في ليلة هادئة ورومانسية، تنزهت في شارع "الحمرا" وأزقته. لندَع مقدمة التعبير تلك، فلسنا في الابتدائية، ثم إن الليلة تلك لم تكن هادئةً؛ غالبية المارين كانوا يبحثون عن مناقيش "بربر" الشهيرة، ليفيقوا من جلسة الشراب الصاخبة. كانت "الحمرا" قد أدمنت الصخب والضجيج. لا يعرفون هناك أنه لا يمكن استخدام "بوق" السيارة في الثانية صباحاً.
اجتمع الأردنيون، السوريون والمصريون عند شاورما بربر، بعد أن فرقتهم السياسة. لم يكن الجيل الجديد يعرف كثيراً عن أهمية شارع "الحمرا"، حيث اعتاد المثقفون التجمع في "كافيه تروتوار" لمناقشة القضايا الاجتماعية. بالإضافة إلى الموسيقيين والفنانين، كانت السمة الأشهر لبيروت هي التنوع والتعدد، تماماً مثل الفلافل: تتكون من الفول، الحمص، الكزبرة وبعض البهارات، والمنتج النهائي رائع لكنه لا يشبه أياً من مكوناته.
التنوع العرقي والعقائدي شديد التعقيد في الشارع، لا تخطئه عين. فالجنوبي يُعرف من لهجته، والسوري كذلك، والأرمن من أسمائهم، وخريجو الجامعة يخلطون الفرنسية والإنكليزية بالعربية، والسياح معروفون مهما حاولوا الاندماج. قادتني الصدفة في محطة البنزين للقاء طاقم المحطة من المصريين العاملين هناك، فاشتكيت من ارتفاع أسعار البنزين مرةً أخرى، ومن حرارة الجو ورطوبة المتوسط. مشكلتي مع الصيف كانت في حزن عابر متجدد من ذكرى صيفية أليمة، ومشكلتهم كانت أن الحياة نفسها -في ظل التضخم- فعل أليم.
لكي نفهم الحاضر اللبناني علينا أن نأخذ جولةً في الماضي، فلنرجع إلى أسباب الانقسام الطائفي الذي ينفرد فيه لبنان ويبدع وحده. تعداد سكانه يقارب السبعة ملايين نسمة، موزعةً بين قرابة عشرين طائفة، على رأسها الموارنة، الشيعة والسنة، ثم الدروز، الكاثوليك، الروم الأرثوذوكس، الأرمن، السريان والبروتستانت، والعلويون، الملكيون وأقليات أخرى. تنقسم الطوائف إلى مجموعة من العائلات الكبيرة التي تتوارث النفوذ جيلاً بعد جيل.
التنوع العرقي والعقائدي شديد التعقيد في الشارع، لا تخطئه عين. فالجنوبي يُعرف من لهجته، والسوري كذلك، والأرمن من أسمائهم، والسياح معروفون مهما حاولوا الاندماج
أما البداية، فكانت للمستعمرين الأوائل القادمين من أوروبا تحت شعار "الحملات الصليبية". وقد سعوا إلى إقامة علاقات خاصة مع بعض الأقليات الدينية في المنطقة، ووجدوا ضالّتهم في طائفة مسيحية شرقية تنتسب إلى القديس "مار مارون"، وقد عاشت عائلاتها قي رخاء نسبي نتيجة ازدهار تجارة الحرير وموقعها الإستراتيجي التجاري المميز. طبق الأتراك السياسة نفسها، عندما دخلوا الشام عام 1516 م، في ظل الدولة العثمانية، فاحتضنوا طائفة السنة على حساب البقية، ثم جاء الصراع الفرنسي-البريطاني في عصر الاستعمار، فتقرب الفرنسيون إلى الموارنة بحجة حماية الأقلية المسيحية، وسعى الإنكليز إلى التقرب من الدروز عملاً بمبدأ توازن القوى.
اتسعت الفتنة بانضمام الأرثوذوكس والسنة والشيعة إلى جانب الدروز وكأنه مشهد "عركة في خمارة" من أفلام سبعينيات القرن الماضي. ثم ثار الفلاحون على إقطاعيي الموارنة في صراع يبدو دينياً من الخارج، لكنه محشو بالطبقية من داخله. وانتهى المشهد بتدخل القوات الفرنسية بحجّة فرض الأمن في مسرحية مبتذلة لا يمل التاريخ من تكرارها مع اختلاف الممثلين.
لقد حافظ الانتداب الفرنسي على التقسيم الطائفي، وأعطى الموارنة امتيازات عدة وأتاح الثقافة الأجنبية لأبنائهم، الأمر الذي هيأ لهم فرصاً اجتماعيةً لم تتوافر لغيرهم. وهنا لا نستطيع إغفال دورهم في النضال والاستقلال لاحقاً، لكن يبقى واضحاً ارتباطهم ثقافياً بفرنسا وبالحداثة الغربية. أدت تلك الظروف إلى ولادة متعسّرة للدولة الجديدة بعد الاستقلال. بالطبع مارس الرجل الأبيض هوايته المفضلة هنا -كما يعتقد الكثير- وقسّم بلاد الشام إلى سوريا، لبنان وفلسطين. نستنتج هنا أن لبنان المولود حديثاً سيعاني، فقد كان الاتفاق وقتها -برعاية فرنسية بالطبع- أن يتم توزيع المناصب السياسية حسب الانتماء الديني، إذ يجب أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس الحكومة سنّياً، ورئيس مجلس النوّاب شيعياً.
لن نحكي كثيراً عن الحرب الأهلية في الثمانينيات، فالمعطيات أمامنا ويمكنكم أن تتنبأوا بما حدث من دون أن يخبركم أحد؛ طوائف متنازعة على النفوذ والسلطة في الأساس، مع غطاء ديني، ودول استعمارية تريد موانئ البحر المتوسّط، بالإضافة إلى الجار السوري الواقع تحت حكم الجيش وحزب البعث معاً، وجارٍ آخر فلسطيني ينزف ألماً ويتقيح اللاجئين والأسلحة. نعم الناتج من المعادلة هو لبنان جريح مرةً أخرى.
بدا رواد شاطئ الروكا مارينا شمال بيروت وكأنهم لم يسمعوا بتلك الأحداث ولم يبالوا به حقاً. كانت الأجواء صيفيةً احتفاليةً وصاخبةً تتخللها طقوس تسمير البشرة أو "التان" من التقلب في الزيت ثم الاستلقاء تحت أشعة الشمس لنيل درجة السمار البرونزي للبشرة. يقوم ممارسو ذاك الطقس بدهن أجسادهم بالزيت تماماً، ثم التعرّض مباشرةً لشمس تموز/يوليو الحارقة، على حرارة 35 درجةً. بدا ذلك غريباً بالنسبة لي أنا الذي حاولت تفادي الشمس طوال حياتي. تتقلب الفتيات يميناً ويساراً للتأكد من تساوي الحروق على أجسادهن بالكامل، فوجدت صوتاً في رأسي يردد: "بسم الله ما شاء الله، يا أرض احرسي ما عليكِ! يا دلع دلّ... فلتحافظ على وقارك أيها السخيف! لسنا في حواري الإسكندرية هنا". غمغمت محاولاً إسكات أفكاري الصبيانية.
كانت السمة الأشهر لبيروت هي التنوع والتعدد، تماماً مثل الفلافل: تتكون من الفول، الحمص، الكزبرة وبعض البهارات، والمنتج النهائي رائع لكنه لا يشبه أياً من مكوناته
ثم أكملت التأمل في فكرة تعرض رواد الشاطئ للحروق وهم مدهونون بالزيت لسبب لا أعلمه حتى الآن. ذكرني المشهد بالعمّ فؤاد، الشيف في فلافل "صهيون"، وهو يُخرج الفلافل من الزيت ثم يغرّقها في الطحينة. غنيتُ له: "ما أروعك" في المحل من فرط الاستمتاع ذاك الصباح.
كان الذوق الموسيقي في المارينا يميل إلى الأغاني الشعبية المصرية، وألحان الدبكة وإيقاع "الملفوف" الشعبي الراقص. ولسبب ما ترتبط تلك الأغاني بالأرجيلة (الشيشة). أميل دوماً إلى ربط الذكريات بالموسيقى، فمن دون الموسيقى يتحوّل العالم الأساسي -والذي أضطر إلى تركه أحياناً- إلى سجن بالتدرّج. المفارقة هنا أن موسيقى التخت االشرقي بدأت في الأصل برباعي العود، القانون، الناي والرقّ.
كلمة "تخت" في الأصل فارسية، وقد ظهرت تلك الموسيقى وتطوّرت ما بين بلاد فارس، العراق والشام، ثم انتقلت إلى الدولة العثمانية وتلقاها المصريون وأبدعوا فيها. ارتبط تلقي تلك الموسيقى بالشرق الأوسط، وقد حاول موسيقيو الحداثة تغريبها في قوالب موسيقية حديثة. ستظل اّذاننا تطرب وتحنّ إلى الوطن كلما سمعناها، حتى ولو في قوالب الموسيقى الإلكترونية. لكني في واقع الأمر أرفض ربطها بمنطقة واحدة، فالموسيقى لغة عالمية، لو تتبعنا المقامات و"العُرب" الموسيقية كمثال -وهي الإطالة في تلحين حروف المد- سنجدها متطابقةً في الغناء الشرقي، الإسباني الجنوبي، وفي موسيقى البلقان الشعبية، والفلكلور اليوناني، والموزيكا بوبولارا الرومانية.
يبدو التفسير المنطقي هنا أن التبادل الثقافي هو السبب في تشابه موسيقانا. استطاعت المقامات الشرقية -مجازاً فهي عالمية كما أوضحت- أن تخاطب ألمنا، معاناتنا وأفراحنا. حركت مشاعرنا وأقدامنا معاً لننتج الرقص الشرقي والدبكة، واندمجت مؤخراً في قوالب إلكترونية استوعبت ذلك الاختلاف، تماماً كما استوعبته الفلافل... وبيروت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.