بالأمس شاهدت فيلم soul مع بناتي، كنت أحكي لهن الحوار مختصراً دون فلسفة قدر ما يمكن. عندما فقد البطل حياته بكيت بدون صوت، ثم ارتفع صوت بكائي وبات صوتي متهدجاً وهن غير مدركات لأسباب بكائي، أجيبهن بـ "لا شيء" سوى أن الفيلم جميل، فيتعجبن: "لماذا أبكي طالما أنه جميل؟".
لم يعرفن بعد أهمية اللوحات والموسيقى والسينما في تشكيل قرارتي الكبرى، أشاهد فيلماً أو أرسم لوحة أو أستمع لمقطوعة موسيقية، فأشعر أنني قادرة على مقاومة الحياة، لا أرى اللوحات ولا الأفلام بعيني ولا أستمع للموسيقى بأذني، الفن يهبني حيوات دون أن أموت وأحيا من جديد.
تختمر الأحداث في رأسي، أهدم العالم من حولي في لوحة وأشيّده في نص. أقول أنا بطلة حياتي، وأخبر بناتي أنهن بطلات حياتهن، وأن مقاومة الشر والكذب اختيار ودرب، وأقول ذلك لنفسي أيضاً، تصبح الحياة أصعب مع كل التحدي الذي يرغمني عليه العالم رغم أنني لا أرغب سوى بأن أكون ما أنا عليه.
بين بطل "سول" العالق بين الحياة والموت وبيني أنا، كبطلة عالقة في حياتي التي لا تهمّ أحداً، تتكرّر جملة "البحث معنى الحياة". فكّرت: ما الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش، وهي ليست مسرحية كوميدية أو فيلماً يمكن أن نعيده من البداية؟
كنت أحلم بحياة تجريبية مثل لوحة بيضاء أخططها كما أحب، وأعيد طلاءها من جديد مرات ومرات، كلما أزعجني خط أو لون، أو كلما أرهقني وجودي على قيد الحياة
لسنوات بقيت على خطى السيناريو المكتوب مسبقاً لحياتي، لوحة كلاسيكية تتبع المخطوط، تماماً مثل بطل الفيلم: مدرس الموسيقى الذي يحلم بالعزف في حفل موسيقي أمام الجمهور. كنت أحلم بحياة تجريبية مثل لوحة بيضاء أخططها كما أحب، وأعيد طلاءها من جديد مرات ومرات، كلما أزعجني خط أو لون، أو كلما أرهقني وجودي على قيد الحياة.
السينما كملاذ
أصرخ: "أنا حزينة وتعيسة"، لا أحد يدرك تماماً ما أشعر به وكيف يهزمني الحزن والاكتئاب ويكسر قلبي، فأبحث عن فيلم يعزّيني وأتماهى مع أبطاله، أبكي لأجل حزن أبطاله وأنا أبكي حزني في الأساس. أفكّر فيهم وأنا افكر في نفسي. وفرت لي أوقات مشاهدة الأفلام بيئة آمنة للتفكير في مشكلاتي دون أسئلة مباشرة من معالج أو حتى من صديق، رغم أنني لا أجد صعوبة كبيرة في التعبير عما أشعر به، سواء أمام صديق أو طبيب أو معالج، لكن الأفلام تدفعني نحو البحث في ذاتي عن طريق مراقبة نفسي في هدوء، دون تحيز أو محاولة لتحسين الصورة، لذلك غالباً ما أفضل مشاهدة الأفلام التي أحبّها وأختارها وحدي رغم متعة المشاهدة الجماعية، تبقى المشاهدة الفردية أكثر قرباً لي، كلما أعجبت بالفيلم أكثر شاهدته مرات ومرات، وفي كل مرة أجد فيه شيئاً ما من نفسي، وجزءاً من قصتي الشخصية، فأقول: نعم، نعم، لست وحدي العالقة هنا في هذه الحياة التي لم أخترها، لست وحدي من أتألم، ولست وحدي صاحبة الأحلام المهدورة والقصص غير المكتملة. نظرا لأن هذه القصص ليست قصصنا الشخصية، وهؤلاء الأبطال ليسوا نحن، فلدينا مسافة كافية للنظر بموضوعية إلى المشاعر والأحداث مقارنة بالوقت الذي نكون فيه في خضم مشكلاتنا، من هنا أصبح لدى عائلة كاملة من أبطال الأفلام، الذين عاشوا حياة تشبه حياتي ولهم تجارب تتماس مع تجربتي. عائلة لا تعرف بعضها أبداً، لكنني فقط من أعرفهم، وهي عائلة تمتدّ وتتسع مع كل فيلم أشاهده ويلمس جزءاً من حياتي.
أملا في أن أتحوّل إلى شخص آخر
أنا تماماً، كما بطل فيلم "سول"، فقدت أحلاماً كثيرة وأخطأت في قرارات لا تحصى على مدار حياتي، بقيت لسنوات لا أفعل شيئاً سوى أن أفقد نفسي واستنزفها فيما لا أحب، أملاً في التحوّل إلى شخص آخر. هجرت عالم الفن ومزقت لوحات واسكتشات لأنني شعرت في وقت ما بلا جدوى الفن، أو ربما كنت خائفة من تحمل مسؤولية الفن لشدة إيماني به.
"أملاً في التحول إلى شخص آخر"... كم كانت مؤلمة هذه الرغبة، وكم كان مؤلماً الشعور المصاحب لها. أم البطل في الفيلم كانت تريده أن يبقى في وظيفته الثابتة كمعلم موسيقى تقليدي، ودفعته نحو الخوف من تحقيق حلمه في أن يصبح موسيقياً أو عازفاً، وهو تماهى مع هذا الخوف حتى أصبح خوفه الشخصي الذي يصارع حلمه.
ارتديت الحجاب لأشبه صديقاتي ونساء العائلة، لأنني كنت أضعف من تحمل اختلافي الشخصي الذي لم أفتعله، حشرت نفسي داخل القالب ظنّاً مني أنني سأتأقلم مع القالب الذي لا يناسبني، حاولت وحاولت، ولمت نفسي على ما ليس بيدي، لكن القالب انفجر في نهاية الأمر
أنا أيضاً اخترت التخلي عن أحلامي لأن الجميع أخبرني أن "الست مالهاش غير بيتها وجوزها"، تعمّدت التخلي عن أحلامي ومسخ نفسي حتى أتواءم مع العقل الجمعي، وحتى أدهس فرادتي التي كنت أشعر أنها عبء. قطعت الخضروات أمام الحلقات الطويلة للمسلسلات التركية، ولففت أصابع ورق العنب أمام برامج التوك شو، أملاً في أن أشبه النساء من حولي، "لأن الست الشاطرة متشتريش خضار مجمّد ولا أكل جاهز".
ارتديت الحجاب لأشبه صديقاتي ونساء العائلة، لأنني كنت أضعف من تحمل اختلافي الشخصي الذي لم أفتعله، حشرت نفسي داخل القالب ظنّاً مني أنني سأتأقلم مع القالب الذي لا يناسبني، حاولت وحاولت، ولمت نفسي على ما ليس بيدي، لكن القالب انفجر في نهاية الأمر، وسلّمت أن تمثيل التأقلم ليس تأقلماً، وأنني لا أشبه النساء من حولي. ليس الأمر أنني أفضل منهم أو هم أفضل مني، لكنني لا أحب ما يحببنه ولا أنتمي لمثاليتهن ولا أحب أن أنال رضاهن وإعجابهن ويبادلنني هن نفس هذه المشاعر.
بعد أن سلمت بفرادتي ودفعت كامل ثمنها، لم أعد أرغب في مكايدة أحد ولا في إثبات مثاليتي لأي شخص أي كان، تخليت عن رغبتي في المثالية واعتزلت كل ما لا يشبهني من علاقات وصداقات وملابس وأحذية وأثاث. توقفت عن شراء أدوات التجميل، وواجهت العالم بهالاتي السوداء وشعري المنكوش، ووفرت النقود لطبيبي النفسي الذي عرّفني على نفسي من جديد، وللكتب التي أحبها ولأدوات الرسم الذي أفتقده، رميت السفرة وكراسيها ونيشها، ورصصت لوحاتي وألواني في الغرفة، توقّفت عن صباغة شعري باللون الأحمر الذي أحبّه، وتركت الشعر الأبيض يظهر في مقدمة رأسي، غمست أصابعي في قلب الحياة وخالفت كل القواعد.
آه لو تعرفون كل ما مررت به في سنواتي الأخيرة، منذ قررت أن أكون نفسي تماماً ستتمنون أن تخوضوا كل تجاربي، ليس لأنها تجارب ممتعة، لا ليست ممتعة قط، لكنها صعبة و حقيقية، يمكنني أن أذكرها بعد عشرات السنوات وأقول لنفسي: "لقد عشت حياة حقيقية وكنت نفسي تماماً، ولم آبه بـكسم المجتمع ودفعت الثمن كاملاً، و لم أمت قبل أن تبدأ حياتي كما حدث مع بطل الفيلم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع