لم تعد قطر تُذكَر في العديد من الملفات العربية. لا تحركات ولا أدوار، منذ اتفاق المصالحة في مدينة العلا السعودية عام 2021، وخير مثال على ذلك الأزمة السودانية التي تغيب عنها الدوحة كلياً. يرى المحللون القطريون أن بلادهم تبنّت نهجاً توافقياً داخل البيت الخليجي، يتجنب التناقضات والمنافسات الإقليمية، مع تفضيل التدخلات في الملفات الدولية فقط.
يشبه الدور الإقليمي القطري الحالي وصوتها الخفيض، دورها قبل العام 1995، حينما كانت السياسة الخارجية لا تخرج من الهيكل الإقليمي، لكن الفارق اليوم أنها على المستوى الدولي فعالة وأنشط وتحقق لنفسها سمعةً طيبةً.
السياسة الخارجية القطرية
بدأت السياسة الخارجية القطرية بالنهوض مع وصول إدارة جديدة إلى السلطة في حزيران/ يونيو 1995، وذلك عندما جرى تغيير في القيادة وتولى حمد بن خليفة الحكم مع نخبة "طامحة". في عهد والده الشيخ خليفة بن حمد (1972-1995)، كانت السياسة الخارجية القطرية تتفق مع هيكل النظام الإقليمي، لكن الأمر تغيّر في العام 1995، عندما حاول حمد بن خليفة تبنّي إستراتيجيات وسياسات خارجية أكثر استقلاليةً من جيرانه الإقليميين.
يقول مدير عام مركز "ستراتيجيكس" للدراسات والأبحاث الإستراتيجية، حازم الضمور، لرصيف22، إن "فترة ما بعد حرب الخليج، كانت بمثابة جرس إنذار بأن دولةً صغيرة الحجم جغرافياً مثل قطر، لن تتمكن من الصمود دون اتّباع إستراتيجيات تحفز سياساتها الخارجية لكسب مكانة إقليمية متقدمة".
فكرت الدولة القطرية في الوصول إلى أرجاء الوطن العربي كافة، إعلامياً، عبر تناول موضوعات، من خلال قناة الجزيرة التي أنشأتها في العام 1996، كانت تعدّها نظيراتها العربية من المواضيع المحرمة والمحظورات.
ويرى الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس سلام الكواكبي، أن قطر "استفادت من التدهور الثقافي والإعلامي للمراكز الحضرية التقليدية الكبيرة في المنطقة العربية، بغداد وبيروت والقاهرة ودمشق، للعب دور رائد كمركز إقليمي للثقافة العربية".
قطر حصلت في تسعينيات القرن الماضي، على مزيج من الثقة والحماية والموارد لممارسة سياسة خارجية فعالة ونشطة ومستقلة، فكبرت طموحات قادتها، لكن ما الذي تغيّر اليوم؟
يضيف: "كان نهج الشيخ حمد بن خليفة موجهاً نحو التغيير، والابتعاد عن الوضع الراهن، والاستفادة القصوى من إمكانات البلاد ومواردها الطبيعية. وهكذا عكست سياسة قطر الخارجية منذ العام 1995، بوضوح، مصالحها الوطنية وطموحات قادتها الإقليمية واحتياجاتها الأمنية".
وتمتلك قطر أكثر من 24 تريليون متر مكعب من الغاز، أي ما يقارب 13% من الاحتياطيات العالمية، وتبلغ طاقتها الإنتاجية نحو 79 مليون طنّ سنوياً، وهو رقم من المتوقع أن يتضخم إلى 126 مليون طن بحلول عام 2027؛ وهي تسيطر حالياً على 25% من هذا السوق في جميع أنحاء العالم، ما يساعدها في تمويل الكثير من مصادر قوتها في المنطقة، مثل منحة دفع الرواتب لموظفي قطاع غزة.
كذلك، عززت قطر أهميتها بعدما وافقت على فتح مكتب تجاري لتمثيل المصالح الإسرائيلية عام 1996، ثم نقل القوات الأمريكية من السعودية إلى قاعدة العديد في قطر في عام 2003، والتي أصبحت مقرّ القيادة المركزية الأمريكية في المنطقة.
برأي الضمور، فإن "قطر حصلت في تسعينيات القرن الماضي، على مزيج من الثقة والحماية والموارد لممارسة سياسة خارجية فعالة ونشطة ومستقلة، في ضوء اكتشافات الغاز والعوائد المالية الضخمة التي وضعت البلاد على خريطة النظام المالي العالمي، والعلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، وبذلك وفرت تلك المتطلبات طموحات الدوحة إلى أن تصبح قوةً إقليميةً".
وصل الدور القطري إلى قمته من حيث النشاط والفعالية والقيادة والاستقلال الإقليمي والاشتباك في الفترة ما بين عامي 2011 حتى 2014، عندما قادت الإجماع العربي، في كثير من القضايا المتعلقة بالربيع العربي، خصوصاً طرد سوريا من الجامعة العربية وعزل النظام وعززت الدعم لخصومه.
يرى الضمور أن قطر قبل العام 2011، كانت تقدّم نفسها على أنها صديقة للكلّ، وطرف محايد في بيئة عالية الاستقطاب، وأقامت علاقات مع مختلف الفرقاء في المنطقة من دول الخليج وإيران وإسرائيل. ويشير إلى أن أحداث "الربيع العربي عام 2011، مثلت تغييراً في سياسة قطر الإقليمية، ولم تعد تهدف إلى ترسيخ نفسها كدولة محايدة، بعد أن وجدت فيه الفرصة للانخراط في تشكيل النظام الإقليمي القادم والمستقبل العربي".
العودة إلى ما قبل 1995
في عام 2017، قررت السعودية والإمارات والبحرين ومصر فرض حصار على قطر وقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية معها. وتم تقديم قائمة من 13 شرطاً إلى الدوحة للمصالحة معها، وكانت تشتكي هذه الدول من تدخلات قطر الإقليمية ودورها في تغذية مشاريع الإسلام السياسي التي تخاف منها تلك الدول كثيراً، وهي بالفعل كانت منخرطةً في دعم الإخوان المسلمين الذين لجأ غالبية قادتهم إليها وإلى تركيا حليفتها القوية أيضاً. كذلك، كان مصدر القلق الرئيسي للسعودية، يكمن في سعي قطر إلى سياسة خارجية مستقلة، بما في ذلك تعاملها مع إيران.
فشل العمل المشترك للرباعية العربية في تحقيق أهدافه السياسية، إذ لم تعلن قطر تلبية أي من المطالب الثلاثة عشر. وسارعت السعودية ومصر إلى المصالحة معها بعد سنوات من الجفاء والقطيعة، وأنشأت الرياض والدوحة معاً مجلس تنسيق سعودياً قطرياً، برئاسة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والأمير تميم بن حمد، لتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي.
يقول المحلل السياسي القطري صالح غريب، لرصيف22، إن "بلاده ظلت تطلب الحوار حتى وافقت الدول التي حاصرتها ونجحت في ذلك، واعتمدت الحوار بالشكل الجديد الذي اتخذته في تعاملها مع ملفاتها حول قضايا المنطقة".
صحيح أن قطر لم تعلن تلبية أي شروط للدول الأربع، لكن اختفى دورها الذي كان محل خلاف في العديد من الملفات الإقليمية والأزمات التي اندلعت في الوطن العربي مقارنةً مع ما قبل المصالحة.
دول الخليج بعد قمة العلا قبل سنتين، أصبحت تتبع سياسات موحدةً خاصةً تجاه القضايا الدولية، وهو ما أدى إلى تغيير إيجابي في سياسات قطر تجاه جيرانها، فكيف تبلور ذلك؟
وكان حضور الرئيس السوري بشار الأسد قمة الجامعة العربية، في أيار/ مايو الماضي في جدّة، أول اختبار واضح لمدى صمود الدوحة في إعلانها المتكرر عن رفض تلك الخطوة التي ترعاها السعودية. وأظهر عدم معارضة قطر لعودة عضوية سوريا مدى تراجع الدوحة في محاولتها أن تكون صوتاً دبلوماسياً له ثقله في الشرق الأوسط.
وسحبت قطر على مضض معارضتها لمبادرة المملكة العربية السعودية لإعادة قبول سوريا. وأوضحت أنها تعارض تطبيع علاقاتها مع دمشق، لكنها قالت إنها لن تقف في طريق الإجماع العربي، وفقاً لوكالة رويترز. وقال بلال تركية القائم بأعمال البعثة السورية المعارضة في الدوحة للوكالة في ذلك الوقت: "قطر لم تقبل هذا القرار لكنها لم تقف في طريقه."
يقول غريب: "على الرغم من موقف قطر من النظام السوري، لكنها حضرت وشاركت في القمة لأجل الإجماع العام، لكن موقف قطر لم يتغير أبداً وبقي ثابتاً".
ويقول محللون إن التغيير في موقف الدوحة بشأن سوريا، مؤشر على أنها ربما تتراجع عن سياستها الخارجية الإقليمية التي كانت طموحةً في السابق، لتجنّب إثارة حفيظة أقوى جيرانها.
من جهته، يرى الضمور أن "دول الخليج بعد قمة العلا قبل سنتين، أصبحت تتبع سياسات موحدةً خاصةً تجاه القضايا الدولية، وهو ما أدى إلى تغيير إيجابي في سياسات قطر تجاه جيرانها وفي نظرتها لأهمية العلاقات معهم".
وقال جورجيو كافيرو، الرئيس التنفيذي لشركة Gulf State Analytics ، لرويترز، إن "قطر لم تكن تريد أن تلعب أي دور معوّق في عودة سوريا، من شأنه أن يجازف بإغضاب القيادة في الرياض والعواصم العربية الأخرى".
ولم يكن لقطر رأي يُذكر في محادثات السلام بين جماعة الحوثي اليمنية والسعودية، أو في السعي إلى إنهاء القتال بين الفصائل العسكرية المتناحرة في السودان، وهو ما تحدث عنه دبلوماسي غربي لرويترز، مشيراً إلى أن "قطر تعطي الأولوية لعلاقة عمل جيدة مع جيرانها، وهذا هو سبب انخراطها في اليمن والسودان بشكل أقل مما كان عليه في السابق".
واكتفت قطر مؤخراً بنهج العمل المشترك الذي يجنّبها الصدام في الملفات الإقليمية، إذ اتفق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والشيخ تميم بن حمد، في حزيران/ يونيو الماضي، على إطلاق مبادرة مشتركة لدعم الشعب السوداني.
في رأي الضمور، فإن "قطر تعيد تموضعها الإقليمي بعيداً عن اصطفافها السابق إلى جانب تركيا وإيران، وتتبع سياسةً خارجيةً أكثر حذراً تجاه التناقضات خاصةً في دعمها للجماعات الإسلامية".
ويقول غريب إن دور قطر "أصبح أكثر ثباتاً وتطوراً من ذي قبل، وهذا يظهر من خلال تواجدها الفاعل في اجتماعات دول مجلس التعاون الخليجي". ويضيف: "دور قطر برغم الحصار أو المقاطعه لم يتغيّر، لكن بعد المصالحة أصبح البيت الخليجي متّحداً أكثر ومتوافقاً في القضايا الخليجية المصيرية وهناك إجماع على كل القضايا".
ويتابع المحلل القطري: "ستظل قطر 'كعبة المضيوم' (مصطلح قطري للترحيب بالسياسيين الهاربين)، لكنها اتخذت شكلاً جديداً في دعم القضايا العربية وتقديم المساعدات للشعوب العربية".
الانتقال إلى الدور الدولي
حالياً، تُحافظ قطر على طموحها بأن يُعترَف بها كقوة إقليمية، وبأدواتها الأخرى، وفقاً للضمور، الذي يشير إلى أن الدوحة اتجهت نحو تعظيم صورتها الخارجية كدولة شرق أوسطية رائدة عبر تنفيذ أهم نشاط رياضي عالمي إذ استضافت بنجاح كأس العام عام 2022.
اقتنعت دول مجلس التعاون الخليجي بدور قطر في حل الخلافات في ملفات دولية، وظهر ذلك في محطات عدّة، في مقابل اقتناع قطر بعدم خروجها عن "بيت الطاعة" الخليجي
ويرى غريبة أن قطر استثمرت المصالحة الخليجية في دورها في تقريب وجهات النظر مع إيران والسعودية وأمريكا وأفغانستان، وانتقلت أكثر إلى التركيز على الملفات الدولية الكبرى لأنها أصبحت تملك القوة والتجربة في حل القضايا الدولية، خصوصاً أن لديها علاقات متوازنةً وجيدةً مع الجميع في المجتمع العالمي.
وتلعب قطر دور الوسيط بين إيران والولايات المتحدة، وقدمت مكتباً سياسياً لطالبان الأفغانية خلال صراعها ضد واشنطن. كما توسطت بين مختلف الفصائل الأفغانية وسهلت المحادثات بين طالبان والولايات المتحدة التي أدت إلى اتفاق الدوحة والتوسط بين إثيوبيا وإريتريا في 2018، واستضافت محادثات السلام بين السودان والجماعات المتمردة في 2019.
ورأى الصحافي الفرنسي نيكولاس بو، في تقرير في موقع "موند أفريك" الناطق بالفرنسية، أن "قطر تقوم في الوقت الراهن بأكبر نشاط دبلوماسي في إفريقيا".
في آذار/ مارس الماضي، نجحت الدوحة في تحقيق أحد أكبر إنجازاتها الدبلوماسية في الوساطات الخارجية، إذ أعلنت الولايات المتحدة عن الإفراج عن المعارض الرواندي بول روساباجينا، بعد حصوله على عفو من الحكومة الرواندية من عقوبة بالسجن لمدة 25 عاماً بفضل تدخّل الدوحة.
"أعتقد أن دول مجلس التعاون اقتنعت بعد الأزمة الخليجية بدور قطر في حل الملفات الدولية، حتى دول العالم ومنها أمريكا اقتنعت بذلك الدور وباتت تعتمد عليها"، يختم غريب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.