تخرجت لتوي من كلية الصيدلة بجامعة الإسكندرية، وبما أني الولد الوحيد، بالتالي أصبح الإعفاء من الخدمة العسكرية نافذاً بموجب القانون، ولاستخراج أوراق الجيش لابد أن أجدّد بطاقتي الشخصية التي انتهت قبل أشهر، وهذا يقتضي الذهاب إلى السجل المدني.
على بعد أميال، رأيت تجمهراً شعبياً غير مفهوم، خصوصاً أنها السابعة صباحاً - كنت أظن أني الوحيد الذي استيقظ مبكراً - يخبرنا أمين الشرطة على باب السجل أن على القادمين أن يسجّلوا أسماءهم ليحجزوا أرقاماً، حيث الدخول بأسبقية الوصول، فأجدني الرقم 103، وأدرك أني أمام مهمة طويلة تتطلب الصبر والحكمة.
سألت عن سبب هذا العدد الكبير جداً والمفاجئ واكتشفت أن هناك قسمي سجل مدني للشرطة، لا يقدمان تلك الخدمات لأعطال أو (تطويرات فنية) فقرّروا أن يحولوا خدماتهم على القسم الذي اخترته أنا طبعاً، فـ"قليل البخت يلاقي العضم في الكرشة".
أقدمت على شراء استمارة مستعجل بضعفي سعر البطاقة العادية، تجنّباً للانتظار الطويل، ليخبرني أمين الشرطة ذاته "المستعجل في الاستلام بس يا أستاذ إنما تاخد دور زي الباقي". المنظر كالآتي: لا نظام، لا طوابير محدّدة، وإن كنت من سعيدي الحظ ونِلت شرف الدخول داخل المصلحة، فستجد شباكي خدمات فقط يعملان من أصل خمسة، لنقص في عدد الموظفين، ناهيك طبعاً عن مصطلحات كالسيستم وقع التي لا بدّ أن تسمعها في يومك "المنيّل" هناك.
الآن فهمت لماذا يتمنّع الكثيرون عن إخراج بطاقتهم ليراها الناس ويخبئونها في المحفظة بحرفية. تحلم الشعوب بغد أفضل ومستقبل أفضل، وأحلم أنا بصورة بطاقة أفضل من سابقتها
في تلك اللحظة ما استنتجته بالضرورة، أن كل مشوار إلى المصالح الحكومية هي رحلة مجانية للجحيم، رحلة لا تخلو من الضوضاء والسبّ والشجار، فيصبح اليوم في المصلحة الحكومية كألف يوم.
إذ كيف لعدد محدود جداً من الموظفين أن يقوم بخدمة هذا الكم الهائل من البشر، لدرجة تضطرّ الموظفين أنفسهم أن يأجلوا أفواجاً أخرى تأتي في الساعات التالية للغد، ومع خروج موظف لشرب سيجارة أو سيدة لتناول وجبة الفطار، يتناوب موظف وحيد على شباك استخراج البطاقات، فيعطل استخراج الشهادات والعكس بعد مدّة، كل هذا وفي خلفيتك امرأة تصرخ: "مفيش رحمة"، رجل يزمجر على تأخر دوره، وبعض الناس يدخلون بالواسطة لمعرفتهم بفلان وفلانة.
وضع لا يمكن تحمّله، ضاغط للأعصاب ومهلك نفسياً وبدنياً، أتعاطف مع الجهتين على حد سواء، ولكن من المسؤول، ومن يهتم بتحسين تلك الأوضاع؟
على كلٍّ، نصحتني مصورة الأوراق أن استمارتي "في اي بي" ويمكنني أن أحضر بعد الثالثة والنصف، وسأجد الدنيا "رايقة وعال وهننجز". تعلمك المصالح الحكومية الصبر، وتكفّر عن كثير من ذنوبك، لأنك ستستغفر الله طيلة مدة وجودك فيها، وستوزع ابتسامات صفراء لكنها على أقل تقدير صدقة والسلام.
أجلس على القهوة المجاورة حتى الثالثة والنصف، والآن عليّ أن أحفّز مستقبلات حماسي، وأن أعطي إشارة عصبية لمخّي من أجل ابتسامة على أن أجهزها من بداية دخولي وحتى لحظة التصوير.
الساعة الرابعة ولم يحضر لمقر العمل موظف الفترة المسائية، بجانبي شاب في عمري يستنكر هذا التأخير، وفجأة يدخل رجل. أخبره: "أبسط أهو وصل". يندهش بسذاجة: "هو أنت تعرفه؟". لو كنت أعرفه لما جلست تسع ساعات حتى الآن، أضحك وبعين الخبير أقول له: "الأمر بديهي". رجل يتعامل مع صنوف مختلفة من البشر- كل منهم له مشاكله ويرغب في إنجاز مهمة اليوم بالطرق الشرعية وبغيرها - يكرّر كلامه كمدرس كيمياء يشرح درساً في الصف الأول الثانوي ويكون مضطراً للردّ مرّة وللتنطيش مرّات.
عشر ساعات كاملة من أجل صورة فوتوغرافية للبطاقة، كانت الرحلة طويلة مليئة بالضجيج وبالضحك على حد سواء، وبتندّر الناس بعضهم على بعض، ويبقى السؤال مطروحاً بعد كل تلك الأحداث: كيف لي أن أبتسم ابتسامة فوتوغرافية جميلة للبطاقة؟
على هذا الحال أجلس منتظراً حتى يأتي دوري، وحين وصلت للهدف المنشود أي الشباك الأزرق، كنت أرتعد خوفاً من أن يقول لي: "ورقك ناقص". تمر عليّ الثواني كسنوات. يتنهّد وأخيراً يمضي باسمه الكريم على أوراقي، بعد معاينة كل أختام النسر والصور والذي منه، وأخيراً قال لي: "استنّى التصوير".
عشر ساعات كاملة من أجل صورة فوتوغرافية للبطاقة، وأكاد أجزم أن تلك الحالة أفضل مما سبق، على الأقل في سيستم حتى ولو انهار، كانت الرحلة طويلة مليئة بالضجيج وبالضحك على حد سواء، وبتندّر الناس بعضهم على بعض، ويبقى السؤال مطروحاً بعد كل تلك الأحداث: كيف لي أن أبتسم ابتسامة فوتوغرافية جميلة للبطاقة؟
الآن فهمت لماذا يتمنّع الكثيرون عن إخراج بطاقتهم ليراها الناس ويخبئونها في المحفظة بحرفية، تحلم الشعوب بغد أفضل ومستقبل أفضل، وأحلم أنا بصورة بطاقة أفضل من سابقتها، تحقق لي هذا بفضل حرفية مكتسبة وضبط نفس عالي المستوى وابتسامة لم تفارقني من أول دخولي غرفة التصوير، وهو ما فتح علىّ سيل أسئلة عن "ليك مين جوه"، على الأغلب لن يتحقق ذلك دائماً، ربما بحيوية الشباب أفلت، والآن أحسبك تعرف لماذا لا يوجد صورة بطاقة ضاحكة في مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...