شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أصبحتُ شيفاً مكتمل الأركان، ليس له وطن بل ذكريات

أصبحتُ شيفاً مكتمل الأركان، ليس له وطن بل ذكريات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الاثنين 21 أغسطس 202311:52 ص

غزة، تلك المساحة المحدودة جغرافياً واجتماعياً، والتي يمكن قطعها من أولها لآخرها في أقل من ساعة؛ جعلتني جزءاً لا يُمكن أن ينفصل عن العائلة، منزلها، حكاياتها، عاداتها، مخاوفها، وغيرها من الأشياء التي لا يكفيها قولٌ ولا مَقال. هذا الاستسلام للجوّ العائلي، لم يجعلني أحظى بفرصة أن أعرف "المطبخ" كما عرفته في الغربة، سواء أكان ذلك بحُكم العادة أم بحُكم الكسل، فلم أكن مضطرّاً أن أدخل إلى المطبخ بعد انتهاء عملي، ولكنّ أمي كانت مضطرّة أن تقوم بذلك... كلّ يوم، على مدار ثلاثين عاماً، دون كسل أو ملل. ثمّ صار أن صرتُ مضطرّاً مثل أمي، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل امتد لأبعد من فكرة الاضطرار، وتحوّل من "حاجة" إلى "وسيلة" أهرب بها من الوطن والذكريات والأيام الثّقال.

مفارقات بيتية

عندما أصبحتُ جزءاً منفصلاً عن العائلة، أصبحَ دخولي إلى المطبخ بعد الانتهاء من العمل أمراً لا مفرّ منه. أدخل البيت في حدود السابعة مساءً وأنا أحمل مجموعة من الأكياس التي كان على أبي أن يحملها كلّ يوم دون كللٍ أو ملل، وقبل أن أشرعَ ببدء التحضير للأكلة الجديدة، أتذكّر البلاد، وأشعرُ أنني انتقلت فجأة من بيتي في إسطنبول إلى بيت العائلة في غزة، ومع بداية انتشار رائحة الأكل في البيت، أكون قد أكملت انتقالي... وأستمرُّ هناك حتى المساء، حتى أضع رأسي على الوسادة كعائدٍ من سفرٍ بعيد.

أدخل البيت في حدود السابعة مساءً وأنا أحمل مجموعة من الأكياس التي كان على أبي أن يحملها كلّ يوم دون كللٍ أو ملل، وقبل أن أشرعَ ببدء التحضير للأكلة الجديدة، أتذكّر البلاد، وأشعرُ أنني انتقلت فجأة من بيتي في إسطنبول إلى بيت العائلة في غزة

ربما هذا كلّه لا يكون مدهشاً لأيّ شخص، سواء أكان في بلاده أم بعيداً عنها، وربما أيضاً لم يكن فعل الطبخ نفسه مدهشاً بالنسبة لي، ولكن ما أدهشني دائماً، لا سيما في الأشهر الأخيرة، هو أنني بتّ متعلقاً بالمطبخ، وفي اليوم الذي أضطر فيه إلى طلب ديلفري، تصيبني غصّة، وأقول: كان عليّ أن أطبخ.

الهروب بالطبخ

"إذا خرجت من غزة، لن أشتاق لها أبداً"، كانت هذه الجملة رفيقتي طوال السنوات الأخيرة لي في غزة، فقد كنتُ أعتقد أن الأمر سهل وأن الحالة المعيشية السيئة، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ستكفيني على تجاوز البلاد لسنوات طويلة قادمة، ولكنني كنتُ مخطئاً، ولم أستطع القيام بذلك إلا في الأشهر الأولى، تلك التي اصطحبت فيها "روحي" بنزهة في شوارع إسطنبول لأفكّ عنها، ثمّ وجدتني أشتاق كما لم يشتق أحد، وكان المطبخ هو الوسيلة المناسبة للهروب من هذا الاشتياق.

لهذا، يمكنني القول إن المطبخ ساعدني في تجاوز هذا الاشتياق، قد يكون ذلك لأنه شغلني عن التفكير في ساعات الفراغ القليلة، أو لأنه جعلني أجرّب الأكلات التي كانت جزءاً من هذا الاشتياق. ولعلّ انتباهي إلى هذا "الهروب" جعلني أنغمس فيه أكثر فأكثر، وبعدما بدأت قصتي مع المطبخ بصينية كفتة بالطحينة - أكلتي المفضلة - قبل أشهرٍ قليلة، تطوّر الأمر، ولم أجد نفسي إلا وأنا منغمس في محادثات "فيديو كول" طويلة مع أمي، لتعلّمني طبخ المقلوبة والباميا والمسخن والفتة وغيرها.

تقول أمي المقادير بدقة، وتُخبرني بالطرق المختلفة لعمل الطبخة نفسها، ثمّ تترك لي الخيار رغم أنها تحرّضني على اتباع طريقتها الخاصة، وهكذا تحوّلت من شخصٍ تقتصر محادثاته مع أمه على "الحال والأحوال"، إلى شخصٍ غارق في البلاد وأكلاتها.

مهارات الغُربة

اقتصرت علاقتي مع "مطبخ العائلة" على صحن السلطة والدّقة ومثيلاتها من المكملات التي تضعها أمي على سفرة الطعام، ولكن علاقتي مع "مطبخ الغربة" لم تقتصر أبداً على المكملات، وكانت طوال الأشهر الأخيرة تتوسّع دون حولٍ مني ولا قوة، حتى أنها انتقلت من الطبخ إلى صناعة أطباق الحلويات - البسبوسة على وجه الخصوص - الساخنة منها والباردة، ما جعلني أكتشفُ عُمق مهاراتي في المطبخ، هذه المهارات التي لم أعرف عنها شيئاً من قبل، يُشبه الأمر أن تكون نائماً فتصحو في اليوم التالي وقد نبتت لك أجنحة، من أين جاءت وكيف نبتت؟ هذا ما لا يُمكن معرفته أبداً.

ولم يتوقف الأمر هُنا، بل امتد ليشمل "التجريب"؛ أقلّل الملح، أزيد البهارات، أضعُ نوعاً جديداً من البهارات اكتشفته في السوبر ماركت، أجعل الطبخة على النار أكثر من الوقت الذي تحدّده أمي، أتجاوز أمي وأهرب إلى وصفات "أبو جوليا"، وأستغرب جداً من حديث الأصدقاء عن أن "الوصفة الفلانية" قاموا باتباعها بالضبط ولكن مخرجها النهائي لم يكن طيباً أبداً، لأكتشف أنني سبقتُ أصدقائي كثيراً إلى الأمام، وأصبحتُ "شيفاً" مكتمل الأركان، ليس له وطن بل ذكريات.

لحظات يأس

يقفُ "اليأس" أحياناً في وجه "المطبخ" وأراه وهو يوجّه إليه كلمات صعبة وتهديدات لا يُمكن تجاوزها، لذلك، أجدني أحياناً أكره المطبخ، أبقى أياماً كاملة لا أرغب في دخوله، حينها يقتصر وجودي بداخله على صناعة فنجان قهوة أو شرب الماء، وليس أكثر من ذلك، يحدث ذلك في آخر أيام الشهر، تلك الأيام التي تُشبه نهاية الأشياء، يفيضُ فيها الاشتياق حتى يبلغ منتهاه، فلا تعود أيّ طبخة في العالم قادرة على هزيمته، يتسلّح الاشتياق باليأس وأنا أصير قاصراً عن مواجهته، أهرب بالمزيد من الكتابة والكثير من النوم.

يقفُ "اليأس" أحياناً في وجه "المطبخ" وأراه وهو يوجّه إليه كلمات صعبة وتهديدات لا يُمكن تجاوزها، لذلك، أجدني أحياناً أكره المطبخ، أبقى أياماً كاملة لا أرغب في دخوله، حينها يقتصر وجودي بداخله على صناعة فنجان قهوة أو شرب الماء

تتفقدني أمي في لحظات اليأس، تقول: أنت بخير؟ أقول: نعم بخير. تسألني عما طبخته اليوم، أردّ بثقة: تايلندي، بازيلاء... إلخ،. أكذب عليها كما لم أفعل طوال سنوات كنتُ فيها أمام عينيها، رغبة في التجاوز والهروب، ورغم أنها تعرفني جيداً ولا يفيد معها كذبي في شيء، ولكنها تدّعي تصديقي، وأنا أدّعي التجاوز، حتى أعود بعدها إلى "المطبخ" مشهراً سيف "الحاضر" في وجه "اليأس"، وأظلّ أهزم فيه لأيامٍ طويلة، حتى يعاود الكرّة فيهزمني مرة أخرى، وهكذا أقضي حياتي متنقلاً بين الهزيمة والانتصار... أو ما أظنّ دائماً أنه انتصار.

المطبخ والأصدقاء

لا يستطيع الأصدقاء أن يقوموا بما أقوم به، أراهم في الليالي الطويلة يهربون إلى أنفسهم بالساعات، يتحدّثون مع أصدقائهم في البلاد، يسألون عن آخر الأخبار، مَن تزوج، مَن سافر، مَن يجلس معهم أمام البحر، بينما أندسّ في الفراش كسلحفاةٍ متعبة من المشي الطويل، أضعُ الغطاء على كامل جسدي، وأغرق في الأحلام.

يستغرب أصدقائي من حُبّي للمطبخ، يطلقون الإشاعات عليّ: يأكل كثيراً، كلما وجد نفسه فارغاً يدخل إلى المطبخ ويطهو شيئاً جديداً، يُحب الأكل أكثر من أمه. ولكنّ أحداً منهم لم يرى أن ما أقوم به هو هروب من الأسئلة التي لا إجابات لها، ومن البلاد التي أحملها على كتفيّ حتى في البُعد، ورغم أنهم يحملون على أكتافهم البلاد نفسها، إلا أن طريقتهم في الحمل مختلفة.

يُثني الأصدقاء على وجبات الطعام التي أصنعها، ولا يتوقّف الأمر عند ذلك، بل يقومون من فترةٍ إلى أخرى بطلب أكلات معيّنة مني، فأقوم بطهي ما يطلبون، ولكن بشرطٍ إلزامي وهو: أن يُثنوا على الطعام، وألا يبرزوا أيّ عيب فيه. وفي كلّ مرة أملي عليهم شرطي، يضحكون، وعندما يثنون، أضحك أنا... ليس لأنني دكتاتور صغير، وليس لأنني أدرك أن الطعام لذيذ، ولكني لأنني أتذكر أمي، وأتذكر كيف كانت تنتظر دائماً رأيي فيما تطهو، وأنا لا أقول إلا جملة واحدة: كتير زاكي، يسلم إيديك.

لعبة نرد

من المطبخ إلى الكُتب إلى ساعات العمل الطويلة، تختلف الأساليب التي أتبعها لهزيمة الحنين والاشتياق، وكما يحدث في هذه الحياة التي لا تتوقف عن التقلب من حالٍ إلى آخر، "أربح حيناً وأخسر حيناً"، كما قال محمود درويش في قصيدة لاعب النرد، ولكنني أدخل المطبخ في الغربة راغباً في أن أجعل احتمال الربح أعلى من احتمال الخسارة، ومن يدري، قد أنجح في ذلك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image