصومال، وفي البلدين لاجئون سوريون. (أُدين هنا للصديق أحمد حمزة أحمد بفكرة عزوف السوريين عن الهجرة إلى إيران).

قوة إيران الناعمة في الساحل السوري

ما سبق يمكن تصنيفه ضمن مفاهيم القوّة الناعمة، وهي تعني باختصار عملية جذب وتغيير وصناعة الرأي العام عن بلد في بلدٍ آخر، بطريقة ثقافية أو إعلامية لا عنف فيها. وبالضرورة، كل دولة لديها مصادر للقوة الناعمة، ولكن استخدامها وماهيتها هما السؤال المركزي، ووفق الإجابات السابقة التي يمكن تعميمها دون خوف من المجازفة أو الخطأ، فإنّ حضور القوة الناعمة لإيران في الساحل السوري في مرتبة الصفر تقريباً، وتكاد تنحصر في الجانب الديني، وهي ليست صورة "يوسف الصدّيق"، بل تتطابق مع صورة طائفية تكاد تكون وحيدةً، هي "التشيّع"، مع اهتمام قليل باللغة الفارسية (المركز الثقافي الإيراني في اللاذقية فارغ دائماً)، وببعض منتجات إيران الاقتصادية أو الثقافية المصدَّرة حصراً برضا النظام، وليس من بينها الغناء مثلاً.

أمضيتُ أياماً في شوارع اللاذقية السورية، أسأل العابرين والعابرات: هلّا تذكرون اسم فيلم من أفلام السينما الإيرانية؟ ما حصلتُ عليه من إجابات، لم يتجاوز عددها السبعة

نتحدث هنا عن الصورة ومخرجاتها النفسية واليومية بمعناها التمثّلي في ذاكرة البشر، عندما يفكرون في الآخر بغير اصطفاف مسبق، أي بتلك الأجوبة الممكن تصنيفها على أنها عفوية ولا واعية تجذّرها سمة عامة موصوفة عموماً للبلد الذي نتحدث عنه (وقد تكون نمطيةً لا يحكمها العقل)، وهي بذلك تخلو كثيراً من حمولات الموقف السياسي المسبقة، مع الانتباه إلى أنّ صورة السياسة الإيرانية الكلّية متطابقة مع "الشيعيّة"، حتى يكاد فصلهما يكون غير ممكن (ولاية الفقيه).

عند سؤال العيّنة الساحلية عن تركيا، حضرت إجابات مختلفة؛ في الشعر تردد اسم ناظم حكمت، وفي القصة والأدب عزيز نيسين، وإليف شافاق، وأورهان باموق، وفي السينما التركية لم يكن الوضع أفضل من وضع السينما الإيرانية، ولكن في مجالات أخرى كانت المنتجات والسلع والأسماء التركية حاضرةً؛ سمنة كذا وزيت كذا وبسكوتة كذا، ومسلسلات متعددة منها مسلسل "لميس ويحيى" (هكذا ذكر الناس مسلسل "سنوات الضياع")، مع التذكير بأننا نسأل في بيئة منقطعة عن التعامل المباشر مع تركيا منذ عقد وأكثر، ونبحث عن أنواع مختلفة من التأثيرات وعوامل الجذب والتباعد ونأخذ عوامل التاريخ والجغرافيا بعين الاعتبار.

لو توجهنا إلى شمال شرق سوريا، أو شمال غربها، وسألنا الأسئلة نفسها عن تركيا، ربما لن نجد من يجيب عن سؤال السينما، وسنجد من يجيب عن أسماء مسلسلات تركية باتت مشهورةً ومقيمةً في ذاكرة السوريين، منها مسلسل "لميس ويحيى" أيضاً، ولكننا سنجد عشرات المفردات التركية وسنجد عملةً تركيةً ومدارس وجامعات وأعلاماً تركيةً ودون مشكلات مع المجتمعات المحلية (وفق ما نعرف).

بالطبع، إذا سألنا عن إيران في تلك المناطق، فسنحصد إجابات مع تكشيرات ووجوه عابسة ونسمع بكثافة كلمات "الاحتلال الصفوي" و"حزب اللات" و"نظام العمائم والملالي والكفار"، وغير ذلك من مفردات قاموس الكراهية، وذلك ليس ناتجاً فقط عن سياق الانخراط الإيراني في صف النظام السوري ضد أنصار "الثورة" هناك، بل يمتد إلى أسباب أبعد نراها ترتبط بصورة "الدولة".

يتعلق الأمر في شمال غرب سوريا بزوايا قياس مختلفة، ربما متضادة مع قياسات سوريي مناطق الساحل السوري. يقبل جزء من أهلنا في إدلب وشمال غرب سوريا، "التركي"، إذ لم نشهد عمليات عسكريةً ضد الجيش التركي هناك بصفته محتلاً. بالقياس نفسه، يقبل جزء من أهلنا في الساحل السوري "الإيراني العسكري" بتشكيلاته كافة من ميليشيات وقواعد وعناصر ولا يعدّه احتلالاً ولا يقبل "التركي" في الشمال ويعدّه احتلالاً، أمّا "الروسي" فحديث آخر.

هذه التصدعات في قلب الهوية الوطنية السورية تتسع أكثر وتزداد في الساحل السوري تجاه الإيراني (المعزول عن المجتمع)، والمقبول عسكرياً، والمرفوض اجتماعياً، ولنجازف بالقول "حضارياً وثقافياً" ضمن الصورة النمطية المتداولة لإيران، وهي صورة شارك الإعلام والوقائع الإيرانية في صناعتها، وتنخفض تجاه التركي المرفوض عسكرياً، المقبول اجتماعياً وحضارياً، ونبحث هنا عن سحر "النموذج"، وهو حقيقة واقعة ومؤثرة، ونستقصي الأسئلة السورية.

لو توجهنا إلى شمال شرق سوريا، أو شمال غربها، وسألنا الأسئلة نفسها عن تركيا، ربما لن نجد من يجيب عن سؤال السينما

التشييع بصفته قوةً ناعمةً

وإذ نجد مشروعاً تركياً متكاملاً نحو "تتريك" المناطق الشمالية السورية الملاصقة للحدود من الباب الطوراني، نجد مشروعاً إيرانياً لا يعتمد على استعمار جغرافي مثل التركي، بل يتجه نحو إقامة عسكرية أقل رتبةً (قواعد صغيرة ومشاركة إدارة معارك ومواقع)، تستند في قوتها إلى الميليشيات غير المحلية والسلطة السورية. يستند المشروع الإيراني إلى الدولار لا إلى التومان (العملة الإيرانية)، فهو بذلك مشروع نظام سياسي لا دولتي بدليل مضاف: لا يتضمن استعماراً لغوياً (قناة العالم ـ سوريا تبث بالعربية)، وقلة من يتحدثون الفارسية أو حتى يُترجمون عنها خلافاً لإقرار تدريس التركية في مدارس الشمال السوري.

إنّ ثيمة القوة الناعمة الأساسية لإيران، هي "التشيّع" بصفتها قيمةً ثقافيةً رسميةً تتكئ على سياسة عليا تتضمن تعليمات للخميني بتصدير "قيم الثورة الإسلامية" (حتى الآن!)، ومعها محاولات "تشييع" الطوائف الإسلامية الأخرى، وهي واردة في وثيقة رسمية بعنوان "الإستراتيجية الإيرانية العشرية (2005- 2025)".

هذا الإصرار على تبنّي التشييع، يعود إلى بنية النظام الثيوقراطية وإصراره على احتلال المجتمع من باب الشمول والإقصاء والواحدية في الفكر، وحتى نظرته إلى مفهوم القوة الناعمة هي نظرة الشك والريبة والقلق والنفعية الخالصة دون إيمان بالفاعلية، ويمكن ضمن حدود معرفتنا الحديث عن "غربة" واقعة بين النظام الإيراني والحياة الإيرانية، ربما لأنه يعيش في فكر القرون الوسطى لا العوالم المعاصرة برغم لباسه الحداثوي في مسائل العلم والتقنية (التعامل مع غير المحجبات مثالاً).

و"التشيع" بصفته "تصحيحاً تاريخياً" لعمليات "تسنين" قامت بها السلطات الحاكمة بالضد من رغبة الناس وفق المنظور الإيراني، هو عملية تحويل ديني جديدة، وهذا التحوّل ليس سهلاً ولا مرغوباً، ويخضع لعوامل عدة على رأسها الحروب ونوع الحكم، وهو ما فعله الشاه إسماعيل الأول حين حوّل إيران إلى المذهب الشيعي بالإكراه.

هذا يدفع إلى السؤال عن قيمة "التشيّع" (أو "التسنن")، في زمن العولمة وتضاؤل قيمة "الديني" في التعريف الإنساني بالفرد، حتى في مهبط الديانات التوحيدية. بالطبع، يتحمل النقاش هنا وجهات نظر متعددة، ولكن بالنسبة للسوريين فإن هناك قيماً ثقافيةً وحضاريةً أكثر أهميةً من "التشيّع"، ويمكن التعويل عليها أكثر وبما لا يقارن، ونتحدث هنا عن الثقافة والسياحة والاقتصاد والعمارة الإيرانية، من دون نسيان أن للسوريين قيمهم الذاتية.

التشييع مع صعوبة التحول الديني مجتمعياً، لا يمكن عدّه قيمةً ثقافيةً "ناعمةً" مرغوبةً لدى السوري. قراءة أرقام المتشيعين على مدار خمسين عاماً في سوريا (وهي لا تتجاوز مئة ألف شخص من بين ملايين)، وفق مصادر غير محايدة وضد التشيّع، توضح هزالة الظاهرة، وعلى هذا المعدّل ستكون سوريا شيعيةً بعد نحو ثلاثة قرون، وهي كافية لتغيير النظام في إيران.

في الممارسة العملية للتشييع في الساحل السوري، اعتمدت إيران على سياسات بدائية مثل تقديم مغريات مالية وسلطوية مغلّفة برداء الإقناع الفكري، وهي طريقة طفولية، لم تنجح حتى في الأوساط الفقيرة اقتصادياً وفكرياً في الساحل السوري. حدث هذا كذلك في جبل الزاوية في إدلب وفي جوار الرقّة ودير الزور، ويمكن ببساطة الاستنتاج أنه ما أن تتفكك العلاقة بين التشييع وغياب السلطة السورية حتى تختفي الظاهرة.

صعب جداً إقناع العلوي بالتشيّع لكي يتحوّل إلى شخص غايته الموت في سبيل تحرير 'قدس متوّهمة' وفي الباطن يفعل ذلك لأجل بقاء نظام ولي الفقيه

خارج مسألة التشييع ذي الطابع السياسي، فإنّ القيم الأخرى القادمة مع الإيراني إلى الساحل (ويصح ذلك في مناطق عدة)، كقوة ناعمة، هي في حدّها الأدنى مجتمعياً، ولم تستطع تحقيق اختراق للمجتمعات المحلية. الحضور الإيراني في الشارع غير محبوب، وبينما نشاهد حالات زواج في الساحل السوري بين نساء لا يتقنّ اللغة الروسية وعسكر روس لا يتقنون العربية (وهي قليلة ولكنها حصلت)، لم توثَّق حالة زواج واحدة مع الإيرانيين. وبينما حضرت أسماء روسية في عالم المواليد الجدد في الساحل، لم يطلق أحد على مولوده اسم "الخميني" ولا "خامنئي"، ولا حتى رُفع علم إيراني على سبيل الامتنان، وهذه الظواهر البسيطة ظاهرياً تخفي الكثير في العمق.

جدل العلوية والتشييع 

النقطة الفاصلة في تحول التشيّع إلى قضية حاضرة بكثافة في النقاشات المجتمعية والسياسية، هي ارتباط التشييع بـ"ولاية الفقيه"، وهي فكرة مركزية في فكر الخميني ونظامه الثيوقراطي تجعل ارتباط المريدين المتشيعين الجدد بالنظام الإيراني عضوياً جذرياً، أي تخلق بؤراً محليةً جاهزةً دائماً لتنفيذ السياسات الإيرانية أياً كانت (حزب الله نموذجاً)، وإلا فإن التشيّع -بمعناه الديني- من عدمه، مسألة شخصية، ولطالما وُجد من تسنّن أو تشيّع من دون أن يُحدث ذلك لغطاً وتخندقات.

في الأوساط العلوية، يأخذ جدل التشيع شكلاً مختلفاً عن جدل التشيع في الأوساط الأخرى، والسبب أن العلوية (النصيرية) هي فرقة شيعية، مشتركاتها العقائدية مع الشيعة الاثني عشرية، مذهب إيران الرسمي، كثيرة، وتلتقيان في طيف واسع من القواعد الفقهية والنصّية، فكيف يستقيم إعادة تشييعها مرةً أخرى؟

وبقدر المشتركات، هناك افتراقات جذرية بين العلوية (المغالية)، والتشيع الاثني عشري، حاضرة في جانبين أساسيين، الأول هو النسق العقائدي والثاني، وهو الأقوى، النسق الاجتماعي، وهو مصدر مقاومة التشيع الأساسي في الساحل السوري.

تتخندق الخلافات العقائدية في متون نصّية تشير إلى "ضدّيات" كبيرة خلقت افتراقاً بين النهجين العلوي والشيعي، لم تنفع معها محاولات سابقة لإدخال العلوية تحت الغطاء الشيعي الإيراني. كمثال، احتفل العلويون والشيعة بعيد "الغدير" في توقيتين مختلفين تفصل بينهما أيام عدة، وفرق التوقيت ليس مجرد خلاف زمني، بل هو طريقة في إثبات الافتراق والاستقلال من جانب العلوية، خاصةً أنّ معاني عيد الغدير، درّة أعياد العلوية، عند الشيعة الاثني عشرية، تختلف كلياً عن معانيها لدى العلوية، ويمتد الخلاف إلى طقس العيد والصلاة فيه، وطريقة تنفيذه وتعاطي الناس معه، وينطبق الأمر على كل الأعياد المشتركة، وعلى طقوس أخرى تفترق فيها العلوية كطريقة صوفية عن الشيعية الاثني عشرية، بوصفها طائفةً إسلاميةً، ومنها اللطم، فحتى الآن لم نشهد طقوس لطم في الساحل السوري.

النسق الثاني لمقاومة القوة الناعمة الإيرانية ممثلةً بالتشيّع، يتركز في قلب المجتمعات المحلية العلوية

النسق الثاني لمقاومة القوة الناعمة الإيرانية ممثلةً بالتشيّع، يتركز في قلب المجتمعات المحلية العلوية وليس في قلب النص، وسلطة المجتمع أقوى دائماً من النص، وبما لا يقاس في الحالة العلوية بالنظر إلى أنّ حضور النص (والطقس الديني) المقدّس في الحياة اليومية العلنية للعلويين يكاد يكون معدوماً، وتمتد المقاومة من اللباس إلى الحياة اليومية والدينية والاجتماعية وما فيها من عناصر فرعية.

إلى حد كبير، فإن السمة العامة للتديّن الشيعي أنه نكوصي، أو بتعبير أدق "نيكروفيلي"، أي محب للموت على حساب الحياة، وطقوس اللطم تفسّر ذلك كثيراً، انظر/ ي مثلاً إلى طقوس "التطبير" الدموية مقابل الرقص الشعبي الإيراني أو العلوي المليء بالحياة، في حين أنّ التدين العلوي يحتفي بكل ولادة جديدة للمريدين، مع ملاحظة أنّ التدين عند العلوي مسألة شخصية والخلاص من الثوب البشري والرجعة إلى النور الإلهي وفق الميثولوجيا العلوية مسألة فردية، والحياة بسيطة لا تتحمل كل هذا الاصرار على استحضار الماضي ولا هذه الطقسيات القاتلة، ولذلك، ووفق نقاش مع مؤرخ سوريّ، فإنه "صعب جداً إقناع العلوي بالتشيّع لكي يتحوّل إلى شخص غايته الموت في سبيل تحرير 'قدس متوّهمة' وفي الباطن يفعل ذلك لأجل بقاء نظام ولي الفقيه (في الحالة السورية نقاش آخر مختلف)".

طقوس الدين وساحاته تلعب دوراً مهماً هي الأخرى، ومسيرة ألف عام من العيش مع التزامات دينية مختلفة صوفية الطابع في الحياة اليومية العلوية (الصلاة والأعياد ضمن البيوت)، جعلت من الحسينيات اختراعاً غير مقبول مجتمعياً، وبرغم بنائها في مناطق مختلفة مثل ريف حماه (بيت غازي، تل صياح)، واللاذقية، إلا أنّها ما تزال علامات ناشزةً مجتمعياً، ومثلها المدارس الجعفرية التي دعمتها وزارة الأوقاف (في رأس العين، جبلة) التي أُغلقت. والنتيجة حتى الآن هزيلة، والخوف هو من أنّ يؤثر هذا الاختراق على الأجيال الجديدة في غياب مرجعيات دينية علوية ذات تأثير، مع استمرار السلطة في التدخل في إنتاج هذه الطبقة الاجتماعية.

ثم يأتي موضوع المرأة، باعتبار النساء العلويات ممنوعات من التعاطي مع العقيدة الدينية العلوية، لذا فإن فرصة جذبهنّ ناحية التشيع متاحة بشكل أكبر، ولكن التشيع بشكله المعروف عند نساء الجبال أقل جذباً، فمن ناحية الشكل يقتضي التشيع أنماط حياة وارتداء حجاب والالتزام بطقوس غريبة على المجتمع العلوي، مثل اللطم والخرطات وحتى الأكل، وهذه كلها تتناقض جذرياً مع أنماط حياة نساء الجبال الأبسط من ذلك والأجمل برأينا.

ومع انتشار التعليم، نشأت فئات نسائية ذات تعليم عالٍ، وهو ما انعكس على المجتمع وعلاقاته البينية، أبعدت شبح التدين وعالمه، وعززت حضور العولمة في مجتمع مفتوح على التأثيرات الكونية، فأحدث الموضات حاضرة هنا، وهذا يتناقض كلياً مع أنماط حياة التشيع السوداء الداعشية، لا بل إن العلاقات النسائية مع المجتمعات المحلية غير العلوية المجاورة، تركت تأثيراً لجهة تحول هذه الأنماط من المعيشة إلى بؤر جاذبة، الملابس وتحوراتها في الموضة نموذجاً. وحتى الآن فإنّ نتائج تشييع النساء ضئيلة جداً باستثناء بعض نساء رجال الدين العلويين الذين تشيّعوا وتحجبت زوجاتهم وبناتهم (وهم وهنّ قلّة قليلة جداً).

في لقاء مع سيدة علوية خمسينية متشيّعة حديثاً، تكرر عبارات شيعية عند كل حركة تقوم بها، سألتها: طالما تشيّعتِ بعد صراع طويل مع زوجك، لماذا لم تتحجّبي وهذا فرض عند الشيعة كما السنّة؟ فأجابت بأنها "تشيّعت لقناعة في رأسها، ولكنها لا تقبل تغطية عقلها بأي حجاب!".

"أين يسكن الصديق؟"

يمكن الآن القول إنّ "صورة إيران" في الساحل السوري، خارج النسق الديني، بعد أطنان من الكلام والمخاوف منذ السبعينيات حتى اليوم في هذه المنطقة، فقيرة إلى درجة رثة، ودعونا من الأرقام الرسمية للاقتصاد والكلام الحكومي المنمّق، ودعونا من المغالطة المنطقية في جملة "التغيير الديمغرافي"، إذ يبدو فعلياً أن النتيجة لا تستحق كل هذا التعب الإيراني (عدا طبعاً تصنيع الكبتاغون).

"أين يسكن الصديق؟"؛ هو عنوان قصيدة للشاعر الإيراني سهراب سبهري، استخدمها عباس كيارستمي، في عنونة فيلم من كتابته وإخراجه (عام 1987)، يحكي قصة تلميذ يحاول إيصال دفتر واجبات صديق له في المدرسة أتى به عن طريق الخطأ إلى بيته، ويخوض في سبيل ذلك رحلةً طويلةً من قريته إلى قرية صديقه بحثاً عن بيته وعنه، وبرغم اجتهاده ومحاولاته المتكررة ووصوله إلى باب بيت صديقه، إلا أنه يفشل في العثور على "الصديق". هل هذه هي حكاية إيران؟ ربما. في اليوم التالي يفاجئ التلميذ صديقه بتسليمه الدفتر بعد إنجازه الواجب نيابةً عنه. هل هذا هو المطلوب من الصديق؟ بالتأكيد لا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image