شكلت إجبارية الدروس الخصوصية تحدياً جديداً للأسر التونسية، وعبئاً آخر يثقل كاهلها في ظل انتشار واسع لهذه الظاهرة من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية. ولا يبدو أن جهود السلطات الرسمية في البلاد من أجل الحد منها، تأتي بنتيجة تُذكر في ظل تفاقم الظاهرة من سنة إلى أخرى.
دروس خصوصية إجبارية
مما لا شك فيه أن مستوى التعليم في تونس قد تراجع وفقاً لتقارير عدة صدرت في الغرض ما يجعل عدداً من التلاميذ في حاجة إلى دروس تدارك لتحسين مستواهم. لكن عندما تتحول هذه الدروس إلى خطوة إلزامية على كل العائلات القيام بها، مهما كانت المرحلة الدراسية، ومهما كان المستوى المعرفي والفكري للتلميذ، وبضغوط مباشرة من المعلمين والأساتذة، فإن المسألة تصبح عبارةً عن تجارة رابحة يمارسها المدرّسون لتحصيل مداخيل أخرى في ظل عدم رضاهم عن رواتبهم الشهرية التي يتقاضونها، وعملية ابتزاز منظمة لجيوب الأولياء.
تحدثنا سماح (من محافظة الكاف شمال غرب)، وهي أم لطفل في السنة الخامسة ابتدائي، بأنها تقوم بأعمال شاقة برغم مرضها حتى تستطيع توفير مستلزمات الدراسة الضرورية لابنها في ظل عطالة زوجها المريض أيضاً، وكيف وجدت نفسها إزاء معلمة تسيء معاملة ابنها المتفوق لأنها لم تُلحقه بالدروس الخصوصية التي تقدّمها.
تقول لرصيف22: "في إحدى المرات، ولدى عودة ابني من المدرسة، احتضنته كالعادة ولكني فوجئت به يبعد يدي من جنبه الأيمن محاولاً إخفاء ألم انعكس بوضوح على وجهه. خفت وهرعت لأسأله ما الذي يؤلمه؟ ارتبك في البداية، ثم أخبرني باكياً بأن معلمته تغرس قلمها في جنبه الأيمن، لأنه توقّف عن أخذ دروس خصوصية لديها، وأنها تضعه على طاولة في آخر الفصل ولا تهتم لمشاركته. آلمني ما رواه لي ابني، وذهبت في اليوم التالي إلى المدرسة لأستفسر، ولكنها أنكرت ذلك متهمةً ابني بفرط الحركة والنشاط والتشويش على زملائه بالإجابة من دون طلب الإذن والحال أن ابني من النجباء وكان دائماً محلّ مدح من قبل كل معلّميه".
ارتبك ابني في البداية، ثم أخبرني باكياً بأن معلمته تغرس قلمها في جنبه الأيمن، لأنه توقّف عن أخذ دروس خصوصية لديها، وأنها تضعه على طاولة في آخر الفصل ولا تهتم لمشاركته
عادت سماح في ذلك اليوم من دون أن تجادل المعلمة خوفاً من أن تزيد عقاب ابنها وحاولت مجدداً التحدث إليه، فأخبرها بأن المعلمة ذاتها اشتكته إلى المدير في مرة سابقة مدعيةً أنه يريد ضرب مستقبلها المهني، وأنه قد تعرّض لمعاملة قاسية وللتهديد بالضرب من الاثنين، فقط لأنها طلبت إليهم أن لا يبيّنوا أمام المتفقد (مندوب الوزارة)، أنهم قد تلقّوا أحد الدروس، فبادر مستنكراً بشكل عفوي: "كيف يا آنستي ذلك ونحن قد تلقينا الدرس في الحصص الخصوصية؟".
تضيف سماح: "كما أخبرني ابني بأنها تضغط على التلاميذ الذين لا يتلقون دروساً خصوصيةً لديها عبر الترهيب والترغيب حتى أنها تظل ترسم على السبورة صورة المبلغ المطلوب قائلةً انظروا... إنه مبلغ بسيط لا يستعصي على آبائكم، ولكنني برغم ذلك لم أجد الجرأة للذهاب إلى المدرسة أو تقديم شكوى ضدها خوفاً على ابني من الاستهداف، لا سيما وأن جميع الأولياء يلتزمون الصمت ويرسلون أبناءهم مكرَهين لتلقي الدروس الخصوصية خوفاً عليهم من المعاملة السيئة أو التلاعب بنتائج الامتحانات".
في ظل هذا الوضع، لم تجد سماح حلاً سوى في تغيير مدرسة ابنها في السنة القادمة، عسى أن تجد معلّمين أقل إصراراً على الدروس الخصوصية، ولا يسيئون معاملة ابنها لمجرد أنه أراد الاكتفاء بالدروس اليومية التي تقدَّم في المدرسة.
يتراوح متوسط الرسوم الدراسية الخاصة لكل مادة من 100 دينار (نحو 30.7 دولارات)، إلى 200 دينار شهرياً (61.4 دولارات)، ويشكل ذلك عبئاً ثقيلاً على العائلات خاصةً التي لديها أكثر من طفل.
منذ سنوات، تسعى السلطات الرسمية التونسية إلى تنظيم هذه المسألة عبر سنّ جملة من القوانين الردعية دون فائدة. ففي الـ30 من تشرين الأول/ أكتوبر 2015، صدر أمر حكومي منظم للدروس الخصوصية من وزير التربية الأسبق ناجي جلول، الذي أطلق ما يشبه الحرب على هذه الظاهرة، ونفّذت وزارة التربية حملات لمراقبة المخالفين أزعجت كثيراً عدداً من المدرّسين الذين يمتهنون الدروس الخصوصية خارج المؤسسات التربوية، ولكنها لم تنجح في تطويقها.
وفي الخامس من نيسان/ أبريل 2019، صدر في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، أمر حكومي يتعلق بضبط شروط تنظيم دروس الدعم والدروس الخصوصية داخل فضاء المؤسسات التربوية العمومية. وطبقاً لهذا الأمر، يتولى المتفقدون الإداريون والماليون في وزارة التربية بناءً على أذون، مهام التفقد وإجراء عمليات المراقبة الميدانية وتحرير التقارير المتعلقة بمخالفة أحكام هذا القانون من قبل المدرّسين العاملين في مختلف المؤسسات التربوية العمومية التابعة لوزارة التربية.
يتراوح متوسط الرسوم الدراسية الخاصة لكل مادة من 100 دينار (نحو 30.7 دولارات)، إلى 200 دينار شهرياً (61.4 دولارات)، ويشكل ذلك عبئاً ثقيلاً على العائلات
لكن هذه القوانين لا يبدو أنّ لها فائدةً عمليةً في ظل تفاقم هذه الظاهرة، واتساع نطاقها حتى أنه أصبح هناك مدرسون يعرضون خدماتهم عبر الإنترنت من دون أن يتعرضوا لأي متابعات قانونية.
أما نور (اسم مستعار)، فهي تلميذة في البكالوريا في محافظة سليانة، عاشت تجربةً صادمةً مع الدروس الخصوصية جعلتها تعتقد جازمة بأن التعليم المجاني "كذبة" في تونس.
وقالت نور لرصيف22: "بمجرد أن اطلعت على النتيجة التي مُنحت لنا في أول الامتحانات صُدمت، فأنا التلميذة المتفوقة دائماً أجدني أنال نقاطاً أقل بكثير من قدراتي الحقيقية والمثير أن عدداً من زملائي متوسطي المستوى قد نالوا معدلات تفوق معدلي بكثير. لم أستوعب ما يجري وتوجهت إلى أستاذي محتجةً، فكان ردّه جاهزاً: هم أصبحوا بذلك المستوى لأنهم يتلقون دروساً خصوصيةً وأنت ترفضينها. صُعقت لدى سماعي هذا الرد، ولدى سؤال أصدقائي عرفت أن أستاذنا يقدّم خلال تلك الحصص دروساً أفضل من تلك التي يقدّمها داخل أقسام المعهد بل يقدم تمارين وأسئلةً تحاكي تماماً تلك التي ترد في الامتحانات وأحياناً يقدّمها هي ذاتها".
أحزن هذا الأمر نور جداً، لا سيما أنها تعودت أن تكون الأولى بين زملائها منذ سنوات طويلة، وفكرت في أن تلتحق بالدروس الخصوصية، ولكنها كانت مترددةً لأنها تعلم أن الأمر سيكون مرهقاً بالنسبة لذويها محدودي الدخل، خاصةً في ظل وجود أخ وأخت لها يدرسان في الجامعة والإعدادية ويحتاجان بدورهما إلى مصاريف كثيرة.
اكتشفت أن البكالوريا بشكل خاص هي فرصة ذهبية لأغلب الأساتذة لنهب جيوب أوليائنا وتحصيل مبالغ إضافية كبيرة إلى جانب الرواتب الشهرية
تضيف نور: "عندما أخبرت والديّ حاولا أن يطمئناني بأنهما سيوفران لي مال الدروس الخصوصية، لكنني سمعتهما يتحدثان من دون أن ينتبها لوجودي بأنه سيتعين عليهما الاستدانة من أحد الأقارب في البداية، ثم إيجاد حل في ما بعد. كان ذلك موجعاً فأنا لا أحتاج إلى دروس خصوصية في الحقيقة، ولكن جشع أستاذي أجبرني على ذلك. التحقت بها وكلي كره لأستاذي الذي كان حريصاً على الأموال التي ندفعها أكثر من الدروس التي نتلقاها حتى أنه كان يحتسب حتى الحصص التي نتغيب فيها بسبب المرض أو لظرف طارئ ويقبض عنها المال أيضاً من دون حضورنا أو تلقّيها".
"لقد اكتشفت أن البكالوريا بشكل خاص هي فرصة ذهبية لأغلب الأساتذة لنهب جيوب أوليائنا وتحصيل مبالغ إضافية كبيرة إلى جانب الرواتب الشهرية التي يتلقونها، لا سيما وأننا ندفع أضعاف ما تدفعه بقية المستويات، زِد على ذلك أن ممارساتهم وضغوطهم في هذه السنة تحديداً تحول دون كل سبل التملص من الالتحاق بركب الدروس الخصوصية، حتى وإن كنتَ متفوقاً. كما أدركت أن فكرة التعليم المجاني في تونس باتت مجرد جملة بالية بلا أي قيمة في ظل سوق الدروس الخصوصية التي أثقلت كاهل عائلاتنا"، تشرح نور.
مجانية في مهبّ الريح
ينص الفصل 39 من الدستور التونسي، على أن "التعليم إلزامي حتى سن السادسة عشر، وأن الدولة تضمن الحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، وتسعى إلى توفير الإمكانات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين".
ولكن يسود اعتقاد بأن الدولة التونسية لم تلتزم بتطبيق هذا الفصل خاصةً في العشرية التي تلت ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، اذ انقطع عن الدراسة أكثر من مليون تلميذ، أي بمعدل 100 ألف تلميذ سنوياً في الفترة الممتدة بين سنة 2010 وإلى غاية سنة 2020، حسب الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، رمضان بن عمر.
ويقول بن عمر، موضحاً لرصيف22، أن نسبة الانقطاع المدرسي ظلت ثابتةً على مدى العقد الماضي بمعدل 100 ألف منقطع عن الدراسة سنوياً. وفي سنة 2013، تم تسجيل انقطاع نحو 120 ألف تلميذ عن الدراسة، بينما غادر نحو 103 آلاف تلميذ المدرسة سنة 2019، في حين بلغت نسبة المنقطعين عن التعليم سنة 2020، نحو 105 آلاف تلميذ، بمعنى أن وتيرة الانقطاع عن الدراسة لم تقلّ عن الـ100 ألف منقطع بنسبة تتراوح بين خمسة وستة في المئة من إجمالي التلاميذ المسجلين في وزارة التربية".
يبرر الأساتذة والمعلمون تهافتهم على إعطاء الدروس الخصوصية، بتدني أجورهم التي تتراوح بين 1،000 و1،700 دينار شهرياً. لكن العديد من الأساتذة والمعلمين يمتنعون عن تقديم الدروس الخصوصية بمقابل مادي، وخارج المدارس والمعاهد يقرّون بأن هناك مشكلات حقيقيةً تواجه التعليم عموماً في تونس، وتحتاج إلى حلول فعلية من الدولة، ولكنهم يقرّون بأن التهافت المسجل على الدروس الخصوصية، سواء من المدرّسين أو من بعض الأولياء، يعمّق الأزمة.
هناك أساتذة يرفضون إعطاء دروس خصوصية ويفضّلون دعم التلاميذ ليتجاوزوا مكامن ضعفهم
ويقول عادل الهاشمي، المعلم في أحد المدارس الابتدائية في سيدي بوزيد (وسط غرب)، لرصيف22: "دعنا نقول بوضوح إن التعليم في تونس يعيش أزمةً حقيقيةً بسبب ضعف البنية التحتية، ونقص عدد المعلمين والأساتذة، وعدم تطوير البرامج التعليمية، وهذا بحاجة إلى عملية إصلاح جدية وسريعة. أما الدروس الخصوصية، فقد أصبحت اليوم ضرورةً ملحةً بالنسبة لبعض المدرّسين الباحثين عن تحسين رواتبهم، وهذا الهدف يدفعهم إلى عدم القيام بالمجهود الكافي خلال الحصص القانونية للدروس داخل المعاهد والمدارس، وتالياً يجعلون التلميذ في حاجة إلى التدارك بما في ذلك المتفوقين. ومنذ فهمت هذا الواقع، كان قراري حاسماً بألّا أقدّم دروساً خصوصيةً، إلّا داخل المدرسة، وبشكل مجاني. وهذه الخطوة أقدمت عليها عندما وجدت نفسي أمام تلاميذ بمستوى هزيل، لكنهم قابلون للإصلاح لو اجتهد المدرّسون أكثر في القيام بواجبهم، وكانوا أكثر تحمّلاً لمسؤوليتهم العظيمة".
يُذكر أن تونس تعاني منذ سنوات من تراجع جودة التعليم فيها، فحسب تقرير بعنوان "تحليل النظام التربوي في تونس" صدر سنة 2013، وقام به المرصد الوطني للتشغيل والمهارات (التابع لوزارة التكوين المهني والتشغيل)، فإن المنظومة التعليمية في تونس لا تضمن تكويناً صلباً للتلاميذ الذين يشكون من ضعف مستواهم، خاصةً في اللغات والرياضيات".
في تصنيف المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس لسنة 2017، حول جودة النظام التعليمي، احتلت تونس المرتبة 103 عالمياً من أصل 137 دولةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...