لن ألعب معك، عزيزي/عزيزتي القارئ\ة، اللعبة السخيفة التي تجعلني أكتب كل شيء، ثم أقول لك خمّن من القائل ومتى قيل، لأُفاجئك بأن المنشور نُشر قديماً لأشعر بلذة الانتصار عليك، من البداية سأصارحك أن "مذكرات حواء" هو عنوان فصل في كتاب "صندوق الدنيا"، للشاعر والكاتب والروائي المصري عبد القادر المازني (1899-1949)، ولم يكن هو الآخر يلعب بعنوان جذاب فقط، بل بدأ حديثه بيوم السبت التي كتبت فيه حواء، الاسم الشائع لزوجة النبي آدم، أن الأخير طلب منها أن تكتب مذكراتها اليومية، فوافقت هي لأن انشغال زوجها طوال اليوم بالطواف في الجنة يجعلها تشعر بالفراغ.
تخيّل مذكرات حواء ليس فقط ما فعله المازني، فالأهم إنه قدّم سردية لا علاقة لها بالسردية الدينية الإسلامية عن النبي وزوجته، وقرّر من البداية أن يتعامل معهم كزوجين بشريين، بعيداً عن هالة القداسة، ولذلك ليس غريباً أن يبدأ المذكرات بشكوى حواء من زوجها الذي تصفه بأنه "لغز لا تكاد تفهمه"، واصفة إياه: "كلما رآني يصيح هش هش، وحين حاولت إفهامه أن لي اسماً كما علّمته أسماء كل شيء في الجنة، رد علي إنه يقول ذلك لكي أعرض عنه، وهو ما آلمني فعلاً".
النفور الذكوري والإشارة إلى أن حواء هي من علّمت آدم كل شيء وليس الله، بحسب القرآن، ليس إلا أول الغيث، فمن خلال اليوميات يظهر النبي آدم كشخص أقل ذكاء من زوجته، التي كتبت في يوم الاثنين: "لشد ما كانت دهشتي حين دنا آدم مني وهمّ بأن يفقأ عيني بإصبعه، وحين ابتعدت، تأمل عيني وسألني من أين يجيء ماء العين (الدموع)، إنه لم ير حيواناً غيري يفيض من عينيه أي ماء، فصددت عنه وبي من الألم ما لا يطاق".
يبدأ المازني "مذكرات حواء" في الجنة، بشكواها من آدم الذي تصفه بأنه "لغز لا تكاد تفهمه"، واصفة إياه: "كلما رآني يصيح هش هش، وحين حاولت إفهامه أن لي اسماً كما علّمته أسماء كل شيء في الجنة، ردّ علي إنه يقول ذلك لكي أعرض عنه، وهو ما آلمني فعلاً"
أما النزول إلى الأرض والأكل من الشجرة "المُحرّمة"، فتروي حواء في مذكراتها أنها التقت حيّة تتحدث، وحين سألتها من أين لك هذا الصوت، دلّتها على شجرة التفاح، وحين وصلت زوجة آدم عندها، أدركت أنها الشجرة المحرمة، فامتنعت عنها، ولكن مع إصرار الحيّة التي عدّدت مميزات الشجرة، أكلت حواء منها فأصبحت عارية، وتقول: "ما أشهى التفاح. أكلت واحدة ثم أخرى، وقلت لنفسي أي صورة أبدو لآدم وأنا عارية الآن؟ هل أخبره؟ لكن الله رآني وعلم أني عصيته، والموت لابد آت، وهكذا سأذهب أنا ويخلق الله لآدم حواء أخرى تعيش معه، لا.. إني أحب آدم وسأجعله يأكل من الشجرة مثلي، فلا أقوى على الحياة بدونه".
ماذا لو ناقشنا إحساس السيدة خديجة وهي تسمع تأنيب عائلتها لها لأنها اختارت شاباً فقيراً ويتيماً
عزيزي/عزيزتي القارئ\ة، إغواء حواء لزوجها كان بدافع الحب والرغبة في التمسّك به وإكمال الرحلة معه... هل يمكن أن تلام زوجة على التمسّك بزوجها؟
على العموم، كما تقول حواء في مذكراتها، لم يكن آدم يمانع الأكل، لأنه أكثر من مرة يروي لها عن ملله من "جنة عدن"، بل إنه كان يرى الموت هو سبب الحياة والرغبة، لكن ذلك لم يمنعه بعد النزول إلى الأرض من لومها ولعنها لأنها أنزلته من الجنة، بل وكلفّها بكل العمل، حتى كتبت: "لقد أرهقني بالعمل واكتفى بالإشراف، لا أدري ماذا يكلفه الإشراف، حتى هربت منه لثلاثة أيام، لكني لم أطق البعد عنه، فرجعت إليه وكنت تائهة".
النفور الذكوري والإشارة إلى أن حواء هي من علّمت آدم كل شيء وليس الله، بحسب القرآن، ليس إلا أول الغيث، فمن خلال اليوميات يظهر النبي آدم كشخص أقل ذكاء من زوجته
تلك بعض مقتطفات فصل المازني القصير والذي أعتبره من أمتع ما قرأت، و طوال قراءتي لم أستطع منع نفسي من التفكير في أن هذا الكلام نُشر فعلاً، وفي كتاب حظي ببعض الشهرة، بالتأكيد كان هناك بعض الآراء المعارضة له، لكن الأكيد أيضاً أن البيئة وقتها كانت تستوعب مثل تلك الأفكار، وتستطيع جيداً التفرقة بين الإبداع والدين، وإلا لصُنّف الكتاب تحت خانة "الممنوع من النشر"، مثل كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، أو تعرّض المازني نفسه لأذى، لكن ذلك كله لم يحدث.
وهذا يقودني لسؤال: هل نستطيع تقديم مذكرات حواء الآن؟ للأسف لا، فبعد نحو قرن، ورغم أن ذلك يجب أن يعني التقدم أكثر، فإن مجرد الاقتراب من تلك الأفكار الآن صار مستحيلاً، ومن يقدم على ذلك مكانه السجن بتهمة إزدراء الأديان، وما كتبه لن يصدر أصلاً في كتاب، رغم أن المازني حين أصدر كتابه كانت المؤسسات الدينية مثل "الأزهر" حاضرة، والقرآن والمذاهب الأربعة موجودة، ولم يزد عليهم شيء ولم يتم التحريم، وهذا أقوى دليل أن كل ما يحدث الآن من تضييق وتحريم على كل كاتب لمجرّد إبداعه ليس له علاقة بأي دين.
وأخيراً، ماذا لو قدّمنا السرديات الدينية برؤى مختلفة على خطى المازني، فجعلنا مثلاً ابن النبي نوح شاباً أخذ بأسباب العلم، وفي أسوأ الأحوال لم يطع أباه مثلما نفعل جميعاً، لكن جريمته أن أباه نبي فصار عاصياً، وماذا لو ناقشنا إحساس السيدة خديجة وهي تسمع تأنيب عائلتها لها لأنها اختارت شاباً فقيراً ويتيماً، رغم كونها سيدة أعمال، وهلمّ جرّاً... ألا يفتح ذلك الباب لإبداع وتجديد يجعل العقول على الأقل تفكّر بعيداً عن السرديات المحفوظة، ويصنع بداية لتجديد الخطاب الديني؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...