"صبيحة عيد الأضحى الماضي، صُدمت وعائلتي في حدود الساعة الثامنة صباحاً بانقطاع مفاجئ للمياه الصالحة للشرب، ودون أي سابق إنذار في درجات حرارة قياسية في منطقة قطرانة في محافظة سيدي بوزيد"؛ تحكي نجاة بكار لرصيف22.
لا يمكن وصف معاناة ذلك الصباح مع حاجة العائلة إلى كميات كبيرة من المياه للتنظيف والغسل والاستحمام، ولكن الأمر المستفز بالنسبة لنجاة، هو أن هذه الأزمة متواصلة حتى اليوم.
سجلت سيدي بوزيد مثلاً يوم السبت 29 تموز/ يوليو 2023، درجة حرارة قصوى بلغت 47 درجةً، وفق المعهد الوطني للرصد الجوي.
من حسن حظ بكار أن أسرتها توارثت في بهو المنزل "ماجلاً"، وهو خزان تقليدي للمياه جددوه وجهزوه بمحرك متطور أُعدّ خصيصاً لمثل هذه الظروف الطارئة، "حتى أن صاحب مقهى المنطقة استنجد بهم حتى يتمكن من العمل بسبب قطع المياه الصالحة للشرب عن محله".
وكما أن هناك جانباً إيجابياً لوجود "الماجل"، هناك جانب سلبي آخر يكمن في صعوبة ملئه عندما يفرغ لعدم توفر الماء الذي يجلبه جرّار في صهريج كبير للعائلة، نظراً إلى انقطاع الماء عن منطقتهم، ما يدفعهم إلى التقشف في استغلال مياهه، تؤكد نجاة.
لا يمكن وصف معاناة يوم "عيد الأضحى" مع حاجة العائلة إلى كميات كبيرة من المياه للتنظيف والغسل والاستحمام، ولكن الأمر المستفز بالنسبة لنجاة، هو أن هذه الأزمة متواصلة حتى اليوم
تضيف نجاة أن تواصل انقطاع المياه كل هذا الوقت "غير معقول"، ويعود بالضرر الشديد على بساتينهم إذ احترقت مشاتل الزياتين المغروسة حديثاً، وتضررت أشجار الزيتون الكبيرة، ويُتوقع أن يكون محصولها ضئيلاً في العام المقبل جرّاء عدم سقيها.
تقول إن وصول المياه يكون أحياناً عند الحادية عشرة ليلاً، لساعتين أو ثلاث عندما يكونون نائمين وتتساءل عن جدوى هذه "السياسة المتّبعة"، لأنه وبمجرد استفاقة الأسر فجراً تجدها مقطوعةً.
كما تنتقد بشدة سياسة "التعامل بمكياليْن بين مختلف مناطق البلاد، حيث يُقطع الماء عنهم في سيدي بوزيد (وسط غرب)، منذ أكثر من شهر بينما تتمتع به مناطق أخرى ليلاً ونهاراً".
احتجاجات "الماء" في سيدي بوزيد
يتواصل في مناطق عديدة في سيدي بوزيد انقطاع المياه الصالحة للشراب على غرار بئر الحفي، وقرية 20، وأولاد حفوز، وسيدي علي بن عون، وجلمة، والسبالة، والرقاب، والمكارم وغيرها، ما دفع سكانها إلى الخروج والاحتجاج بطرق مختلفة مطالبين بحقهم الطبيعي في الماء.
ردّت السلطات الجهوية على احتجاجات المواطنين، وأوضحت في 11 تموز/ يوليو 2023، أن "اضطرابات التزود بالماء الصالح للشرب تعود إلى خلل طرأ على محطة تحويل الكهرباء للضغط العالي في منطقة لسودة، والذي أدى إلى انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي في مناطق التزود بخدمات الشبكة"، ومن بينها آبار المياه العميقة وشبكات المياه الصالحة للشرب.
وأعلنت محافظة سيدي بوزيد يوم 16 تموز/ يوليو 2023، "الانتهاء من عملية تركيز المحوّل الكهربائي الجديد لتستأنف المحطة عملها العادي في التزويد بالكهرباء بنسبة 100 في المئة"، غير أن مناطق عدة في المحافظة تشتكي إلى اليوم من انقطاع مفاجئ ومتكرر للكهرباء رافقه انقطاع دائم للماء الصالح للشرب.
لا تقتصر هذه السياسة على المنطقة، بل تمتد إلى محافظة قفصة (جنوب غرب) المجاورة، حيث يعاني محمد بن نتيشة، ابن منطقة الحوض المنجمي في معتمدية (حكم محلي) المتلوي، كغيره من سكان المنطقة من انقطاع تواصل منذ أكثر من شهر للماء الصالح للشرب.
معاناة ومشقّة
ويقول لرصيف22، إن المشكلة ذاتها ومشقة الحصول على الماء تتكرر معهم كل صيف وإن معاناتهم هذه السنة "لا توصف" في ظل ارتفاع قياسي لدرجات الحرارة، ويضيف: "هذا اليوم مثلاً يتواصل في منزلنا انقطاع الماء منذ البارحة لذا اضطررت إلى الاستحمام بسطل دهان مليء بالماء ولا نستطيع غسل الثياب إلا ليلاً عندما تعود المياه لساعات معدودة".
ويضيف محمد أن المياه تعود أحياناً في آخر ساعات الليل عندما يكون السكان نياماً، فلا يتمكنون من ملء الأواني، ويستعملون مياه الأواني للغسيل والتنظيف فحسب.
أما مياه الشرب فيشترونها من شاحنات "غير مهيأة"، تحمل صهاريج بلاستيكيةً يتم جلبها من مناطق أخرى، "برغم أنها غير صحية نظراً إلى تعرضها للحرارة المرتفعة، فالمهم لنا أن نشرب للأسف"، يقول.
تعود المياه أحياناً في آخر ساعات الليل عندما يكون السكان نياماً، فلا يتمكنون من ملء الأواني، ويستعملون مياه الأواني للغسيل والتنظيف فحسب
يُعدد محمد أسباب قطع مياه الشرب عن منطقته، وأولها اهتراء الشبكة المائية وتقادمها إلى جانب احتواء منطقة المتلوي على إقليم تابع للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه ولكنه "غير مفعّل"، وبقاء المنطقة تابعةً لإقليم قفصة.
ويوضح أنه لا يتم "إصلاح أعطاب كبيرة في تسرب الماء في القنوات في المتلوي إلا بموافقة إقليم قفصة وجلب المعدات منه، فليست لدينا إدارة مستقلة بذاتها بالإضافة إلى قلة اليد العاملة في الشركة".
ويشير إلى "دور شركة فوسفات قفصة الكبير في استنزاف الموارد الباطنية المائية لمنطقة الحوض المنجمي واستغلالها لغسل الفوسفات في ظل الجفاف الذي تعاني منه تونس، وضعف تدخل الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، ونقص الآبار مقابل نمو ديمغرافي كبير، ما يزيد الطين بلّةً"، وفق تعبيره.
"تمييز"
ينتقد محمد "التمييز" في قطع المياه عن مناطق البلاد، ويعزوه إلى المركزية الإدارية في مناطق الشمال، ويرى أن ما يحدث في منطقته لا يحدث في غيرها إذ "لا يجوز قطع المياه عن النزل لأن الأمر يتعلق بالأمن القومي، أو عن المناطق الراقية كحدائق المنزه وضواحي قرطاج حيث يفقد مسؤولوها مناصبهم في حال قطع المياه الصالحة للشرب عن سكانها"، كما يرى.
ويقول إنه في هذه المناطق يتم إعلام سكانها مسبقاً بوجود إصلاحات أو انقطاعات للمياه بينما تكون العملية "دون سابق إنذار في المناطق الداخلية. في الواقع هناك فوارق اجتماعية حتى في عملية قطع المياه وتوزيعها".
في 3 تموز/ يوليو 2023، احتج عدد من سكان منطقة الرديف في محافظة قفصة بسبب استمرار انقطاع المياه الصالحة للشرب لأكثر من أسبوعيْن عنهم، وأغلقوا مراكز إداريةً وحكوميةً.
وقد رصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة غير حكومية مستقلة)، 131 تحركاً احتجاجياً في النصف الأول من السنة الحالية، تتعلق كلها بالمطالبة بالحق في المياه.
أزمة جفاف
وتعاني تونس من أزمة جفاف غير مسبوقة هذه السنة، حيث بلغت بتاريخ 11 تموز/ يوليو 2023، الإيرادات الإجمالية للسدود خلال الفترة الممتدة من 1 أيلول/ سبتمبر 2022، إلى 11 تموز/ يوليو 2023، نحو 766.9 ملايين متر مكعب مسجلةً بذلك تراجعاً كبيراً مقارنةً مع الإيرادات المسجلة خلال معدل الفترة (1481.7 ملايين متر مكعب)، والإيرادات المسجلة خلال الفترة نفسها من السنة المنقضية (1،088.3 ملايين متر مكعب).
وحسب المرصد الوطني للفلاحة (جهة حكومية)، تتوزع هذه الإيرادات بين 29.3 في المئة في الشمال، و7.3 في المئة في الوسط، و8.8 في المئة في الوطن القبلي، فيما بلغ المخزون الإجمالي للسدود 736.6 ملايين متر مكعب مقابل 279.5 ملايين متر مكعب خلال الفترة ذاتها من العام الماضي.
كما قُدّر معدل اليوم ذاته، 11 تموز/ يوليو في السنوات الثلاث الفارطة بـ1،835.7 ملايين متر مكعب أي بتراجع يُقدّر بـ99.4 في المئة بحسب المصدر نفسه.
ينتقد محمد "التمييز" في قطع المياه عن مناطق البلاد، ويعزوه إلى المركزية الإدارية في مناطق الشمال، ويرى أن ما يحدث في منطقته لا يحدث في غيرها
وبالنسبة إلى وضعية الأمطار حتى تاريخ 11 تموز/ يوليو 2023، فقد بلغت كمياتها في كامل البلاد التونسية وخلال الفترة ذاتها 4،251 مم، وسُجّلت أهم الكميات في الشمال.
وقد ساهمت كميات الأمطار المسجلة خلال أيار/ مايو والنصف الأول من حزيران/ يونيو 2023، في تقليص العجز المسجل مقارنةً بمعدل الفترة والذي تراوح بين 21% في الشمال الغربي و45% في الجنوب الغربي.
هذه الأزمة دفعت السلطات التونسية إلى اتخاذ إجراءات استثنائية تحت مسمى "ترشيد استهلاك المياه"، وقررت وزارة الفلاحة بمقتضى مقرر صدر في آذار/ مارس 2023، "اعتماد نظام حصص ظرفي وتحجير وقتي لبعض استعمالات المياه في إطار التعامل مع نقص المياه في البلاد بدايةً من الجمعة 31 آذار/ مارس وحتى شهر أيلول/ سبتمبر 2023".
وقلصت الوزارة استعمال المياه الصالحة للشرب الموزعة عبر شبكات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، سواء للأغراض الفلاحية أو لري المساحات الخضراء أو لتنظيف الشوارع والأماكن العامة أو لغسل السيارات.
مسؤولية الدولة
برأي الباحث في السياسات المائية والفلاحية رامي بن علي، فإن توزيع المياه الصالحة للشرب "غير العادل" صيفاً بين مناطق البلاد، يعود إلى سياسة الدولة منذ الثمانينيات التي كرست نحو 80 في المئة من المنشآت المائية في مناطق الشمال والساحل، وقامت بتعبئة الموارد المائية لغايات زراعية، بينما لا يوجد في الوسط والجنوب الكثير من هذه المنشآت".
كما يعزو هذا التفاوت إلى طبيعة المنشآت المائية في تونس، حيث يتزود الشمال والساحل عبر المياه السطحية المتمثلة في السدود، بينما يتزود الجنوب بالمياه الجوفية عبر الآبار العميقة.
برأي الباحث في السياسات المائية والفلاحية رامي بن علي، فإن توزيع المياه الصالحة للشرب "غير العادل" صيفاً بين مناطق البلاد، يعود إلى سياسة الدولة منذ الثمانينيات
ويؤكد بن علي لرصيف22، أن الدولة "عملت على التزويد بالمياه عبر محطات تحلية المياه المتمركزة أساساً في الشمال بينما توجد محطتان فقط في الجنوب هما صفاقس وقابس-جربة، وأنها لم تحاول على مستوى التخطيط خلال السنوات الأخيرة تلافي هذا التفاوت أو إيجاد معادلة توازن بين المناطق التونسية".
ويحذر من أن هذا التفاوت "سيأخذنا إلى حالة الغبن الاجتماعي جراء تمتع سكان الشمال والساحل بكميات مائية حتى ولو كانت ضئيلةً، ولكن المهم أنها متوفرة بينما يُحرم سكان الجنوب والوسط من الماء لمدة زمنية طويلة تتواصل حتى أشهر ما دفعهم إلى الاحتجاج والمطالبة بحقهم الطبيعي".
ويشير الباحث إلى دور المناخ وتأثيره حيث أن مناخ الشمال شبه جاف فترتفع فيه نسبة التساقطات، بينما تنخفض في الجنوب الجاف إلى أقل من 100 ملم في السنة.
هل من حلول لأزمة الماء في تونس؟
للحد من الانقطاع المتكرر للماء الصالح للشرب، خاصةً في مناطق الوسط والجنوب، يؤكد رامي بن علي أن الحلول موجودة ولا تغيب عن ذهن أي مسؤول أو تقني متدخل في عملية الموارد المائية لكن المسألة تتعلق "بمشكلة الإرادة".
ومن بين هذه الحلول على المستوى المحلي، يرى بضرورة اعتماد آلية الماجل من خلال حصاد الأمطار في فصل الشتاء وتشجيع الناس على إنشاء هذه الخزّانات التقليدية للمياه في هذه المناطق واستغلالها لخفض العبء قليلاً على الموارد المائية الجوفية.
ويتحدث عن تقنية تغذية طبقة المياه الجوفية ويعدّها من الحلول الناجعة اليوم في المحافظة للموارد المائية وذات جدوى عالية ومنخفضة التكلفة.
وتتمثل هذه الطريقة في إنشاء حواجز مائية خاصة في المناطق المرتفعة وتكون فيها نسبة انحدار المياه عاليةً، "إذ تجعل هذه العملية الأرض تشرب المياه أكثر في مدة زمنية طويلة، خاصةً أن المياه الجوفية تتميز بجودة عالية مقارنةً بالمياه السطحية بحكم أنها لا تتعرض لعوامل خارجية سطحية كالتلوث والتبخر".
ويشدد على ضرورة اتجاه الدولة التونسية اليوم نحو حلول بديلة، خاصةً في مناطق الجنوب والوسط، لأنها تعاني وعلى الحد من بعض المظاهر التي استنزفت موارد هذه المناطق المائية.
ومن هذه المظاهر الربط والحفر العشوائي للآبار في هذه الأماكن "حيث ترتفع في محافظة قبلي (الجنوب) نسبة الحفر العشوائي وبلغت أكثر من 7 آلاف بئر غير مرخصة، لذلك على الدولة معالجة هذه الظاهرة بشكل تراعي فيه وتوازن بين مصلحة المزارع من جهة، للمحافظة على مورد رزقه، وبين المحافظة على الموارد المائية من جهة ثانية".
ويرى رامي بن علي أن تفاقم أزمة العطش في تونس مستقبلاً، يبقى رهينة سياسات الدولة ومدى إرادتها في التوجه نحو الإصلاح.
ويقول إنه يمكن الحد من هذه الأزمة "في حال التوجه نحو إصلاح المنظومة المائية واتخاذ بعض القرارات التي يمكن أن تساعد على إصلاح القليل من مظاهرها، وإنها ستتفاقم في حال الاكتفاء فقط بما هو موجود والعمل على ترميمه وإعادة رسكلته".
ويحذّر من "إمكانية أن يكون نظام التقسيط في مياه الشرب مستقبلاً أكثر حدةً في حدود ساعتين أو ثلاث فقط يومياً، وأن يكون انقطاع الماء في الأعوام المقبلة طوال اليوم، ما سيدخلنا في مآزق أخرى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...