شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
فرادة التديّن المصري... مزيج من المذهب السنّي والمذهب الشيعي الموروث عن الفاطميين

فرادة التديّن المصري... مزيج من المذهب السنّي والمذهب الشيعي الموروث عن الفاطميين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الجمعة 19 أغسطس 201612:27 ص

شكلت الطقوس الفاطمية جانباً كبيراً من مظاهر احتفالات المصريين بالمناسبات الدينية، وساهمت تركيبة الشخصية المصرية المولعة بالبهجة وحب آل البيت في تعزيز هذه الممارسات، مع تفاوت متباين في درجة الالتزام بجملة من الثوابت الفقهية التي تميّز المذهب الشيعي الإسماعيلي.

وإلى اليوم لا يزال المصريون يتمسكون بمعطيات ثقافية نشأت مع الدولة الفاطمية التي حكمت مصر ما يقارب القرنين من الزمان، ثم عبرت الأجيال من دون أن تشيخ، وذلك برغم أن العديد من المصادر التاريخية تؤكد أن صلاح الدين الأيوبي شن حملات لطمس آثار الفاطميين وثقافتهم.

شيعة مصر وصلاح الدين

اشتد بطش صلاح الدين بالشيعة الإسماعيليين في مصر إلى حد قيامه بحرق كتبهم وتحديداً مكتبة "دار العلم" التي كانت تضم مليونين ومئتي ألف كتاب، فضلاً عن عشرات الوثائق والمخطوطات المهمة الدالة على فترتهم، والتي كان من شأنها أن تساعد على تأريخ حكمهم بشكل أفضل.

ونجح الأيوبي إلى حد ما في قلقلة هذا التاريخ في أذهان المصريين، إبان حكمه. هذا ما أجمع عليه أستاذ الآثار الإسلامية في كلية الآثار في جامعة القاهرة محمود مرسي، وأستاذة العصور الوسطى في كلية الآداب في جامعة حلوان زبيدة عطا الله، وأستاذ التاريخ الإسلامي في كلية الآداب في جامعة عين شمس محمود إسماعيل، في ندوة عقدتها لجنة التاريخ في المجلس الأعلى للثقافة في كانون الأول/ ديسمبر 2010، وأدارها الدكتور حسنين ربيع.

ولكن ظلت الطقوس الروحية الفاطمية حيّة في أوساط بعض المريدين الذين استطاعوا أن يحفظوها وتناقلوها جيلاً بعد جيل إلى عصرنا هذا. وبحسب البعض، اتخذ هؤلاء من التصوف حيلة وستاراً أظهروا من خلاله التسنن مضمرين التشيع، إلى أن استطاعت الصوفية أن توفر لهم حاضنة اجتماعية لممارسة شعائرهم من دون رقيب.

وفي دراسة بعنوان "الشيعة في مصر"، أشار الكاتب صالح الورداني إلى أن مصر ما زالت تحتفظ ببعض الممارسات المرتبطة بالتشيع، معتبراً أن الحركة الصوفية عكست فى بداية ظهورها انهيار الدولة الفاطمية وأتت تطبيقاً لمبدأ "التقية"، فقد تذرع المصريون بالتصوف للهروب من بطش صلاح الدين.

وبمرور الوقت تحول التسنن، على يد الأبناء والأحفاد، من مجرد ادعاء إلى حقيقة. وتجدر الإشارة إلى أن الزعيم أحمد عرابي الذي قاد الثورة العرابية في مصر هو من نسل "الأشراف" الذين يرون أنهم ينتسبون إلى ذرية علي بن أبي طالب.

العادات الفاطمية

تتصدر الاحتفالات الرمضانية العادات الموروثة عن الفاطميين، ولا تنافسها سوى احتفالات المولد النبوي الشريف، ثم تليهما من حيث الشيوع والممارسة احتفالات رأس السنة الهجرية، وليلة النصف من شعبان، وإحياء الموالد الشعبية، وزيارة الأضرحة تبركاً بآل البيت، وحلقات الذكر والتفقير، وطقوس الموتى (طلعة اليوم الـ15 للمتوفي والأربعين). 

وتتنوع مظاهر الطقوس الرمضانية الفاطمية، ومنها المسحراتي وهي عادة حرص عليها الفاطميون في مصر، وتولاها الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بنفسه في بدايات عهدهم في القاهرة.

ويرجع فانوس رمضان إلى ليلة دخول المعز لدين الله الفاطمي إلى القاهرة، والتي وافقت أول ليلة في رمضان. حينذاك أمر القائد الفاطمي جوهر الصقلي بخروج الناس لاستقباله حاملين الشموع بعد أن يثبتوها على قاعدة من الخشب ويحيطوها بالجلد الرقيق لإنارة الطريق أمامه. وأعجب الخليفة الفاطمي بهذا الاستقبال، فاعتمد الفوانيس منذ تلك اللحظة كتقليد رمضاني. وفي عهد الخليفة الفاطمي العاضد، بدأت تجمعات الأطفال بالفوانيس، فحين كان يخرج الخليفة لاستطلاع هلال رمضان كان يخرج الأطفال معه لإنارة الطريق بالفوانيس.

يرجع فانوس رمضان في مصر إلى ليلة دخول الخليفة الفاطمي المعز لدين الله إلى القاهرة، والتي وافقت أول ليلة في رمضان. حينذاك أمر القائد الفاطمي جوهر الصقلي بخروج الناس لاستقباله حاملين الشموع

وتعد الحلويات الرمضانية (الكنافة، والقطايف) تقليداً يعود إلى الفاطميين الذين كانوا يصنعونها بشكل معين يخدم جوهر مذهبهم ويرسخه بهدوء في الشخصية المصرية، كما يشير الباحثون. وكانت البداية مع موائد الرحمن التي كان يقيمها الخليفة الفاطمي العزيز بالله، في شهر رمضان، ليفطر عليها رواد الجامع العتيق (عمرو بن العاص) والجامع الأزهر. وكان يخرج من مطبخ القصر في شهر رمضان يوميّاً 1100 قِدر من الطعام، لتوزع على المحتاجين والضعفاء.

كذلك الأمر بالنسبة إلى عادة ختم القرآن في اليوم الـ29 من شهر رمضان. فقد كان القصر الفاطمي يشهد احتفالاً في هذا اليوم بختم القرآن، بحكم أنها ليلة ختام رمضان، وكانت تصرف بعض الأموال للمقرئين والمؤذنين.

وظل العقل الجمعي للمصريين يقدس هذه المظاهر الاحتفالية والشعائر الفاطمية، على أنها مرتبطة بالدين، من دون التحري عن أصل الاعتقاد بها أو الهدف منها. وتحدث الكاتب الراحل يحيى حقي في كتابه "قنديل أم هاشم" عن مدى تمسك المصريين بتلك العادات وتقديسهم لآل البيت. وقد احتفظت الذاكرة المصرية أيضاً بطقس الاحتفال بعيد الغدير، وهو أبرز الأعياد الشيعية حتى عهد قريب، من دون أن يدرك الكثيرون مغزى الاحتفال به.

التدين المصري كمزيج من المذهب السني والمذهب الشيعي الموروث عن الفاطميين - 1

من الاحتفالات بمولد الحسين في القاهرة.

واللافت أيضاً أن عبارات كانت في الأصل تستخدم بقصد الإساءة إلى الخليفة عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين، ما زال يتردد صداها بين المصريين حتى اليوم من دون أن يدرك مستخدموها معناها. فيقول بعض المصريين في مشاداتهم الكلامية: "نعم يا عمر؟!"، أو: "مش حسيبك إلا لما تقول أنا عيشة". وفي المقابل ظهرت عبارات تعبّر عن شتائم سنّية للشيعة في العصر الأيوبي وما زال يتردد صداها إلى اليوم مثل "يا ابن الرفضي" وأساسها نعت الشيعي بالرافضي.

التشيع الديني

يقول مؤسس جبهة أزهريون والباحث في علوم الشريعة الإسلامية الشيخ محمد عبد الله نصر لرصيف22: "المصريون هم الشعب الشيعي الوحيد في العالم، فهم شعب متشيع دينيّاً بالفطرة، ويقدّس آل البيت. أما ما عدا ذلك فهو تشيع سياسي، لا يمت إلينا بصلة"، مؤكداً أن المصريين لا يمارسون العادات الفاطمية لمجرد أنها موروث فحسب، بل يتفاعلون معها تفاعلاً وجدانيّاً وروحيّاً.

ويوضح نصر أن الشعب المصري هضم جميع الثقافات التي مرت عليه، "فاحتفالات رمضان عادة فاطمية ولكن الأغنية التي نرددها في الشهر الكريم 'وحوي يا وحوي' هي في الأصل فرعونية"، ويتابع: "هو شعب له كينونة خاصة صنع بها حالة من التدين المصري".

عبارات كانت في الأصل تُستخدم بقصد الإساءة إلى الخليفة عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين، ما زال يتردد صداها بين المصريين حتى اليوم من دون أن يدرك مستخدموها معناها

وعن ممارسات صلاح الدين ضد الدولة الفاطمية، يعلّق نصر: "صلاح الدين من الأصنام التاريخية، وله جانب سلبي كبير، وحاول مراراً وأد هوية الشعب المصري لكنها استعصت على المسخ والاندثار"، ويضيف أن "الحركة الوهابية حاولت إلغاء الاحتفالات بالموالد، لكن دون جدوى، فما زلنا نحتفل سنويّاً بمولد السيد البدوي ومولد سيدنا الحسين ومولد السيدة زينب والسيدة نفيسة".

تفطم لا تشيع

من جانب آخر، يقولالأمين العام والمتحدث الرسمي للاتحاد العالمي للطرق الصوفية الدكتور عبد الحليم العزمي الحسيني لرصيف22: "العادات التي ورثناها عن الفاطميين لها مشروعية في الإسلام، وهناك لجنة الموالد وهي تابعة للمشيخة العامة للطرق الصوفية، تنظم احتفالات الطرق الصوفية في الموالد حبّاً بآل البيت وتقرباً إلى الله"، مؤكداً "أن المسلمين كافة يحتلفون بالمولد النبوي ما عدا الوهابية، ودواعش مصر"، في إشارة منه إلى السلفيين.

ويضيف أن الدولة الفاطمية اعتنقت المذهب الشيعي الإسماعيلي، ولها محاسن جمّة، منها بناء الجامع الأزهر الذي استطاع أن يحفظ الإسلام، فضلاً عن العديد من الأعياد والمناسبات، لافتاً إلى أن الاتحاد يحتفل بالمناسبات الدينية بموافقة الجهات المختصة، عن طريق إحياء سير آل البيت، "أما المظاهر الأخرى المصاحبة للاحتفالات كالألعاب واللهو والمرح، فليست من التصوف في شيء".

وفي الموضوع نفسه، يقول أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة في كلية التربية في جامعة عين شمس الدكتور عودة حسان أبو شيخة: "إن ما بقي من تراث الفاطميين حفظه المصريون كموروث ثقافي اجتماعي، لندرته وخروجه عن المألوف"، مضيفاً لرصيف22 أن المصريين لم يعبأوا بسقوط الدولة الفاطمية.

وعن الثورات التي اندلعت لمناهضة صلاح الدين وحماية الدولة الفاطمية من السقوط مثل ثورة عمارة اليمني وثورة كنز الدولة، يقول عودة: "لم تكن هذه الثورات صراعاً بين السنة والشيعة، وكان زعماؤها حفنة من المنتفعين من وجود الدولة الفاطمية، بدليل أن عمارة اليمني الذي ثار ضد سقوط الدولة الفاطمية كان مذهبه سنيّاً شافعيّاً".

بدورها، تلفت أستاذة التاريخ في جامعة حلوان الدكتورة زبيدة عطا الله إلى أن "الفاطميين اتخذوا من طقوسهم الجذابة المحببة إلى النفوس والشعور الديني لدى المصريين وتقديسهم لآل البيت، حيلة تيسر لهم ترسيخ مذهبهم في المجتمع المصري"، مشيرةً إلى أن المصريين احتفظوا بالعادات الفاطمية، كما احتفظوا بالعديد من عادات الحضارات التي تعاقبت عليهم.

برأي عطا الله، هذه الطقوس، وإنْ كانت جزءاً من تكوين الشخصية المصرية الآن، لا علاقة لها بالمذهب الشيعي، فكلها تتلخص في محبة آل البيت، موضحةً أن المصريين عادوا وانخرطوا في الدولة الأيوبية التي شجعت على التصوف لمواجهة التشيع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image