شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هنا لطائرات الهليكوبتر وظيفة أخرى غير القتل والتدمير

هنا لطائرات الهليكوبتر وظيفة أخرى غير القتل والتدمير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 8 أغسطس 202310:54 ص

في بقعة لا تفصلها سوى عدة أمتار عن الحرية، يقطن مجموعة من البشر لا يختلف أي منهم عن أي إنسان في رقعة جغرافية أخرى في العالم، إلا أنهم ولدوا في غزّة. يعيشون في بركان خامد، بركان قد ينفلت في أي لحظة، وقد لا ينجو من الموت أحد.

لا يمكن حصر مفردة "الحصار" بمفهومها الأكاديمي أو السياسي ثم نتوقف، فاللغة في غزة تتعدّى هذا الحدّ من التعريف. إذا عاودنا قراءة التاريخ، سنجد من خلالها أن هذه المساحة الجغرافية الصغيرة عانت منذ بداية التاريخ من حصار مستمرّ وحملات غزو، ومحط لكل الحضارات والقوى التي مرّت بها، فلم تنعم بالحرية على مدى أربعة آلاف سنة.

وعلى الرغم من أن هذه الغزوات سلبت الغزّيين إنسانيتهم، وارتكبت جرائم قتل وحرق وتدمير بشعة، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي كان الأكثر إجراماً ودموية، وإصراراً على تدمير حياة الفلسطيني بطرق عجيبة لاقتلاع كل ما هو فلسطيني من الذاكرة الإنسانية.

ونظراً لأن عامل الإخصاب الفلسطيني هو الأعلى مقارنة بالجانب الآخر بعد سبعين عاماً من القتل والتشريد، يرى الأخير الضرورة في إيجاد حل، حيث لن يسمح المجتمع الدولي بعد سنوات طويلة للأقلية أن تحكم أغلبية.

بانسحاب أحادي الجانب، قرّر الاحتلال الانسحاب من غزة انسحاباً جغرافياً، في أغسطس عام 2005، فالاحتلال يعتبر غزة، وفقاً لقول لانسلوت أندروس: "صحن من اللحم موضوع على مائدة يقطع منه الإنسان (الأبيض) ما يشتهي، كذلك إذا اقتطعنا بلداً لا يوجد فيه سكان بيض فإنه يصبح لنا". لذا تعامل معها الاحتلال بهذه الضرورة، فأخذ يأكل من لحمها الحي، "لغتها" و"ثقافتها" و"تراثها" و"إنسانيتها" حتى تجرّدت من كونها ابنة البلاد، فصارت غزة.

الحصار ليس قائماً فقط على الجغرافيا عبر عزل إجباري عن العالم، ولا اقتصادياً عبر خلق حالة من التكدّس السكاني المروّع الذي أضفى أعداداً مهولة من الفقراء والعاطلين عن العمل والحياة، بل أيضاً معرفياً وثقافياً وهوياتياً، عبر سلخه من هويته وثقافته وتحويله لمادة ملوثة، متشظية

فالحصار ليس قائماً فقط على الجغرافيا عبر عزل إجباري عن العالم، ولا اقتصادياً عبر خلق حالة من التكدّس السكاني المروّع الذي أضفى أعداداً مهولة من الفقراء والعاطلين عن العمل والحياة، بل أيضاً معرفياً وثقافياً وهوياتياً، عبر سلخه من هويته وثقافته وتحويله لمادة ملوثة، متشظية، وتركه يطهّر نفسه بنفسه عبر أشكال الموت الذاتية.

"الإحباط الوجودي والحرية المفقودة"

على الرغم من أن الاحتلال قائم بإجرامه، وبحسب تقويمه اليومي- السنوي يذكّرنا بنكبتنا بعدوان يروح ضحيته مئات الأبرياء، إلا أنه يطبق نظرية "الصابون" لمارك توين، ببطء مميت منذ خروجه من غزة، حيث استطاع عبرها أن يسلب كل ما هو إنساني في غزة. ويمكن قراءة ذلك عبر السير لدقائق بسيطة في مساحات السجن "المحدودة" المخصّصة للغزيين في الميادين العامة، عبر ملامح الناس الشاحبة، وطرق تناولهم المضطربة للحياة اليومية، ورؤيتهم الضبابية لما بعد الأسلاك الشائكة، تستطيع أن تلاحظ حجم الخسارة في فقدان المعنى والكثير من المشاعر والتجربة، والإرهاب النفسي/ الثقافي الذي يجعله يرى هويته كابوساً، بفقدانه "غوائله الطبيعية"، ومقارنته بما هو خارج هذا الحيز الصغير.

لدى السجّان كل الطرق التي يمكن من خلالها إخضاع السجين، بين التحكم في حريته وإذلاله، وتهديده واضطهاده المستمرين، فكل مدينة في غزّة لديها مساحة مخصّصة للمتعبين. رفح كنموذج يغدو فيها دوار النجمة مساحة ومتنفساً وحيداً لهم، فتراه مساءً أشبه بساحة سجن يأخذ فيه الناس قسطاً من الراحة من بيوتهم الضيقة، بيوت المخيمات التي تقتلها رائحة اللجوء، وكمكسب كبير مقارنة بخيامهم.

أخذ الاحتلال هنا دور المسؤولين والحرّاس بتدريب وتنظيم وتأهيل مجتمع كامل على هذه الممارسات والمكاسب الصغيرة، إلى أن انقسم هذا السجن الكبير إلى نصفين، نصف يؤمن بالذاتية كخلاص فردي يكافح من خلالها بكل الطرق الممكنة للخروج من عتمة المكان، ونصف يتلذّذ بآلامه وراضٍ بمكاسبه القليلة ويعزّز خلالها غريزة البقاء برؤيتها كمعنى، خوفاً من النظر للمجهول ويأساً من جدوى المحاولة في اقتلاع نفسه من مفردة "الحصار"، وعلى حافة الوقت يفقد كلاهما معنى وجوده.

تذكرني هذه الحالة اليومية المُمّلة بتكراريتها، بأعظم المشاهد التي شاهدتها في حياتي والتي أضافت لي بعداً فلسفياً وجودياً آخر، في فيلم The shawshank redemption فعندما أفرج عن "بروكس" بعد حوالي نصف قرن من السّجن، وجد نفسه في حالة من الارتباك والقلق الشديدين أمام حريته، فحاول ارتكاب جريمة جديدة ليبقى في السّجن، هذا لأنه كان يكتسب قيمته بعلاقاته ومركزه بين الآخرين، وعندما خرج من السّجن لم يكن هناك من ينتظره، وجد نفسه وحيداً وتائهاً ومذعوراً بينما يسير العالم من أمامهِ بعجالةٍ لاهثة،  يكاد لو يعرف شيئاً عن الحياة عوضاً عن صوت الزنزانة ورائحة الكتب ووجوه السَّجانين الخمِلة، فما من شيءٍ يفعله خارج السّجن، حاول الاختلاط والعمل ليختلق أي معنى يستمرُّ من أجلهِ، لكنه فشّل في تبرير وجوده كغاية، فرحل لأبديته.

في كتابه "الإنسان والبحث عن المعنى" يقول فيكتور فرانكل: "إني أجرؤ على القول بأنه لا يوجد في الدنيا شيء، يمكن أن يساعد الإنسان بشدة حتى في أسوأ الظروف مثل معرفته بأن هناك معنى لحياته".

الإنسان المسحوق: صراع الذاكرة والألم

وأنا أكتب سردية الإنسان المسحوق ينقضّ على قلبي وذاكرتي في هذا الوقت، صور الموت المجردة التي تعطيه استثنائية في وجعه البارد وموته الصاخب، يدبّ طنين ذاكرتي على وجع جماعي في غرفة النوم، يقفز حاملاً كل وجوه من ماتوا ومن هربوا من أصوات الطائرات المروعة ومزحاتها الثقيلة، فصار العالم يحمل في كل جزء منه ضحكة تالفة.

بعد هذا الموت الطويل الذي يولد فيه الإنسان من رحم الفاجعة، والذي ينهش في بقايا جثته، و يحمل فيه الفلسطيني عقدة الذنب التي لا تنتهي إلا بالمرور عبر فلسطين، أو إقامة قطيعة مع ماضيه، أسوأ ما حدث في التاريخ الإنساني.

حيث يجد الإنسان حين يبدأ بالكتابة عن همٍّ جمعي أو جرح كبير في الذاكرة الإنسانية، هو أحد أجزائه وترس صغير ضمن ترسانته الضخمة، تغدو قواه العقلية بالنفور والتقافز ثم يتحوّل هذا الألم لصور مرعبة يحملها بقية حياته، في رحلة مؤلمة وشاقة، يجد فيها نفسه محاصراً بأشباح لا تهدأ وهو يتلاشى تدريجياً من طغيان الألم.

خضت مؤخراً رحلة إلى منافي العالم الباردة، رحلة آمنة لم أسلك عبرها بحر اليونان وغابات بلغاريا والطرق الوعرة، لم أكلف نفسي عناء التوصل "لملك الحدود وأمير البحار، وشبح الليل" ومحادثتهم، سلكت خلالها طرق الإنسان الأبيض العادي الذي يحمل جواز سفره، من بريطانيا لليونان، لتناول وجبة عشاء مع صديقته. لكني ذقت خلالها أسفل أنواع المعاناة من التوقيف لدى أجهزة الأمن التابعة لـ "حماس" في غزة، للتأكد من وطنيتي ومدى انتمائي للبلاد ورحلة الانتظار الطويلة في مطار القاهرة، والتي ذكرتني بفيلم "عسل أسود" حيث تم توقيفه لساعات طويلة لمجرّد أنه صرح بهويته المصرية.

لدى السجّان كل الطرق التي يمكن من خلالها إخضاع السجين. في رفح كنموذج يغدو دوار النجمة مساحة ومتنفساً وحيداً، فتراه مساءً أشبه بساحة سجن يأخذ فيه الناس قسطاً من الراحة من بيوتهم الضيقة، بيوت المخيمات التي تقتلها رائحة اللجوء، وكمكسب كبير مقارنة بخيامهم

لم يكن مهماً بالنسبة لي الساعات التي وقفت خلالها حتى تصلّبت قدمي وثلج جسدي من درجات الحرارة المنخفضة بفعل أجهزة التبريد، ولا ذلك الشعور الدنيء الذي يجعلك ترى نفسك مواطناً درجة عاشرة، بل خوفي ورعبي بأن يقوموا بإرجاعي حيث جئت.

وكأنهم خلال هذه الساعات يحاولون اصطياد أي خطأ ليكون مبرّراً لقرارهم. صعدت الطائرة لأول مرة في حياتي، هل تعرف معنى هذا؟ معنى أن يكون هناك أجيال كاملة لم تجرب شعور الطائرة لمرة واحدة أو أن ترى نهراً يسير تحت أقدامهم أو أن يصعدوا قمة جبل.

لطالما اعتقدت أن نجاتي كفيلة بمحو أثر ما عشته طوال هذا السنوات التي خلقت من بقايا جثتي تمثالاً بوجه جامد وصامت. وبفعل كل شيء مشوّه، أحاول اليوم في هذه الصباحات العادية، حيث آخذ نفسي في نزهة لرؤية هذا المجهول الذي خبأوه عنا، تهجئة الأشياء، أن ألقي عليها أسماءها الحقيقة، أن أدوّن أصواتها.

أحاول السير حافياً، منسلخاً عن ذلك البعيد الذي تتخلّله الظلمة، أحدّق في عيون العابرين، وأتأمّل الأشياء وأتفحصها، كطفلٍ صغير تائه في زحام المدينة، أبحث عمن يفهم هذا الاغتراب البليد والحزن الدفين والرغبة في البكاء بصمت إلى الأبد.

وبينما تصدمني العادية يقتلني صوت الطائرات في السماء، فهنا لطائرات الهليكوبتر وظيفة أخرى غير القتل والتدمير، فيأخذها الناس للتنزّه حين يشعرون بعذابات الخطى. أيضاً للمقاهي متسع لغير العاطلين عن العمل، و للساحات العامة غرضية أخرى بمعزل عن "عَربات" المشروبات الساخنة، فتراها مساحة للاحتجاج والتظاهرات، أيضاً للمرأة، والعياذ بالله، وظيفة أخرى غير الطبخ.

الشمس دافئة والليل بارد، وكلاهما لا يعوضان الجسد الدامي عن حرقته.  أتلقّى صدمات لا تنتهي وأعود عند المساء كلباً محايداً ألعق الدماء عن الجدران والأرصفة. أزحف لمحل إقامتي حيث تفوح رائحة اللجوء، مرتبكاً وخائفاً، ويوماً بعد يوم، لا أشعر أني عشت على وجه الإطلاق .

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard