قد تكون روح البداوة سارية في عروق المدنيّة التي تنزع للتخفّف من تعقيداتها بالهروب إلى بساطة العيش، وإلى الذات الفطريّة العارية من الأقنعة. ومن أبرز تمثلات البداوة حبّ السفر. إنما لا تنحصر أسباب السفر في هذا السرّ الغائر في النفس البشريّة، بل ثمّة أسباب أخرى تقبع خلف الرغبة في تغيير المكان في أوقات معلومة، كطلب الترفيه والتعرّف إلى ثقافات مختلفة في أمكنة جديدة، علاوة على طلب الانتعاش مثل حالة عميد الأدب العربي طه حسين عندما يقصد قرى لبنان صيفاً، تاركاً خلفه المدينة بعجيجها وحرّها الذي لا يُحتمل ثِقله.
في كتاب ظريف "لا تُحتمَل خفّته" –والتعبير للروائي التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا- لخفّة وزنه وضآلة عدد صفحاته كما رغب صاحبه، يُفرد فيه العميد أربعة فصول بطلاها صيف لبنان وأدب الصيف. فيضعنا أمام سؤال سرعان ما نجد الإجابة عنه في كتابه "بين بين"، وهو: هل من تصنيف بين أدب صيف وأدب شتاء، أو لعلّ هناك أدباً لكل فصل، تحدّد حرارة المناخ الاختلافات بين نصوصه وفق المزاج؟ والعنوان بحدّ ذاته لا يخلو من الطرافة في الحركة البينيّة للذهاب والعودة.
لبنان بلد الاصطياف والكرَم والشعر
في عام 1949 قصد طه حسين لبنان بعد أن سُدّت سبل أوروبا في وجهه؛ فقد قطعتها الحرب، والطريق إلى مدينة الإسكندريّة مزدحمة بسكان القاهرة والصعيد الهاربين مثله من لهيب القيظ. فلم يكن أمامه سوى التماس الدّعة واعتدال الجو في لبنان، وليتحرّر أيضاً من ثقل حياة العمل. وإن كان السماع والمصادفة -في البدء- جعلاه يزور لبنان، فما تثبّت منه بالرؤية والتجربة، وما اختبره بالعشرة جعل من لبنان مصيفه لأكثر من عام. فيردّد بيتاً لشاعر عربي: "بنفسيَ تلك الأرض ما أطيب الرّبى / وما أحسن المصطافَ والمترَبَّعا".
قصد طه حسين لبنان بعد أن سُدّت سبل أوروبا في وجهه، والطريق إلى مدينة الإسكندريّة مزدحمة بسكان القاهرة والصعيد الهاربين مثله من لهيب القيظ. فلم يكن أمامه سوى التماس الدّعة واعتدال الجو في لبنان
وحين وصل لأوّل مرة إلى لبنان، كان الصيف قد تقدّم به، واكتظّت الفنادق بالسائحين؛ فكان أن استعان اللبنانيّون بأهل القرى الجبليّة حيث اعتدال الجو والسكينة لمن يطلب ذلك. وكان من حُسن حظ هذه القامة الأدبيّة، بل من حسن حظّ لبنان بترسيخ شهادة جميلة بحقه، أن ينزل العميد في إحدى القرى المطلّة على البحر، فيتعرّف صاحب أحد البيوت المستخدمة لغرض إقامة المصطافين، وهو"لا يكاد لا يتحدّث إلا شعراً".
يروي ما حدث معه في ذلك البيت الجبلي، بغرفه التي يطلّ بعضها على جهة البحر، فيراه المقيم من بعيد، ولا يسمع إلا صمت الطبيعة، وبعضها الآخر يطلّ على حديقة يزدحم فيها صرير الجنادب (زيزان الصنوبر)، فتحدث عجيجاً قد يزعج من لا يحتمل إيقاعها المتصادي. فاختار العميد الصمت والراحة. غير أنّه حين كان يرغب في شيء من الشعر المَحكِي اللبناني يجتمع إلى صاحب المنزل/النزل، قائلاً: "ربما أعجبتني المقطوعة من هذا الشعر فأستعيدها وأومئ إلى صاحبي فيكتبها".
الشعر باللهجة اللبنانيّة أو الزجل، سمعه طه حسين من أهل القرية، من دون تسمية أنواعه أو المعرفة بها (معنّى وقرّادي وعتابا وميجانا)، لكنّه عجب من أنّ هذا القول الشعري مطبوع في حياة اللبناني بقوله "الردّات". و"الردّة" يتناوبها المتحلّقون في الأماسي أو العصارى بما يشبه التحدّي القَولي. ولم يخفِ الأديب المصري فرحه في "جنة" المنزل التي كانت تضمّ زائرين سائحين وشبان وشيوخاً من أهل القرية، وطلاب حديث ولعب ومنادمة، وطالبي عزلة جميعاً، فيجد كلّ صاحب حاجة مطلبه.
صيف لبنان شتاء: من عاليه إلى شتورة
لم يكن إذاً صاحب الفندق الجبلي نادراً في كرمه وشعره وحبه للحديث، كما ظنّ مصطافنا. فباختلاطه بأهل لبنان على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم ومناطقهم استيقن أنّ "الكرم فيهم خلق قد فطروا عليه، وأنّ الشعر غريزة قد أتيحت لكثيرين منهم.. وأنّ اللبناني هو أشدّ الشرقيّين حبّاً للطبيعة.. وتذوّقاً لمحاسنها، وقدرة على تصويرها". فماذا عن أهل شتورة البقاعيّة؟
مع الهواء البارد يلفح الوجوه من نوافذ السيارة يتذكّر طه حسين قول المتنبي في زيارته للبنان فيما مضى من الزمان: "وشعاب لبنان وكيف بقطعها / وهو الشتاء وصيفهنّ شتاءُ"؟
في حضرة المنعطفات في الطرق الجبليّة، صعوداً وانحداراً بين التلال، يصل الزائر إلى مكانه المقصود مُجهداً من كثرة المُيامَنة ومياسَرة (الميلان يُمنة ويُسرة)، خصوصاً من لم يعتَد الجغرافية اللبنانيّة؛ "تمخّضهم السيارة مخض القِرَب". ومع الهواء البارد يلفح الوجوه من نوافذ السيارة يتذكّر طه حسين قول المتنبي في زيارته للبنان فيما مضى من الزمان: "وشعاب لبنان وكيف بقطعها / وهو الشتاء وصيفهنّ شتاءُ"؟
يسرد العميد ما لقيه وسبّب له إحراجاً في أحد فنادق شتورة (بلدة من قضاء زحلة، محافظة البقاع)، وما هو إلا أشدّ غرابة ممّا حدث معه في القرية الجبليّة. الوجه المشرق نفسه، والحديث العذب المتّصل ذاته، وبالترحيب والتسهيل والتأهيل، تلقّاه صاحب الفندق في شتورة تماماً كما لقيه صاحب الفندق الجبلي، كأنّ بينه وبينهما سابق معرفة، بل صداقة عتيقة. وما أذهله ليس ما "تعوّد اللبنانيّون أن يتلقوا به الضيف" فحسب، بل عبارة أخجلته وحيّرته بعد أن أسرف ومن معه في طلب ما يحتاجونه من مأكل شهيّ، وهي: "لا حساب، إنما أنتم ضيف صاحب الفندق".
أدب الصيف: كيف يستقبل الأدباء الفرنسيون والمصريّون الصيف؟
سياحة طه حسين في لبنان، وإن كانت فرصة للنقاهة والتخفّف من أعباء البحث الأكاديمي، فهي لا تخلو من الأدب، ومن التفكير في إيجاد علاقة ملائمة له مع الطقس والأجواء العامة. كان للعميد مصطلح "أدب الصيف" أو "أدب الراحة والاستجمام" أو "أدب الإجازة"، لعلّه اقترحه على الأغلب الأعمّ وإن بتأثير من الصحف الفرنسية وما يصله من مقالات يتذوّقها في مصيفه اللبناني أو الفرنسي. فأدب الصيف خفيف الظلّ يفيء إليه القارئ من قرّ المناخ وثقل الموضوعات.
والواقع أنّه يأبى أن يكون فصل الصيف فصل كساد أدبيّ عندما يكتب الأدباء فيه مثلما كانوا يكتبون في الشتاء. هذه هي حال الكتّاب المصريين قياساً إلى ما تقدّمه الصحف الفرنسيّة الهازلة والجادّة على حدّ سواء، في فصل النقاهة هذا، من موضوعات سهلة تَرفُق بقرّائها، فينتهي كتّابها إلى ابتكار أدب خاصّ. ويجد ما هو مشترك بين العاصمتين المصريّة والفرنسيّة من تفرّق الطلّاب وعودتهم إلى حياة أسرهم، بعد جهد ودراسة، كما أنّ بعض العائلات تهجر منازلها إلى البحار أو الجبال، وهذا جميعه خليق بأن يشكّل موضوعات للأحاديث الصيفيّة.
ويتحسّر لكتابة صيفيّة في الصحف المصريّة تحصر موضوعاتها في تناول شيئين، هما: موسم الامتحانات وما يتبعها من شكاوى ونقد للأسئلة، ومصايف البحر وما تثيره من سخط الغاضبين الغيارى على الحياء والأخلاق؛ من غير الالتفات إلى عادات انتقال أهل القاهرة إلى خارج البلاد، إذا كان الصيف، لتخلو المدينة مستقبلة أهل الأقاليم الأكثر حرّاً، خصوصاً أقصى الصعيد، وقرى الريف المصري.
أمّا الكتّاب الفرنسيون فلا يستنفدون ما يقال عن الاصطياف وعاداته، وتفريغ باريس من معظم سكانها استعداداً للقاء زوّارها الغرباء على اختلاف لهجاتهم من الأقاليم الفرنسية، ووصف ما تغيّر من شكل العاصمة وملاعبها التي تفرّغت لتسلية الزوّار، وألوان اللهو الذي يبتكره المصطافون، ومصايف التلاميذ الفقراء. وكذلك لا يغفلون الكتابة عن بلاد أخرى سافروا إليها أو عرفوها من خلال القراءة. وبشيء من الطرافة لا ينسون وصف الباريسيين البائسين ممّن لم يتمكّن من مغادرتها. ثمة دائماً شيء جديد كلّما أقبل الصيف. فلا موضوعات مكرورة يشعر معها صاحبنا بضيق أو زهد حين يقرأ فصولاً من الأدب الصيفيّ الفرنسي؛ فهو متجدّد دائماً وإن كان عهده قديماً.
طه حسين وردّ الجميل
زار طه حسين بيروت في غرض غير الاستجمام والاصطياف، إنما بدعوة تلقّاها من الحكومة اللبنانية لإلقاء محاضرة أثناء شهر الأونيسكو (1948). والحقّ أنه ألقى محاضرتين بالفرنسية والعربية، بعنوان: "أثر الحضارة العربية في الحضارة الأوروبيّة". وبكثير من العرفان يتحدّث عن المعروف الذي أهداه إليه لبنان؛ معروف يتّصل بالعقل والقلب جميعاً، وهو ما "ضنّ به عليّ قوم هم أقرب إليّ قرابة من لبنان... وهم أوسع منه يداً".
كان لطه حسين مصطلح "أدب الصيف" أو "أدب الراحة والاستجمام" أو "أدب الإجازة"، لعلّه اقترحه على الأغلب الأعمّ وإن بتأثير من الصحف الفرنسية وما يصله من مقالات يتذوّقها في مصيفه اللبناني أو الفرنسي
الاحتفاء اللبناني به لم يقتصر على جمهور الحاضرين لندوته، بل رافقه لحظة وصوله إلى ميناء بيروت، ليستقبله مندوب وزير الخارجيّة والتربية الوطنيّة. ومقيماً في أفخم فنادق العاصمة، يجد نفسه "في بيئة أخصّ ما توصف به أنّها تعرف كيف تبذل الحبّ، وكيف تأسو القلب المكلوم". بحرقة لا يخفيها، يلوم حكومته المصريّة التي أبت إلّا أن تصانع السياسة؛ فلم تنتدبه ليمثّل بلده في مؤتمر بحجم مؤتمر الأونيسكو، وهو كان من خبرائها، كما أنّه مثّل مصر في مجلس التعاون الفكري قبل الحرب العالميّة الثانية.
ما لم يفصح عنه -تواضعاً ورفعةً- صاحب "الأيام"، و"في الأدب الجاهلي"، و"المعذّبون في الأرض"، و"حديث الأربعاء"، وغيرها من الكتابات القيّمة، أنّ شهرته سبقته إلى بلد يثمّن العلم والأدب؛ فلقي فيه ما لقي من حفاوة ومحبّة وتقدير. وما يخجل أن يُعرب عنه في كتابه "بين بين" أنّ أيّ مكان يحلّ فيه يَشرُف بحضوره، حتى لنخال صاحبه يقول مفاخراً: من هنا مرّ طه حسين (1889-1973)، وهنا أقام ذات صيف. أما كتابه "في الصيف" (1933) فقد ضمّنه خواطر انبثقت عن رحلته الأوروبيّة، لا سيما إلى نابولي وفرنسا.
سحر لبنان هو مصدر المزاج الخاص لدى اللبنانيين، كما يعلّل ذلك عميد الأدب العربي، الذي لمس التأنّق والعناية في الدور اليسيرة كما في الدور الرفيعة؛ فلم يحسّ في تلك الدور فقراً ولا ضيقاً. وهل يوجد من يَعجَب من عودته مراراً وتكراراً إلى لبنان كلّما أتيحت له العودة إليه؟!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.