شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
مصر المسجونة في ثنائية الغزو والفتح… كيف مهّد فشل المماليك لغزو بني عثمان؟

مصر المسجونة في ثنائية الغزو والفتح… كيف مهّد فشل المماليك لغزو بني عثمان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 15 يونيو 202303:14 م

500 عام ويزيد قد مرت على دخول الجيوش العثمانية مصر وفرض سيطرتها على أراضيها في 1517م، ولا يزال الجدل التاريخي دائراً حول هذا الحدث المحوري في تاريخ بلادنا، وحول طبيعته وأسبابه، وتداعياته خلال سنوات سيطرة العثمانيين على أراضى مصر التي دامت نحو 400 سنة. ورغم تنوع الطبيعة السياسية والاقتصادية لتلك الفترة الممتدة، أتت سيطرة الحملة الفرنسية على مصر سنوات (1798 - 1801م)، لتنهي إحكام قبضة العثمانيين وتؤسس مصر بعدها عهداً جديداً طامحاً إلى التحرر من قبضة أية سلطة خارج حدود البلاد. 

وإذا كان عمل المؤرخ عند ابن خلدون يتجاوز نقل أخبار الأيام والدول، إلى النظر في علل الحوادث وأسبابها، ويرتجي كشف السنن التي تنظم تلك الحوادث، ليستشف القوانين التي تحكم قيام الدول وعلل سقوطها، فإن السؤال التاريخي المنطلق من قاعدة ثنائية الخير والشر (غزو / فتح)، التي تعتقد في أحداث الماضي الطوباوية المفرطة أو الشر المطلق، يظل سؤالاً عاجزاً عن الاقتراب من الحقيقة التاريخية، ولا يعتني بمقدمات الأحداث التاريخية وسياقاتها الزمنية أو المكانية.

بل يعمل هذا النوع من الأسئلة كحاجز نظري (بسبب تصنيف الأحداث أخلاقياً)، أمام محاولة تقديم قراءة تاريخية متعمقة تسعى لفهم السياقات التاريخية للأحداث وربطها بالمسببات والنتائج، بالاعتماد على مناهج البحث التحليلية والتفكيكية، واعتماد القراءات المتعددة للمصدر الواحد، والفكاك من وطأة الأيديولوجيات بالانفتاح على مدارس العلوم الاجتماعية الحديثة (مدرسة نقد الاستشراق - اتجاهات ما بعد الحداثة - ما بعد الكولونيالية).

فعلينا إذا أن نواجه هذا النوع من الأسئلة الثنائية المنغلقة، بطرح أسئلة أكثر انفتاحاً تساعدنا على فهم طبيعة العصر الذي تدور فيه الأحداث، تأخذنا نحو الأسباب المنطقية التى جعلت من مصر بلداً مستهدفاً لعمليات الغزو والاحتلال، وتكشف لنا الأسباب الجوهرية التي جعلت النخب المصرية الحاكمة (السياسية / الاقتصادية) عاجزة تماماً عن التصدي لتلك التحديات الخارجية.

نعرف من ابن إياس، الحالة المتدهورة للقرية المصرية في عهد المماليك، بعد أن اجتمع عليها التغيرات المناخية العنيفة، وظلم أمراء المماليك ودولتهم بالسيطرة على مجمل الإنتاج الزراعي ومصادرة الحيوانات، وأعمال النهب والشغب من صغار المماليك والقبائل البدوية المجاورة

تحلل دولة المماليك وعجزها عن إدارة الموارد

كان التفوق الحربي والسياسي الذي حققته دولة سلاطين المماليك على خصومها الصليبيين والأيوبيين والمغول، بعد وثوب المماليك الأوائل على السلطة في مصر منتصف القرن الثالث عشر، نتاجاً لحالة من التناسق والاتصال بين القوى الاقتصادية والعسكرية، ونعرف من كتاب "مصر في عصر دولة المماليك البحرية"، لسعيد عبد الفتاح عاشور، أن النظام المملوكي كان نظاماً زراعياً إقطاعياً، يعتمد في سد احتياجاته الحربية على ما تنتجه الأراضي الزراعية، التي قسمت بمقتضى النظام الإقطاعي إلى 24 قيراطًا، (أربعةٌ منها تخص السلطان، وعشرة قراريط موزعة بين الأمراء، وعشرة أخرى للجند)، يوزعها السلطان باعتباره نظرياً صاحب حق الانتفاع الأول بحيازة الأراضي، ويمنحها إلى الأمراء المماليك وفقاً لمواقعهم في السلك العسكري، وما يقدموه من خدمات حربية للدولة.

«اعلم أنه لم يكن في الدولة الفاطمية بديار مصر، ولا فيما مضى، لعساكر البلاد إقطاعات بمعنى ما عليه الحال اليوم في أجناد الدولة التركية "المملوكية"»

— المقريزي، المواعظ والاعتبار

ومع عجز النظام الإقطاعي عن أداء مهمته التاريخية في مطلع القرن الخامس عشر، وانهيار المنظومة الزراعية بسبب العوامل الطبيعية "البيئية"، وغير الطبيعية نتيجة الفساد الإداري والسياسي، وفي ظل تعالي النخبة المملوكية الحاكمة عن فهم أسباب التحلل الزراعي، وعجزها عن تدارك هذا الانهيار، بمراعاة التناسب بين الإنتاجية الزراعية والمساحات المنزرعة وبين الحاجة الضرورية لزيادة أعداد المماليك المحاربين، اندفع سلاطين المماليك نحو التوسع في سياسة الاحتكار التجاري كمورد اقتصادي بديل، وأصبح على البرجوازية التجارية داخل المدن المصرية تحمل أعباء اقتصادية في صورة ضرائب ومصادرات أملاك، جنباً إلى جنب مع الضغط الاقتصادي المتزايد على القرية.   

وصل الحال إلى خراب قرى بأكملها بموت أهلها نتيجة انتشار الأوبئة التي لا تكاد تنقطع، وغلاء في الأثمان أعيا أغنياءها، وأمات فقراءها بالجوع والبرد

ونعرف من "ابن إياس" مؤرخ المملوكية، في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، الحالة المتدهورة للقرية المصرية في القرن الخامس عشر، بعد أن اجتمع عليها إلى جانب التغيرات المناخية العنيفة، ظلم أمراء المماليك ودولتهم، بالسيطرة على مجمل انتاجها الزراعي ومصادرة حيواناتها، وما تعرضت إليه القرى من التخريب نتيجة أعمال النهب والشغب من صغار المماليك والقبائل البدوية المجاورة، وكيف أدى ذلك إلى تسحب الفلاحين من قراهم بأعداد ضخمة تسببت في تقلص المساحة المنزرعة. 

بل وصل الحال إلى خراب قرى بأكملها بموت أهلها نتيجة انتشار الأوبئة التي لا تكاد تنقطع، كما نعرف من ابن إياس، ما أصاب المدينة من موجات وباء متتالية هي الآخرى أهلك قاطنيها، وغلاء في الأثمان أعيا أغنياءها، وأمات فقراءها بالجوع والبرد، وكيف "عز وجود القمح وتزاحمت الأهالي على الأفران في طلب الخبز، وضج الناس، وهلكت البهائم، وقلت الألبان والأجبان".

والغلال أغلبه لأهل الدولة أولي الجاه وأرباب السيوف الذين تزايدت في اللذات رغباتهم، وخربت معظم القرى لموت أكثر الفلاحين وتشردهم في البلاد"

_ المقريزي، إغاثة الأمة بكشف الغمة

ونعرف من المقريزي أن سياسة الاحتكار التجاري تسببت في تقلص الطبقة التجارية وأضرت بأصحاب الحرف، في ظل منافسة النخبة العسكرية المُحتكرة للتجارة، بعد تحول السلطان المملوكي وأمراءه إلى تجار، فـخربت بعض الأسواق وتلاشت كلياً، وإن كان ذلك مؤشراً خطراً لبعض السلاطين الذين أدركوا فشل هذه السياسة الاحتكارية في تلبية مصالح البلاد وأهلها، إلا أنهم ظلوا أسرى للعجز المالي بسبب الحاجة العسكرية الملحة نتيجة تصاعد التحديات الإقليمية. 

خاصة في ظل انهيار نظام النقد المملوكي، وتفشي التضخم بعد أن انقطع وصول تجار أفريقيا محملين بالذهب، وفسدت عملات الفضة بعد أن خلطها سلاطين المماليك بالنحاس، ثم عم استخدام الفلوس النحاسية بالوزن لا بالعدد نتيجة فساد معيارها، حتى ارتفعت قيمة الفائدة السنوية على القروض التجارية من 4-8% في القرن الرابع عشر إلى 18-42% بدايات القرن الخامس عشر، وفقا، لـ كتاب "آ.آشتور"، "التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق الأوسط في العصور الوسطى".

كذلك لم تنتبه النخبة الحاكمة إلى خطورة الاحتكار ونتائجه السلبية على حركة الترانزيت التجاري للسلع الهندية (التوابل / البهار)، والتي هي عماد العلاقات التجارية مع أوروبا وميزان العلاقات السياسية مع حكوماتها، ويخبرنا المقريزي أن السلطان منع بيع التوابل لتجار أوروبا إلا من خلال متجره (الذي هو في الحقيقة متجر الدولة)، وكان التاجر الأوروبي يشتري غير التوابل من السلع الشرقية، ويصل ما يزيج عن 25% من قيمة ما يشتريه إلى خزينة السلطان والأمراء سواء على هيئة رسم جمركي أو مكوس مرور أو هدايا.

وما لبثت سياسة الاحتكار أن أفسدت العلاقات التجارية مع أوروبا وأضرت بالعلاقات السياسية، ونعرف من المقريزي في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك، ما آلت إليه الأحوال نتيجة إجبار التجار على شراء التوابل السلطانية، وكيف تقلصت التجارة وغاب الأوروبيون عن الموانئ المصرية بالشهور، بعد ارتفاع أثمان حمولة الفلفل المباعة للتجار الأوروبي من خمسين دينار إلى ثلاثة أمثال هذا الثمن.

 لم تنتبه النخبة العسكرية الحاكمة إلى خطورة الاحتكار ونتائجه السلبية على حركة الترانزيت التجاري، وهي عماد العلاقات التجارية مع أوروبا وميزان العلاقات السياسية مع حكوماتها، وما لبثت سياسة الاحتكار أن أفسدت العلاقات التجارية مع أوروبا وأضرت بالعلاقات السياسية 

التنافس البحري داخل البحر المتوسط

على مدار قرنين ونصف هي عمر الدولة المملوكية، وكانت مصر متمركزة بشدة حول النيل، بحيث تشق السلع الشرقية الطرق من الهند حتى تصل في أغلبها إلى ميناء عيذاب على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر، ومنها براً إلى مدينة قوص في صعيد مصر، ومن ثم تحمل البضائع في مراكب نيلية تنتهي إلى ميناء بولاق حيث تحصل العاصمة على حاجاتها، ثم تنطلق المراكب نفسها إلى موانئ المتوسط (دمياط - رشيد - الإسكندرية)، ومن هناك تحمَّل السلع الهندية والمصرية على السفن نحو أسواق أوروبا.

وإذ بدت مصر مع نهاية القرن الرابع عشر أكثر انفتاحاً على بلدان البحر المتوسط، وأشد اتصالاً بالأسواق الأوروبية من ذى قبل، إلا أن سياسة الاحتكار التجاري ما لبث أن فتح الباب على صراعات بحرية كانت الدولة المملوكية في غنى عنها، بل وغير قادرة على التصدي لها، واندفع البرتغاليون في نهاية المطاف إلى الهند بالالتفاف حول أفريقيا، للتخلص من سطوة دولة المماليك على سلع الشرق، بعد فشلهم في إقامة علاقات دبلوماسية متماسكة معهم، وهو ما تسبب بعد ذلك بسنوات قليلة في ضعف الدولة المملوكية وتلاشيها. وفقاً لـ نعيم زكي في كتاب "طرق التجارة الدولية ومحطاتها بين الشرق والغرب أواخر العصور الوسطى".

سياسة الاحتكار التجاري فتحت الباب على صراعات بحرية كانت الدولة المملوكية في غنى عنها، بل وغير قادرة على التصدي لها، واندفع البرتغاليون في نهاية المطاف إلى الهند بالالتفاف حول أفريقيا، للتخلص من سطوة دولة المماليك على سلع الشرق 

وبالنظر إلى حالة البحر المتوسط خلال القرن الخامس عشر، فإن السطوة التي حققها الإيطاليون لعدة قرون بأساطيلهم المنضبطة، بدأت تتلاشى تدريجياً لصالح القوة الصاعدة في غرب أوروباً (الأسبان - البُرتغال)، وتحت ضغط القوة المتنامية للترسانة العثمانية في شرق المتوسط، وقد بدا احتدام الصراع على تسيد البحر المتوسط بين تلك القوى أمراً حتمياً، إلا أن المماليك ظلوا متمسكين بالماضي، متمركزين حول قوتهم البرية (الفروسية)، ونعرف من ابن خلدون في مقدمته، كيف كان أسطول الدولة المملوكية جزءاً غير فعال إلا في استثناءات قليلة (غزو جزيرة قبرص).

"ولم يكن سلطان الفرنج على غرب المتوسط بأقل منه على شرقه، فلقد ملكوا به الجزائر، وقويت تجارتهم، وكثرت فيه أساطيلهِم، وتراجعت قوة المسلمين فيه لضعف الدول ونسيان عوائده"

_ ابن خلدون ، المقدمة

الأثار المتبقية لدينا والظاهرة في القلاع المملوكية الممتدة على ساحل المتوسط من دمياط إلى الإسكندرية مروراً برشيد، تشهد في الواقع على عجز البحرية المملوكية عن حماية سواحلها من أعمال التخريب والقرصنة، حيث اضطر السلطان قايتباي"1468-1496" إلى بنائها (حقق السلطان قايتباي انتعاشة نسبية للنظم المملوكية)، أمام هذا الضغط البحري ونتيجة تدهور الترسانات المملوكية التي أنشأها السلاطين العظام، وفي ظل نقص خطير في موارد الأخشاب والحديد أصاب مصر والشام خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وفقاً لكتاب سمير علي الخادم، الشرق الإسلامي والغرب المسيحي عبر العلاقات بين المدن الإيطالية وشرق البحر المتوسط 1450-1517

بدأت النخب العسكرية المصرية بالفشل في إدارة الموارد الزراعية، وانتهت إلى الفشل في إدارة تجارة الترانزيت، ومن ثم انجرفت دولة سلاطين المماليك سريعاً نحو الهاوية، أولا تحت تأثير النقص الشديد في الموارد المالية والطبيعية، وفتك الأمراض بالسكان

وإن كنا نعرف من ابن حجر العسقلاني قاضي الدولة المملوكية، في كتابه "إنباء الغمر بأنباء العمر"، أن السواحل المصرية أصبحت مرتعاً لعمليات النهب والقرصنة، في ظل عجز المماليك عن صد تلك الهجمات الخاطفة، فإن المقريزي يخبرنا أن أعمال القرصنة التي تبنتها الحكومات الأوروبية لم تنقطع عن قنص السفن التجارية في المتوسط منذ بداية القرن الخامس عشر، نتيجة تطور سفنهم على مستوى سرعة الإبحار وقدرة مدافعها على الإصابة من مسافات أبعد.

"ورد الخبر من دمياط بأخذ الكتلان خمسة مراكب فيها بضائع كثيرة ورجال عديدة، وبعث ملكهم كتاباً إلى السلطان يتضمن جفاء ومخاشنة، بسبب إلزام الفرنج شراء الفلفل المعد للمتجر السلطاني"

— المقريزي، السلوك في دولة الملوك

وهكذا عجز سلاطين المماليك عن توفير الأساطيل اللازمة وتطويرها، مكتفين بمطالبة حلفائهم البنادقة الإيطاليين بضرورة مكافحة القرصنة مهددين بقطع العلاقات التجارية، وهو ما يتضح من نصوص المراسلات السلطانية لحكومة البندقية المدرجة في كتاب نعيم زكي، "طرق التجارة الدولية ومحطاتها بين الشرق والغرب أواخر العصور الوسطى"، إلا أن البحرية الإيطالية نفسها قد عجزت عن مجابهة الأسبان والبرتغال، ومن ثم لجأ بعض السلاطين لمصادرة أموال التجار الأوروبيين وأملاكهم في المدن الساحلية نظير ما تتعرض له السواحل المصرية من خسائر.

رغم المحاولات الكثيرة من سلاطين المماليك لتدارك الأمر بإصدار عدة مراسيم تستهدف الحد من تسرب العملات الذهبية والفضية بعد العجز المرير في تجهيز الجيوش وسد حاجة الفرق العسكرية، إلا أن العجز ظل حليف المماليك، وضاقت بهم السبل حتى بات العثمانيون الملاذ الأخير لهم والحليف الأقرب

التحالف العثماني - المملوكي 

بدأت النخب العسكرية المصرية بالفشل في إدارة الموارد الزراعية (المورد الرئيسي)، وانتهت إلى الفشل في إدارة تجارة الترانزيت (مصدر قوة سلاطين القرن الخامس عشر)، ومن ثم انجرفت دولة سلاطين المماليك سريعاً نحو الهاوية، أولا تحت تأثير النقص الشديد في الموارد المالية (الذهب-الفضة)، والموارد الطبيعية (الأخشاب- الحديد)، وكذلك عدد السكان.

وثانياً بفعل العجز العسكري الشديد في مواجهة القوى الأوروبية، والتي كلفت المماليك أضراراً بالغة في البحر المتوسط، ونجحت في لحظة تاريخية فارقة عام 1496م في الوصول إلى المحيط الهندي عبر رأس الرجاء الصالح، وقطع الطريق البحري أمام السفن التجارية المحملة بالتوابل وتحويلها بعيداً عن الأسواق المملوكية، ثم ومع بداية القرن السادس عشر، كان البرتغاليون قد نجحوا أخيراً في اختراق البحر الأحمر وتوجيه ضربات موجعة للثغور والمحطات التجارية كما يخبرنا "شارل-ديل" في كتاب "البندقية جمهورية ارستقراطية"، حتى كادوا سنة 1506م أن يفرضوا سيطرتهم على ميناء جدة (مركز الثقل التجاري والمالي للدولة المملوكية خلال القرن الخامس عشر).

ورغم المحاولات الكثيرة من سلاطين المماليك لتدارك الأمر بإصدار عدة مراسيم تستهدف الحد من تسرب العملات الذهبية والفضية بعد العجز المرير في تجهيز الجيوش وسد حاجة الفرق العسكرية، إلى جانب التشديد على منع بيع الأخشاب وتخصيص مجمله لتجهيز الأساطيل البحرية، بعد تلاشي أغلبها أمام الأسطول البرتغالي في البحر الأحمر؛ إلا أن العجز ظل حليف المماليك، وضاقت بهم السبل حتى بات العثمانيون الملاذ الأخير لهم والحليف الأقرب، بل إن التحالف (الاقتصادي - العسكري) بين العثمانيين والمماليك أجل سقوط دولة سلاطين المماليك سنوات عدة.

يذكر ابن إياس في بدائعه وصول سفن محملة بكميات ضخمة من الأخشاب والحديد والنحاس، وعدة وفيرة من الأسلحة والعتاد الثقيل من عند ابن عثمان، بعد أن أرسل السلطان المملوكي أموالاً لشراء تلك الأسلحة، فما كان من الملك العثماني إلا أن رد الأموال ومنح العتاد الحربي هدية للسلطان المملوكي في مصر، ويبدو أن الأوروبيين في المتوسط قد فطنوا إلى العجز الذي تعاني منه الدولة المملوكية، وانتبهوا إلى حركة الأساطيل المحملة بالموارد من الأناضول إلى الموانئ المصرية وبدأوا في مهاجمتها، وقد استولوا بالفعل على أغلبها.

"وصلت عدة مراكب من عند ابن عثمان فيها مكاحل عدة، ونشاب ثلاثين ألف، وبارود أربعين قنطار، ومقاذيف خشب، وغير ذلك من نحاس وحديد وحبال وغير ذلك مما تحتاج المراكب، وكان السلطان أرسل مالا ليشتري أخشاب ونحاس وحديد، فلما بلغ ابن عثمان ذلك رد المال، وجهزها من عنده تقدمة للسلطان"

_ ابن إياس، بدائع الزهور

كانت الدولة العثمانية قوة اقتصادية وعسكرية صاعدة خلال القرن الخامس عشر، وكانت ترى في المملكة القائمة في شبه جزيرة إيبريا (إسبانيا والبرتغال الحاليتين) منافساً قوياً وخطراً محتملاً يجب التعاون مع المماليك في صده، كما ترى في سلاطين المماليك حليفاً ضرورياً في صراعها مع الدولة الصفوية الإيرانية التي لا تتوقف عن التمدد نحو الأناضول وبلاد الشام حتى أصبحت على تماس مع الدولتين المملوكية والعثمانية.

ويصور لنا ابن إياس حالة الاحتقان الجغرافي والصراع المحتدم في المنطقة، وكيف أمر السلطان المملوكي بالقبض على قناصل الدول الأوروبية في مصر والشام، للتحقق من واقعة استقبالهم لجواسيس الدولة الصفوية، متخفين في زي التجار، يحملون مكاتبات تستحث القناصل على مكاتبة ملوكهم، يدعونهم إلى الاجتماع بالجيوش، بحيث تغزو المراكب الأوروبية من البحرين المتوسط والأحمر، وتزحف الجيوش الصفوية من البر نحو الشام، لمهاجمة بلاد المماليك وأراضي بني عثمان.

وتمتلئ المصادر التاريخية المصرية المعاصرة لدولة المماليك بمظاهر البهجة والاحتفالات التي تشهدها القاهرة في استقبال البلاط المملوكي لرسل بني عثمان الذين ينقلون أخبار الانتصارات المجيدة على الروم الأوروبيين، ويحملون الهدايا من الذهب والنحاس والمعدات الحربية، والكثير من العبيد البيض أسرى المعارك، إلا أن الأيام ما لبثت أن أظهرت حتمية المنافسة والصدام بين القاهرة وإسطنبول.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard