مع انتهاء حكم الأيوبيين، وبداية دولة المماليك في مصر (1250-1517)، على يد عز الدين أيبك التركماني (1250–1257)، الذي أتت به شجرة الدرّ زوجاً لها، لم يكن الأمر ممهداً له، فإلى جانب غضب الأيوبيين في الشام، الذين كانوا يضمرون الغضب للمماليك بسبب استئثارهم بالسلطة، ظهر تحدّ آخر من داخل الدولة، كان على شكل ثورة من العرب، تحت قيادة رجل يدعى حصن الدين بن ثعلب، إذ رأوا أنهم أحق بالملك من الأتراك.
لماذا غضب المصريون على عز الدين أيبك؟
يرى بعض المؤرخين أن هناك تجاوزات عديدةً حدثت في عهد المماليك، منها استخدام العنف غير المبرر ضد المعارضين، ما ولد لديهم ردة فعل عكسية، من ذلك ما ذكره أبو المحاسن ابن تغري بردي، في مؤلفه الأشهر "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"؛ إذ يقول: "إن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسه الرق، وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه، إذا ركب ومر بالطرقات، ويقولون لا نريد إلا سلطاناً رئيساً مولوداً على الفطرة".
قاد الثورة الشعبية على عز الدين أيبك، رجل يسمى حصن الدين بن ثعلب، طمع في السلطة، معللاً ذلك بأن مُلك مصر يجب أن يكون للعرب، وليس لـ"العبيد الأرقاء"، ويقصد بذلك عز الدين أيبك
ولكي نفهم سبب عدم رضا المصريين عن عز الدين أيبك، نشير إلى أنه بعد وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب (1240 - 1249)، عملت زوجته شجرة الدر على ضم المماليك إلى جانبها، ولكي تضمن ذلك اختارت رجلاً منهم لتتزوجه ثم تتنازل له عن الحكم، وكان هذا الرجل عز الدين أيبك التركماني الصالحي (من المماليك الصالحية البحرية)، أي مماليك زوجها الراحل، فكان هذا سبب غضب المصريين على أيبك.
من هو حصن الدين بن ثعلب؟
قاد الثورة الشعبية على عز الدين أيبك، رجل يسمى حصن الدين بن ثعلب، طمع في السلطة، معللاً ذلك بأن ملك مصر يجب أن يكون للعرب، وليس لـ"العبيد الأرقاء"، ويقصد بذلك عز الدين أيبك، الذي كان من العبيد الأرقاء.
حصن الدين بن ثعلب هذا، ذكر قصته أبو العباس القلقشندي، في مؤلفه المعنون بـ"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب"، في حديثه عن "السلاطنة"، بأنه بطن من بني جعفر الصادق، من الحسينيين بني الحسين السبط ابن أمير المؤمنين على بن أبي طالب، مشيراً إلى أن "مساكنهم فيما بين منفلوط وأسيوط من صعيد مصر، ويعرفون بأولاد، والإمرة فيهم في بني ثعلب، ونفوسهم قد سمت إلى الملك، خصوصاً الشريف حصن الدين بن ثعلب، وكان قد أنف من إمارة المعز ابن أيبك التركماني، أول الملوك التركية".
ويعرفه أبو العباس المقريزي، في مؤلفه "السلوك لمعرفة دول الملوك"، بقوله إنه "الشريف حصن الدين ثعلب، بن الأمير الكبير نجم الدين علي بن الأمير الشريف فخر الدين إسماعيل، بن حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل الجمدي"، مشيرا إلى أنه عندما ثارت العربان ببلاد الصعيد وأرض بحري، وقطعوا الطريق براً وبحراً، وامتنع التجار وغيرهم من السفر، وقف قائلا: "نحن أصحاب البلاد"، ومنع الأجناد من تناول الخراج، وصرح هو وأصحابه بأنهم "أحق بالملك من المماليك، وقد كفى أنا خدمنا بني أيوب، وهم خوارج خرجوا على البلاد"، وأنفوا من خدمة الترك، وقالوا إنما هم عبيد للخوارج.
ويبدو أن اختيار حصن الدين بن ثعلب، أو قيادته لهذه الثورة الشعبية، يرجع إلى المكانة التي كان يتمتع بها والده في عهد الأيوبيين، فربما كان هذا دافعاً له إلى المضي قدماً في الحرب على المماليك؛ إذ يروي المؤرخ المقريزي، في مؤلفه الآخر "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، عن والده، بقوله: "الشريف الأمير الكبير فخر الدين إسماعيل بن ثعلب الجعفريّ الزينبي، أحد أمراء مصر في أيام الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب وغيره، وصاحب المدرسة الشريفية بجوار درب كركامة، على رأس حارة الجودرية من القاهرة".
حصن الدين بن ثعلب يؤسس دولة داخل دولة في مصر
ومضى حصن الدين بن ثعلب في طريقه، وأقام وفقا لمؤلفي كتاب "السلطان سيف الدين قطز"، الصادر عن دار الكتاب الثقافي، دولة عربية مستقلة في مصر الوسطى، ومنطقة الشرقية بالوجه البحري، وكانت قاعدة هذه الدولة بنواحي الفيوم، في بلدة تعرف بذروة سريام أو ذروة الشريف (نسبة إليه)، وتقع بين النيل وترعة المنهي، التي هي الآن بحر يوسف.
ولم يكتف حصن الدين بن ثعلب بذلك، وإنما اتصل بالملك الناصر يوسف الأيوبي، صاحب الشام (آخر ملوك بني أيوب)، يطلب مساعدته في محاربة أيبك في ذلك الوقت، مستغلاً العداوة بين الطرفين، وحنق الناصر على المماليك الذين استولوا على السلطة، بتمهيد من شجرة الدُّر.
أقام حصن الدين بن ثعلب دولة عربية مستقلة في مصر الوسطى، ومنطقة الشرقية بالوجه البحري، وكانت قاعدة هذه الدولة بنواحي الفيوم، في بلدة تعرف بذروة سريام أو ذروة الشريف.
وإلى جانب ذلك، كان العرب آنذاك في كثرة من الرجال والخيل والمال، بسبب مشاركتهم في حروب الصليبيين، فكونوا جيشاً كبيراً، والتفوا حول حصن الدين وحلفوا له.
ويؤكد الدكتور علي مبارك، في مؤلفه "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة"، أن حصن الدين بن ثعلب قام ومعه عربان الصعيد والوجه البحري والفيوم على قدم العصيان، حتى قطعوا الطرق براً وبحراً، ثم كتب إلى الناصر، صاحب حلب، بأن يتجهز إلى مصر، وهو يكون معه بجميع العربان، وكانت خيالته 12 ألف فارس، غير ما لا يحصى من الرجالة.
التجهيزات المذكورة، تؤكد أن غرض حصن الدين بن ثعلب ومن معه من العرب، كان إنهاء الحكم المملوكي في البلاد، ما اضطر السلطان أيبك، أن يرسل حملة تأديبية للقضاء على هذه الثورة، وأسند قيادتها إلى منافسه فارس الدين أقطاي. وخرج الأخير من القاهرة بـ5 آلاف فارس من خيرة المماليك، وتوجه إلى الشرقية، حيث أكبر مكان لمظاهر العصيان، بحسب ما ورد في كتاب "السلطان سيف الدين قطز".
لكن المقريزي، ومؤلف "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة" يخالفان هذه الرواية؛ إذ يرويان أن الحرب بين الطرفين حدثت عند دهروط، التابعة لمحافظة المنيا بصعيد مصر، وليس الشرقية.
هزيمة العرب على يد المماليك
وعلى أية حال، حصلت مقتلة عظيمة بين الطرفين من طلوع الشمس إلى الزوال، وبينما الأمير حصن الدين يجول في المعركة سقط عن فرسه، فأحاط به رجاله، فما أركبوه فرسه إلا وقد قتل من عبيده ورجاله نحو 400. ثم رأى الغلبة عليه فتقهقر بجيشه، وتبعهم الأتراك بالقتل والأسر إلى دخول الليل، وأخذوا كثيراً من نسائهم وأولادهم، وغنموا منهم ما لا يحصى من الخيل والإبل وغيرها، ورجعوا بجميع ذلك إلى معسكرهم في بلبيس (تابعة لمحافظة الشرقية).
وبرغم قوة المماليك بقيادة أقطاي، لكن يبدو أنه تفاجأ في بداية المعركة بأعداد المقاتلين العرب الكبيرة، واتهم عز الدين أيبك بـ"الغش". يشير إلى ذلك شهاب الدين النويري، في مؤلفه "نهاية الأرب في فنون الأدب"، قائلاً إن الأمير أقطاي قال موجهاً للسلطان أيبك: "لقد غششتنا؛ فإن هذه العِدَّة التي معنا لا تقوم بهذه الجموع الكثيرة"، لكنه في الوقت ذاته بدأ في الحرب عليهم، فما كان السهم يقع إلا في أحدهم، فما كان بأسرع من أن انهزموا أقبح هزيمة، وأخذهم السيف.
وهنا يعقب المؤرخ المقريزي بقوله: "ثم انهزم العربان شرّ هزيمة وقتل منهم الرجال وأسرت النساء، ومن وقتئذ تفرقت العربان وخمدت جمرتهم"، إلا أن هذا القول لاقى اعتراضاً من المؤلف أبراهام ناحوم بولياك، نقله أحمد مختار العبادي في كتابه "في تاريخ الأيوبيين والمماليك"، إذ يقول: "يظهر أن الرواية التي سردها المقريزي عن استئصال شأفة العرب في عهد أيبك لم تكن إلا طمساً للحقيقة، كانت غايته منها تمجيد الأتراك المماليك؛ لأن خطر العربان ظل باقياً حتى نهاية حكم المماليك".
حصن الدين بن ثعلب يراوغ عز الدين أيبك
وسواء كان المقريزي محقاً أم لا، فإن الحقيقة التي يجزم بها، أن جنود المماليك تمكنوا من الفوز بهذه المعركة، رغم قلة عددهم، وهذا ربما يرجع إلى التفوق الحربي، ومهارة القائد أقطاي، لكن هذا لم ينه أمر حصن الدين بن ثعلب؛ إذ تهدمت المقاومة العربية في بلبيس بالشرقية عام 1253، غير أنها بقيت على حالها في مصر الوسطى، وظل ابن ثعلب طليقاً، وأقام حكومة مستقلة هناك.
وبحسب مؤلف "السلوك لمعرفة دول الملوك"، لم يستكن حصن الدين ابن ثعلب، وإنما جمع ما بقي من أصحابه، ولما استقر له الأمر أرسل لعز الدين أيبك يطلب منه الصلح، والدخول تحت الطاعة، فقبل الأخير ذلك، ووعده بإقطاعات له ولرجاله على أن يكونوا من ضمن الجيش ويحاربوا معه الأعداء.
يبدو أن اختيار حصن الدين بن ثعلب، أو قيادته لهذه الثورة الشعبية، يرجع إلى المكانة التي كان يتمتع بها والده في عهد الأيوبيين، فربما كان هذا دافعاً له إلى المضي قدماً في الحرب على المماليك
عرض السلطان أيبك تسبب في غرور حصن الدين، الذي ظن أن الأتراك لا يستغنون عنه في محاربة الملك الناصر يوسف الأيوبي، وسار برجاله إلى بلبيس، فلما قرب من خيمة الملك ترجل عن فرسه، فلم يلبث أن قبض الجند عليه وعلى من معه، وكانوا نحو ألفي فارس وستمائة راجل، ونصبت لهم المشانق في ما بين بلبيس والقاهرة، وصلبوا جميعاً إلا ابن ثعلب، وفقاً لعلي مبارك.
الظاهر بيبرس يشنق حصن الدين بن ثعلب في الإسكندرية
ويذكر المقريزي أن حصن الدين بن ثعلب أُرسل إلى سجن الإسكندرية، فحبس به، وسلم لواليها الأمير شمس الدين محمد بن باخل، وأمر الملك المعز (عز الدين أيبك) بازدياد القطيعة المضروبة على العرب (ما يفرضه السلطان على ولاية أو ناحية)، وأن يزاد في القوة على المعتاد، وأن يعاملوا بالشدة والقسوة، فذلت العرب وضعفوا وانكسرت شوكتهم ونقص عددهم إلى الغاية.
لكن هناك روايات عديدة تشير إلى أن أيبك ومن جاءوا بعده من سلاطين لم يتمكنوا من القبض على حصن الدين بن ثعلب، رغم إرسالهم جيوشاً خلفه، إلى أن خدعه سادس سلاطين المماليك بيبرس البندقداري (الذي تولى الحكم 3 أشهر عام 1279)، وقبض عليه، وشنقه بالإسكندرية.
ويمكن الجمع بين الروايتين، بأنه ربما استطاع عز الدين أيبك القبض على حصن الدين بن ثعلب وسجنه، لكن لم يتخلص منه، وعندما جاء الظاهر بيبرس إلى الحكم شنقه في الإسكندرية. وعلى أية حال، كانت نهاية قائد الثورة الشعبية ضد المماليك، الشنق، واستمرت الدولة في طريقها إلى عام 1517 من الميلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم