شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عن الشرخ بين الطائفة و

عن الشرخ بين الطائفة و"سيادته"... ماذا يقول العلويون عن التقارب السعودي-السوري؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

Enemies become allies, Alawites' take on the unlikely Saudi Syrian rapprochement

لعلّ أكثر ما يميز الشعوب العربية -خاصةً في هذا العصر- هي الذاكرة القصيرة. ولعل الشعب السوري يحتل مراتب متقدمةً من حيث قصر ذاكرته. أو ربما لا تكون قصيرةً في حقيقتها، وإنما فُرِضَ عليها أن تكون قصيرةً بسبب انشغال النسبة الكبرى من خلاياها الدماغية (ومن ضمنها الذاكرة)، في صراعات ومشكلات وحروب يومية، سواء عسكرية أو سياسية أو طائفية، كانت آخرها وأقساها المعركة المعيشية، فالراتب الذي بات يعادل -حتى ساعة كتابة هذا المقال- نحو 15 دولاراً أمريكياً كحد أقصى، اضطرّ الناس في سوريا، ومن ضمنهم العلويون، إلى الانشغال بتأمين حاجاتهم الأساسية، التي أعادتهم إلى العصر الحجري.

لكنّ الذاكرة الجَمْعية السورية، والعلوية تحديداً، على قصرها، لم تنسَ التشبيه الذي أطلقه الرئيس السوري بشار الأسد، في أحد خطاباته بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز/ يوليو من عام 2006، والتي وصف فيها الحكام العرب "بأشباه الرجال"، وما تلاها في خطاباته من وصفهم بـ"مشيخات النفط والغاز"، والتعالي عليهم في ما يخص "الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان"، و"حقوق المرأة"!

 الأسد، في أحد خطاباته بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز/ يوليو من عام 2006، وصف الحكام العرب "بأشباه الرجال"

عام 2013، قال مندوب سوريا لدى مجلس الأمن بشار الجعفري، في بيان سوريا قبل اعتماد الجمعية العامة لمشروع القرار الذي قدّمته السعودية، والمعنون "حالة حقوق الإنسان في سوريا"، إنّ "ما يدعو للاستهجان والسخرية هو أنّ النظام السعودي الذي يمثل ذروة انتهاكات حقوق الإنسان لشعبه وللمسلمين وللعرب والراعي والمصدر الرئيسي للإرهاب الأصولي التكفيري إلى كل دول العالم والعواصم العربية ودول الساحل الإفريقي، يقدّم مشروع قرار يطالب فيه بحماية حقوق الإنسان للشعب السوري".

وفي 18 أيار/ مايو 2023، قال وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، في تصريحات أدلى بها لقناة الإخبارية السعودية: "أنا سعيد بالعودة... بانعقاد القمة العربية على هذه الأرض الطاهرة، أرض نبي الإسلام وأرض العروبة. السعودية بذلت جهداً هائلاً من أجل تحسين الأجواء العربية ومن أجل احتضان جميع الدول العربية"، قبيل مشاركة الأسد نفسه في القمّة العربية التي أقيمت في جدة لاحقاً.

من الإرهاب إلى الوحدة

"حين سمعتُ بخبر التقارب مع السعودية على إحدى إذاعات الراديو، بينما كنتُ أرعى الأغنام في أرض مجاورة للمنزل، تذكرتُ خطاباته (يقصد الرئيس) عن آل سعود وأشباهِ الرجال. حينها علمتُ أننا نحن من أصبحنا أشباه رجال، وسألتُ ابن أختي الذي يرافقني (في الرعي)، فأجابني: بل أصبحنا 'أشباه بني آدمين' (أي أشباه بشر)، من قلة الغذاء وكثرة العمل. فما أن نعود من الدوام الرسميّ حتى نذهب إلى عملنا الثاني، ونحن نفكر في إيجاد عملٍ ثالث. وأتساءل: هل ستُطرح هذه المسألة في اللقاءات السعودية السورية؟"؛ يقول صافي (49 سنةً)، وهو مدرّس علوم طبيعية سابقاً وأمين مخبر حالياً في إحدى مدارس ريف طرطوس، و"راعي أغنام بعد الدوام"، كما يصف نفسه.

أما هشام (27 عاماً)، وهو شاب يدرس الهندسة المعلوماتية في جامعة تشرين في مدينة اللاذقية و"يُرسّبُ نفسَه" هرباً من "سَوقه" إلى الخدمة الإلزامية، ويعمل على تقديم مشاريع برمجة "فري لانسر" مع إحدى الشركات الخليجية، فيقول: "لقد كذبوا علينا، لا يمكن إحصاء عدد التحليلات والمقابلات مع المحللين الإستراتيجيين الذين كانوا يخرجون علينا لساعاتٍ طويلة على قنوات الإعلام الوطني، وهم يحرّضون الناس ضد آل سعود والوهابية في السعودية ودورها في تهريب الإرهابيين إلى داخل سوريا ودعمهم عسكرياً ولوجستياً. وفي النهاية يقولون: 'لقد غيّرتْ السعودية نهجها'. وبما أنها غيّرتْ نهجها، هل هناك من يعيد لي أخي وابن عمي وابن خالتي من تحت التراب؟".

وكان الرئيس السوري بشار الأسد، قد قال في حديث إلى التلفزيون البيلاروسي في أيار/ مايو 2017، إن "داعش والنصرة لديهما العقيدة الوهابية نفسها، والعقيدة الإرهابية نفسها، داعش والنصرة وأردوغان (الرئيس التركي)، وهو من الإخوان المسلمين، أيضاً لديهم العقيدة نفسها، طبعاً أيضاً مع آل سعود ومع آل ثاني في قطر، كل هذه المجموعات تجمعها العقيدة الوهابية المتطرفة، كل هؤلاء هم أدوات في يد الولايات المتحدة".

لقد كذبوا علينا، كانوا يحرّضون الناس ضد آل سعود والوهابية. وفي النهاية يقولون: 'لقد غيّرتْ السعودية نهجها'. وبما أنها غيّرتْ نهجها، هل هناك من يعيد لي أخي وابن عمي وابن خالتي من تحت التراب؟"

أيضاً، يذكر هشام حديثاً له (يقصد الأسد)، قبل بضع سنوات، حين سأله أحد المذيعين في إحدى المقابلات حول هل من الممكن أن تعود العلاقات مع الدول المعادية لسوريا، مثل قطر والسعودية وتركيا، بعد انتهاء الحرب؟"، فأجاب قائلاً: "إنّ هناك ضحايا سوريين سقطوا بسبب دعم هذه الدول للمجموعات الإرهابية، ولا أستطيع أن أقرر عن الشعب، لذا سألجأ إلى سؤالهم عن طريق الاستفتاء الشعبي". ويتابع الشاب العشريني: "من هو الذي سُئل؟ وهل سُئلنا يوماً عن شيءٍ في هذه البلاد؟".

البقاء للمصالح

رواد (33 عاماً)، موظفٌ حكومي في مدينة اللاذقية (لم يفقد أحداً من أقاربه في الحرب)، ولكن وصل وضعه المادي إلى الحضيض، حسب وصفه، في ظلّ عجزه عن إيجاد عمل آخر، فأيّ راتبٍ يُعطى، سيصبح صفراً في حال طرحتَ منه أجرة النقل وتكاليف الطعام واللباس. يقول: "نحن لم نكن يوماً أصحاب قرار كشعب. لقد تم إيهامنا بأننا نمتلك القرار، وأننا نتحرك بإرادتنا. ولكنّ الحقيقة هي أنّه يتم تحريكنا. لذا لا خيار لنا لا في رفض أو لا في قبول التقارب السعودي السوري. ونحن بحاجة إلى كل ليرةٍ لكيلا نتبهدل 'أكثر مو متبهدلين'".

يتابع رواد: "لا أريد أن أتكلم في السياسة. كل من يتكلم فيها غبي، السياسة عالمٌ قذرٌ، لا بقاء فيه سوى للمصالح، تُرمى فيه إرادات الشعوب وتتعفن عندما يتفق القادة، فكما يقول محمود درويش: 'غداً تنتهي الحرب ويتصافح القادة، وتبقى تلك الأم تنتظر ابنها الشهيد'. فالقدر هو إرادة الدول الكبرى والعسكر، التي تم تغليفها بإرادة الشعوب وتطلعاتها، لكنها قشرةٌ سرعان ما تسقط".

برأيه، إن كانت ستنتج عن هذا التقارب زيادة 100 ألف ليرة سورية (أي نحو 13 دولاراً أمريكياً) على الراتب، فأنا معه. نحن لم نعد نستطيع الانتظار أكثر؛ قرفنا".

لا ينسى العلويون الذي والوا الأسد كُل خطاباته وهجومه على حكام الخليج 

يقول ياسر (49 عاماً)، وهو علويّ المولد (كما يحب أن يصف نفسه)، درس الفلسفة في فرنسا: "منذ توليه السلطة، لم يقدّم بشار الأسد نفسه رئيساً علوياً أو رئيساً لطائفة، على عكس ما رأته أغلبية البسطاء من العلويين. وفهموا عدم كلامه في الطائفية أو قلة زياراته في بداية الحكم 'تقيةً سياسيةً ودينيةً'، وأنه يريد أن يكون رئيساً لكل السوريين في الظاهر (على الأقل)، أما أجهزة الأمن والجيش، فتعمل وفق تركيبةٍ طائفيةٍ واضحةٍ كعين الشمس. ولكن بعد الحرب، وبعد عام 2018 تحديداً، أصبح العلويون (حتى البسطاء منهم)، يشعرون بأن هناك شرخاً كبيراً بينهم وبين 'رئيسهم العلوي'. وأعتقد أن ما فهموه تقيةً كان في حقيقة الأمر تهرباً من انتمائه الطائفي، إذ كان يريد تصوير نفسه على أنه مسلم فقط، ونقطة انتهى".

يسكن ياسر في الريف الساحلي منذ عقود، ولم يغِب عن محيطه القروي سوى خلال تلك السنوات الأربع في فرنسا. لم يسمع يوماً أنّ الرئيس زار المقدسات العلوية المعروفة أو شارك في الطقوس الدينية العلوية أو في الصلاة الباطنية. يقول: "لقد تكشّفَ هذا الشرخ لغالبية العلويين بشكل أوضح بعد التقارب مع السعودية. البعض أحسّوا بالخذلان بعد أن قضى أولادهم في الحرب، والبعض الآخر أصابهم الإحباط التام منذ زمن بعيد ولم يعد لهم أي رأي أو موقف، ولا يريدون سوى إطعام أطفالهم".

كذبة "إنهاء المعاناة"

تعليقاً على كلمة الأسد في قمة جامعة الدول العربية، في 19 أيار/ مايو الماضي، وما ورد فيها من تكرار الكلام المبهم ذاته والخطاب الخشبي والتأكيد على ما يسمى "التمسك بالقيم والمبادئ، والطعن في المبادئ الغربية التي أنتجت له كل ما يستخدمه في حياته من أدوية وأجهزةٍ طبية وتكنولوجية وآلات ومعامل وطائرات... إلخ"، يقول هادي (33 عاماً)، وهو سوري-لبناني وُلد في طرابلس، وأخذ شهادة الاقتصاد من جامعة طرطوس: "لدى الحديث عن القيم الغربية علينا أن نتذكّر أنّ قيمة الناتج المحلي لولاية كاليفورنيا يفوق إجمالي الناتج المحلي لجميع دول الشرق الأوسط مجتمعةً". ويضيف: "الدين والقيم والمبادئ أشياء يتسلى فيها الفقراء. يواسون أنفسهم بها، أما المجتمعات الناجحة فيلهيها البحث عن شيء جديد".

بعد الحرب، وبعد عام 2018 تحديداً، أصبح العلويون يشعرون بأن هناك شرخاً كبيراً بينهم وبين 'رئيسهم العلوي'. وأعتقد أن ما فهموه تقيةً كان في حقيقة الأمر تهرباً

حول مخرجات القمة العربية الأخيرة، التي وصفها مراقبون "بالاستثنائية"، يقول الكاتب والمعارض العلوي والمعتقل السياسيّ، الدكتور راتب شعبو على صفحته الشخصية على فيسبوك: "صار النظام السوري 'لا تلقني بتشقني'، حيث تقول مسودة بيان القمة العربية بضرورة 'إنهاء معاناة الشعب السوري'. ولكن حتى هذه الجملة البسيطة ستكون ثقيلةً على مسمع أهل النظام السوري، لأنه لا يمكن الهرب من حقيقة أن هذه العبارة تتطلب من النظام تغييراً هو غير قادر عليه. لا على مستوى إعادة استيعاب اللاجئين ولا على مستوى إنجاز تسوية مع بقية القوى السياسية السورية. النظام السوري انكمش حتى صار على مقاس سوريا المقسمة والمحرومة من الملايين من أبنائها".

في الختام، نحن جميعاً كسوريين كنا وقود هذه الحرب. كلٌّ منا اعتمد على طرف، وفي النهاية تخلى عنا الجميع، وبقينا وحدنا نصارع ما تبقّى لنا من سنوات الحياة. إنها رسالة منا، نحن الجيل الذي عاش هذه الحرب. لا تكررونا، في الحرب الجميع خاسرون، الشعوب تموت جوعاً أو ملفوفةً بأعلامٍ وهمية، ويبقى الكرسي كما هو: لا علم له ولا انتماء ولا هوية، ولا يكترث سوى بقوائمه الأربع. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image