شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ما دمت لا تعرفني فلماذا تناديني

ما دمت لا تعرفني فلماذا تناديني "يا حاج"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأربعاء 9 أغسطس 202301:13 م

في يوم من أيام شهر حزيران/ يونيو 2009 كنت قد انتهيت من قراءة كتاب "حكمة الغرب" لبرتراند رسل، ووضعته على الرف، ثم توجّهت فوراً بسيارتي إلى مصلحة المياه لأدفع الفاتورة التي وصلتني قبل ذلك بيومين. كنت في تلك اللحظة مشبعاً بالفلسفة وبعصر التنوير الأوروبي، ومعتزاً بنفسي وبقراءاتي المميزة، ومقبلاً على الحياة كما ينبغي لرجل وضع ثاني خطواته في عمر الأربعين. وصلت إلى "الكاونتر" في منطقة الدفع، وجهّزت الفاتورة والمبلغ المستحق، ثم قلت: "صباح الخير" للفتاة الثلاثينية الجالسة خلف الزجاج. رفعت الفتاة رأسها وردّت بصوت آمر يخلو من الرحمة: "أهلين عمّو، تفضل.. شو بقدر أخدمك؟".

وقعت كلمة عمّو على مسامعي كوقع الصفعة، فهذه هي أول مرة تقال لي بهذه المباشرة والوضوح. لكنني لم أستطع الاحتجاج خوفاً من أن تفهمني الفتاة بشكل خاطئ يزيد من ورطتي. فقرّرت الردّ على القسم الثاني من جملتها، وقلت: "يا آنسة أنت لا تخدمينني بل تقومين بعملك. فلا داعي لتسمية هذا العمل باسم آخر". استغربت الفتاة وحاولت التوضيح أن طبيعة عملها هي خدمة الزبائن، وقالت لي بمنتهى الاعتذارية واللطف: "عمّو أنا آسفة بس ما في كلمة ثانية بديلة، رح أوصل ملاحظتك للإدارة".

لا إله إلا الله... هذه الفتاة تصر أن تخرجني عن ديني، إنها تكرّر كلمة "عمّو" كلازمة ضرورية. تمالكت نفسي وتصنّعت ابتسامة وملامح لطيفة، وسألتها: "أنت بنت عاصم؟"، فقالت: "من هو عاصم؟". أجبت: "أخي". قالت: "لا طبعاً، أنا لا أعرفك ولا أعرف أخاك هذا". قلت: "لماذا تنادينني عمّو إذن؟"، ثم دفعت قيمة فاتورتي وخرجت.

اتجهت إلى مكان عملي وأنا أفكر بالسبب الذي دفع الفتاة لمناداتي هكذا؛ هل هو الصلعة؟ لقد كنت أمس وأول أمس وقبل سنتين أصلعاً ولم ينادني أحد بهذه الكلمة. هل هو النظارات؟ الكل تقريباً في بيئتي يضعون النظارات ولا أحد يناديهم هكذا. هل هذه طريقة دفاعية استباقية تستخدمها الفتاة لإفهام الرجل أن فارق العمر بيننا كبير فلا تحاول معي؟ هذا غير منطقي، خصوصاً أنني لم أضحك حتى حين بادرت بـ"صباح الخير"، وهذه جملة تقال يومياً ولا توحي بأي شبهة أخلاقية. ما السبب إذن؟ لا بد أن قراءاتي هي ما جعل مني شخصاً جدياً ومتجهماً، لا يصلح إلا لوصف العم.

اللعنة على برتراند رسل وديفيد هيوم وليفي شتراوس، وكل من لفّ لفّهم. عليّ إذن أن أتوقف عن القراءة في المواضيع التي تسبّب تجاعيد الوجه واحمرار العينين، وتعطي السحنة تعابير الجدية والفهم. فأنا أفضّل أن أظلّ شاباً مرحاً لا تعنيه شؤون عصر التنوير، ولا ميزات عصر النهضة، على أن أكون "عمّو" الفهمان.

وقعت كلمة "عمّو" على مسامعي كوقع الصفعة، فهذه هي أول مرة تقال لي بهذه المباشرة والوضوح. لكنني لم أستطع الاحتجاج خوفاً من أن تفهمني الفتاة بشكل خاطئ يزيد من ورطتي

أجبرت نفسي على هذه القناعة وبدأت التعايش معها، فالقراءة سبب أقل أذى على النفس من تصبّغ الجبين بالشامات، وخلوّ فروة الرأس من الشعر. صرت أقرأ كتباً من قبيل "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة"، ومع قناعتي التامة أن النساء هن اللواتي من المريخ والرجال من الأرض، لكن الحفاظ على الشباب يستدعي الرضوخ للتيار السائد والاعتراف به، ثم إن المؤلف لا بد أن تجربته أهم من تجربتي، وإلا لقمت أنا بتأليف كتاب مشابه أو مضاد.

بعد شهرين من هذه الحادثة ذهبت لترخيص سيارتي في دائرة السير. على شباك استصدار الرخص كان يقف أحد المراجعين، وهو شاب في منتصف الثلاثينات من عمره كما يبدو، بينما تقوم موظفة من نفس جيله تقريباً، بالشرح المسهب له عن كيفية استعادة سيارته المصادرة. كانت تتناول ورقة وتكتب عليها رقم هاتف شخص في وزارة المواصلات، ثم ورقة أخرى وتكتب المبلغ المطلوب في الدائرة الفلانية. تنهي الكتابة وتنظر في عين المراجع وتشرح له أين يذهب وكيف يتصرّف، وحين تأكدتْ أن المراجع فهم كافة الخطوات التي سردتها له، وكتبتها على الورق، ابتسمت له بأن يعطي مجالاً للمراجع التالي، الذي هو أنا. الشاب بكل حماس شكرها بعبارة: "شكراً خالتو، غلبتك معي".

لا يمكنني أن أنسى ردّ فعل تلك السيدة على كلمة "خالتو"، حيث تغيّرت ملامحها فجأة وقالت له بهدوء: "أعطيني الأوراق لو سمحت يا إبني"، وعندما ناولها الأوراق قامت بتمزيقها واحدة واحدة، وهي تردّد: "خالتو يا بهيم، خالتو يا قليل الفهم، روح خلي خالتو تساعدك، يلعن أبو اللي بساعدكم إنتو وخالاتكم".

كان دوري بعد هذا الشاب، لكنني لم أجرؤ لا على الضحك ولا حتى على التقدّم نحو الشباك لاستكمال معاملتي، اعتذرت منها وقلت إنني سأعود في وقت لاحق، لكنني لا أنكر أنني حسدت هذه السيدة على جرأتها وردّ فعلها غير المتوقع. ثم فكرت في ماذا لو تصرفت مثلها مع موظفة مصلحة المياه؟ وما هي التهمة التي ستلتصق بي لو عبرت عن امتعاضي بطريقة قاسية كما فعلت هذه السيدة؟

مرت الأيام وصارت كلمة "عمّو" كلمة محبّبة إلى قلبي، وهي تسعدني فعلاً، خاصة عندما يكون قائلها من عمر أولادي أو حتى أكبر قليلاً، لكن برأيي لاستخدام هذه الكلمة شروط، لم نستطع لا كأفراد ولا كمؤسسات أن نوضّحها لأبنائنا: أهم هذه الشروط هو ألّا يتم استخدامها في المؤسسات أو الشركات العامة والخاصة، مع المراجعين.

من المستهجن مثلاً أن يتم مناداتي في شركة الاتصالات بكلمة "عمّو"، لأن عمري في الخمسين، بينما يتم مناداة مراجع في عمر الثلاثين بكلمة أستاذ. فابن الثلاثين لا تصلح له كلمة "عمّو" بينما تصلح لابن الخمسين، وكأن هذه الكلمة هي الأساس وكلمة "أستاذ" أو "سيّد" هي الاستثناء أو الاحتياطية. لا يجوز بأي حال أن تنادي امرأة، مهما بلغت من العمر، بكلمة "خالتو" أو "أنتي"، وهي تقف لتدفع لك فاتورة الكهرباء. هنا أنت مجبر أن تناديها بـ "مدام"، أو "سيدتي"، أما في الشارع أو في بيتكم، أو حفل طهور ابنك، فنادِها كما تشاء. على الأقل هذا ما يمكن استنتاجه من قراءة كتاب المريخ والزهرة على الأقل.

لا يمكنني أن أنسى ردّ فعل تلك السيدة على كلمة "خالتو"، حيث تغيّرت ملامحها فجأة وقالت له بهدوء: "أعطيني الأوراق لو سمحت يا إبني"، وعندما ناولها الأوراق قامت بتمزيقها واحدة واحدة، وهي تردّد: "خالتو يا بهيم، خالتو يا قليل الفهم

منذ أيام كنت في النادي الرياضي، وبينما أنا أتمرّن على ماكنة عضلات الظهر، جاء رجل وسألني: "مواليد أي سنة أنت يا حاج؟"، قلت في نفسي: "لو كان هذا السؤال خارج مكان الوحوش هذا لضربتك، لكنني مبتدئ هنا ولا يمكنني التغلب عليك". ثم أجبت بامتعاض: "حزيران/ يونيو 1967". قال الرجل: "أنا أكبر منك بستة أشهر، أنا مواليد شهر 12 من عام 1966". هنا فقدت اتزاني وصرخت في وجهه: "ما دمت أكبر مني فلماذا تناديني ب يا حاج؟"، استغرب الرجل وقال بهدوء: "هذه صيغة احترام يا أستاذ". رددت: "لا أريد هذا الاحترام، فأنا لست حاجّاً ولا أنوي أن أكون، أنا من يقرأ فلسفة عصر التنوير يا رجل، هل تعرف من هو إيمانويل كانط؟"، أجابني: "لا". قلت: "ما دمت لا تعرفه فمن المعيب أن تناديني بهذا اللقب. ثم أنت لا تعرفني أنا أيضاً، ومن أصول الذوق ألّا تسألني أصلاً عن عمري"، وخرجت بعد حصة التدريب وفي نيتي أن أضع "تاتو" على كتفي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image