"كنتُ في الثامنة عشر من عمري، عندما أجبرني والدي على الزواج من ابن عمي مشير، مقابل زواج شقيقي بندر، من أبين، التي هي شقيقة مشير... أي ابنة عمي!"؛ تقول سمر، بنبرة احتجاج وهي تحرّك يديها بغضب مع كل كلمة. كانت قد تخرجت للتو من الثانوية العامة في 2013، عندما أعلنت الأسرتان اللتان تقطنان في قرية شرعب السلام في ريف تعز، قرار زواج البدل (الشغار)، وحددتا موعد الزفاف الجماعي، وعبثاً حاولت هي الاعتراض والرفض، ليتبدد بذلك حُلم التحاقها بالجامعة.
تقول سمر لرصيف22، إنها لم تحصل على أي فرصة لإبداء رأيها في موضوع الزواج الذي يُفترض أنه متعلق بحياتها ومستقبلها. تصمت برهةً ثم تضيف بوجع، وهي تهز رأسها مغمضةً عينيها: "كنتُ مسلوبة الإرادة".
لم تستطع سمر التأقلم في بيت الزوجية، أو منح زوجها أياً من المشاعر، ولم تنجب منه، مما دفعه إلى تعنيفها وتفاقمت الخلافات بينهما إلى أن انتهى زواجهما بالطلاق في 2016، وكان ذلك سبباً في نشوب نزاعٍ بين الأسرتين، وصل إلى حد تبادل الإطلاقات النارية. تتابع سمر: "بعد الطلاق، ظننت بأنني تخلصت أخيراً من همومي. لكن في الواقع كانت تلك بداية لسلسلة من مشكلات أخرى واجهتها، تنوعت بين قسوة الأهل، والتهميش داخل البيت، وعدم الاهتمام أو الاحتواء الذي أحتاجه". طلاق سمر، ونزاع الأسرتين، تحمّل شقيقها بندر وزوجته أبين، تبعاتهما بإجبارهما على الطلاق، وفقاً لعرف زواج البدل.
تقول أبين: "بسبب فشل زواج أخي، والخلاف بين أهلي وأهل زوجي، أجبرونا على الطلاق، على الرغم من قصة الحب التي كنا نعيشها". تأخذ نفساً عميقاً ثم تواصل: "وأيضاً ابنتنا فاطمة، التي كانت سبباً لسعادتنا، دفعت ثمناً باهظاً وحُرِمت من والدها". أبين، تمسكت بإبقاء فاطمة في حضانتها، وحصلت على ذلك مقابل عدم زواجها مرةً أخرى، والتفرغ لتربية الطفلة، وهو شرط لن يكون في وسعها أبداً تجاوزه، وإلا نشب نزاع دموي آخر بين الأسرتين.
اليوم، وبعد مرور أكثر من سبع سنوات على طلاق الشابتين سمر وأبين، يمكن للمرء وبمجرد حوار صغير مع كل منهما، أن يدرك أنهما ما زالتا واقعتين نفسياً تحت تأثير تجربتيهما، وقد استبعدتا كلياً فكرة إكمال الدراسة والالتحاق بالجامعة. تنشغل أبين، معظم الوقت برعاية فاطمة، في حين تساعد سمر، باقي أفراد أسرتها في جلب المياه، والبحث عن الحطب، وغيرهما من الأعمال التي توكل إلى المرأة اليمنية في الريف.
الشغار
زواج البدل المعروف عند سكان المنطقة العربية بزواج "الشغار"، هو أن "يزوِّج الرجل ابنته أو أخته أو غيرهما ممن له الولاية عليها، بشرط أن يُزوِّجه الآخر ابنته أو أخته، وليس بينهما صَدَاقٌ".
"زوّجني شقيقتك بلا مهر، أزوّجك شقيقتي بلا مقابل"؛ بهذه المعادلة التي تبدو تفاصيلها بسيطةً، يجري الشغار، الذي يربط مستقبل أسرتين بعادات وتقاليد قديمة، تقضي في الغالب بإنهاء علاقتي الزواج في حال فشلت إحداهما، مما يجعل العائلات غير مستقرة.
وينتشر هذا النوع من الزواج، في معظم المناطق الريفية التي يسودها الطابع القبلي في اليمن، حيث يتصف المجتمع بالبساطة وتشيع فيه البطالة والفقر، وقلة وعي المرأة بحقوقها، وفقاً للمتخصص في علم الاجتماع، الدكتور محمود البكاري.
يقول البكاري لرصيف22، إن اتجاه الكثير من اليمنيين إلى هذا النوع من الزواج سببه "المغالاة في المهور، وتعاظم متطلبات الزواج، في حين أن زواج الشغار أو البدل، يعفي بطريقة أو بأخرى الزوج من التكاليف، لأنه يتزوج مقابل تزويج شقيقته مثلاً، وذلك هو المهر". ويشير إلى أن تدهور الوضع الاقتصادي في اليمن أثّر بنحو كبير على المستوى المعيشي للفرد. لذا فإن قلة فرص العمل، سواء في الريف أو حتى المدينة، جعلت الشباب الراغبين في الزواج، عاجزين عن تغطية تكاليفه.
ويضيف: "أصبح الكثير منهم أمام مفترق طرق؛ إما أن يتزوجوا وفق مفهوم البدل، أو يلجأوا إلى الهجرة غير الشرعية نحو بلدان مجاورة والاغتراب لسنوات من أجل تدبير تكاليف الزواج العادي!".
"زوّجني شقيقتك بلا مهر، أزوّجك شقيقتي بلا مقابل"؛ بهذه المعادلة التي تبدو تفاصيلها بسيطةً، يجري الشغار، الذي يربط مستقبل أسرتين بعادات وتقاليد قديمة من دون كلفة مالية
كما يؤكد أن ظاهرة الشغار، ترتفع في الوسط الريفي، نتيجة "تمسك المجتمع بالأعراف، وتوارث التقاليد، بالإضافة إلى تدنّي المستوى التعليمي للفرد هناك، وكذلك غياب التوعية بمخاطر هذا الزواج وعواقبه". ويرى البكاري أنه، ومن أجل تحجيم ما يصفها بمشكلة زواج البدل، ينبغي توعية المجتمع وتنبيهه إلى ضرورة ترسيخ ثقافة منح الحرية للأبناء عند الزواج، وأيضاً الحد من توسيع الخلافات الأسرية، التي تؤدي في كثير من الحالات إلى التفريق بين الأزواج رغماً عنهم.
تسليع للمرأة
يتفق علماء دين كثر على أن "إكراه الفتيات على الزواج، جريمة"، ويعدّون زواج البدل محرماً، لأنه يسلب حق المرأة في الموافقة أو الرفض؛ وهذا ما يؤكده أستاذ الثقافة الإسلامية في جامعة تعز، علي حميد، الذي يقول إن الشريعة تُحرِّم هذا النوع من الزواج، لأنه يتعارض مع النصوص الدينية.
ويشدد الدكتور حميد في حديثه إلى رصيف22، على أن "لا شغار في الإسلام، والشواهد تؤكد فشل هذا الزواج، فغالبية قصص زواج البدل، انتهت بالانفصال الإجباري. عشرات الأسر تفككت بسبب الشغار، وعناد الأهل، وقلة وعي المجتمع، والتمسك بالمفاهيم القديمة".
البعض من اللغويين، يرون أن سبب رفض العرب والإسلام لهذا الضرب من الزواج يتضح من اسمه، وواحد من تعريفاته: الخلو، وأصله مأخوذ من شغور الكلب، يُقال: شَغَرَ الكلب، إذا رفع إحدى رجليه للتبوّل لخلو الأرض، وسُمِّيَ بهذا الاسم تقبيحاً له، بينما يعتقد آخرون بأنه أُطلق على هذا النوع من الزواج لخلوّه من المهر. "شاغر" أي خالٍ.
والزواج التقليدي بمفهومه المعروف، أي اقتران رجل بامرأة بمهر وغير ذلك، قائم على أساس التراضي بين الطرفين لبناء أسرة، وفق معايير ومحددات اجتماعية. خلافاً لذلك، فإن زواج الشغار وفقاً لمتخصصين في التشريع الإسلامي، قائم على المصلحة منذ البداية، ويقولون إنه يهدف إلى التخلص من دفع المهر.
في حين يرى حقوقيون أن مخاطر الشغار على المرأة، لا تقتصر على حرمانها من المهر فحسب، فهو يلحق الضرر النفسي بها، من خلال إجبارها على الزواج من شخص لا ترغب فيه، مقابل تمتين العلاقة بين أسرتين اقتضت مصلحتاهما الاقتصادية والاجتماعية زواج الشغار.
البعض من اللغويين، يرون أن سبب رفض العرب والإسلام لهذا الزواج يتضح من اسمه، وواحد من تعريفاته: الخلو، وأصله مأخوذ من شغور الكلب، يُقال: شَغَرَ الكلب، إذا رفع إحدى رجليه للتبوّل لخلو الأرض، وسُمِّيَ بهذا الاسم تقبيحاً له، بينما يعتقد آخرون بأنه أُطلق على هذا النوع من الزواج لخلوّه من المهر. "شاغر" أي خالٍ
ضريبة باهظة
آية عبد القوي (30 سنةً)، من مدينة تعز، تقدّم نفسها على أنها واحدة من ضحايا هذا الزواج. تقول لرصيف22، إنها أُبدلت وهي في سنّ صغيرة بزوجة لشقيقها، أي أنها كانت ثمناً لقصة حب عاشها شقيقها، ثم تستدرك بأسف: "لقد مضى وقت طويل على ذلك الآن، حتى أنني اعتدت على الأمر... على أن أكون ثمناً!".
تفكر قليلاً مسترجعةً ذكرياتها الأليمة: "كنت كلما لجأت إلى أسرتي، شاكيةً لهم سوء الحال، يتدخل شقيقي الذي أبدلني بزوجته، محاولاً إقناعي بالصبر، ثم يتكفل بإعادتي إلى بيت زوجي، ليس حباً بي، بل خوفاً على زوجته".
تتصنع آية، التعافي من تداعيات الشغار النفسي عليها، لكنها في قرارة نفسها تشعر بالخيبة والخذلان، وبأن هنالك جزءاً غير قابل للاكتمال في حياتها على الرغم من أن لديها أطفالاً تحبهم أكثر من أي شيء آخر، على حد تعبيرها.
عدم الاستقرار النفسي ومن ثم الأسري، حسب عادل ملهي، الاختصاصي النفسي، تصاب بهما الزوجة وفق الشغار أو زواج البدل، وتصبح بمرور الأيام عرضةً للدخول في نطاقي القلق والاكتئاب من المجهول، "خوفاً من الافتراق عن أطفالها الصغار في حال فشل زواجها".
آية عبد القوي تقدّم نفسها على أنها واحدة من ضحايا هذا الزواج. تقول إنها أُبدلت وهي في سنّ صغيرة بزوجة لشقيقها، أي أنها كانت ثمناً لقصة حب عاشها شقيقها
ويلفت ملهي في حديثه إلى رصيف22، إلى أهمية الصحة النفسية، وحاجة الكثير من ضحايا الشغار إلى رعاية نفسية، بجانب احتواء الأهل لهن، وذلك لتجنب الوصول إلى حالة العدوانية أو الهستيريا.
من جهتها، توضح عائدة أمين، وهي اختصاصية مجتمعية، أن زواج البدل، يُعدّ أحد أشكال العنف ضد المرأة، وربما الأكثر سوءاً، نظراً إلى ما "يترتب عليه من آثار سيئة تصيب المرأة على المدى الطويل، خصوصاً بعد صدمة الانفصال، وتشتت الأسرة".
واستناداً إلى اطلاعها على تجارب شغار فاشلة عديدة، تقول لرصيف22: "كثيرات منهن أصبحن عرضةً لصدمة الطلاق، ودخلن أزمات نفسيةً، لذا ينبغي على أهالي الضحايا إدراك أهمية الجانب النفسي، ومساعدتهن لتخفيف حدة الضغوط عنهن، ومنحهن المزيد من الرعاية والاهتمام".
مشكلات الشغار لا تقتصر على النساء وحدهن، بل تنسحب كذلك على الأطفال الذين يصبحون بدورهم ضحايا لطلاق والديهما، ومن أمثلة ذلك ما حدث لأطفال خلود قاسم (34 سنةً)، من ريف تعز، إذ تزوجت وفقاً لزواج البدل، وأنجبت أربعة أطفال، هم ولدان وبنتان، لكن ذلك لم يكن كافياً لإنجاح زواجها الذي انتهى بالطلاق في 2019.
تقول لرصيف22، إنها رفضت التخلي عن أطفالها، وبعد تدخل وسطاء ومفاوضات مطولة، تم التوصل إلى اتفاقية حضانة، أخذت هي بموجبها البنتين لتربيهما على أن تتحمل نفقاتهما، في حين احتضن طليقها الولدين.
مشكلات الشغار لا تقتصر على النساء وحدهن، بل تنسحب كذلك على الأطفال الذين يصبحون بدورهم ضحايا لطلاق والديهما.
"قد يبدو هذا الحل مرضياً بالنسبة لمن لا شأن له بالقضية، لكنه أمرٌ صعب عليّ، فقد خسرت حضانة اثنين من أطفالي، وسأتحمل وحدي تكاليف وأعباء تربية الاثنتين الأخريين"، تقول ثم تجهش بالبكاء.
ابنها أحمد (13 سنةً)، يقول بضيق: "ماما خلود مُطلقة، وبابا تركنا في بيت جدي"، ويعبّر بذلك عن افتقاده حنان أبويه، فوالده تزوّج بامرأة أخرى، بعد عام من انفصاله، ويعيش بنحو مستقل في منزل آخر.
على الرغم من الفشل الذي يرافق معظم قصص زواج الشغار في اليمن، إلا أن هنالك نماذج قليلةً نجحت، وحين نمعن النظر في حياة الأزواج، نجد أن هنالك تنازلات مقدمةً، أو مصالح عشائريةً تسيّرهم بغض النظر إن كانوا سعداء ومتفاهمين أم لا.
تفصح عن ذلك، عائشة (24 سنةً)، من مدينة إب، وهي أم لطفلة تبلغ سنتين، إذ تزوجت مكرهةً وفقاً للشغار قبل أربع سنوات، ومراعاةً لاستقرار شقيقها في زواجه، فضّلت الشابة الصمت عما تتعرض له من "تهميش وتجاهل ومرارة عيش"، حسب ما قالت لرصيف22.
وتوضح: "زوجي يتعمد حرماني من أشياء عدة، أولها التعليم الجامعي، بمبرر صعوبة حصوله على تكاليف معيشتنا، ويرى أنه ليس من الضروري التحاقي بالجامعة، وأن مكاني في المنزل، ومهمتي تقتصر على تربية الأطفال والقيام بأمور البيت".
يعمل زوجها صيدلانياً. يغادر المنزل في السابعة صباحاً، ليعود عند العاشرة ليلاً، بينما تبقى عائشة في المنزل مع طفلتها. تحتج قائلةً: "أشعر بأنني سجينة في المنزل، ولستُ زوجةً، بعكس النساء الأخريات اللواتي يخرجن مع أزواجهن، ويستمتعون بقضاء الوقت معاً".
تصف نفسها بالطرف الخاسر في صفقة التبادل؛ لكنها ترفض فكرة الطلاق: "سوف يلومونني إن قلت ما في نفسي. سيخبرونني بأن لدي بيتاً وطفلةً وزوجاً ولا ينقصني شيء، لهذا يتوجب عليّ الصمت، ولا شيء في وسعي فعله سوى الصمت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه