لا يمرّ يوم في المغرب دون أن يُسجّل مغادرة كادر أو اثنين على الأقل من الكوادر الطبية، نحو دول أوروبا أو شمال أمريكا، في موجة هجرة جماعية واسعة للأطباء والممرضين في البلاد، في الوقت الذي تشهد فيه المملكة محاولات تطبيق مشروع تعميم التغطية الصحية، الذي يتطلب المزيد من الأطر في المجال الصحي والطبي عموماً.
تشهد المراكز الصحية والمستشفيات في المغرب، "نزيفاً" كبيراً في صفوف الأطباء والممرضين وتقنيي الصحة بسبب استمرار هجرة هؤلاء على وجه الخصوص، إلى ألمانيا والولايات المتحدة وكندا، التي تستقطب الكوادر المغربية للاشتغال في مستشفياتها ومصحاتها بأجور وتحفيزات مهمة.
ويجمع العاملون في قطاع الصحة الذين تحدث إليهم رصيف22، على أن هجرة الأطباء المستمرة ترجع إلى عوامل ذاتية وموضوعية، ترتبط أساساً بـ"ظروف العمل غير المريحة مقابل أجور وتعويضات زهيدة، مع غياب التحفيزات المادية".
فرصة أفضل في ألمانيا
قبل أن تحدّ جائحة كورونا من التنقل بين الدول، تمكّن الطبيب المغربي، مراد أبركاني، من الانتقال إلى ألمانيا لمواصلة مشواره المهني في أحد المستشفيات هناك، تاركاً العيادة التي كان يعمل فيها في مدينة بني أنصار التابعة لإقليم الناظور شمال شرق المغرب.
ويرى الطبيب المغربي المقيم حالياً في ألمانيا، أن "ما يجعل الأطباء يهاجرون بلدهم؛ هو بحثهم عن فرص عمل أفضل وأجور أعلى في الخارج، خاصةً في البلدان التي تتوفر على بنية طبية متطورة مثل ألمانيا، وتحظى بنظام صحي متطور ومستدام".
تشهد المراكز الصحية والمستشفيات في المغرب، "نزيفاً" كبيراً في صفوف الأطباء والممرضين وتقنيي الصحة الذين يفضلون الهجرة إلى الغرب
كما أن "الظروف المعيشية تدفع للهجرة كذلك، وذلك لتحسين الحياة الشخصية والاقتصادية، فضلاً عن جانب التطوير الاحترافي، خصوصاً أن الفرص التعليمية والتدريبية المتاحة في الخارج تجذب الأطباء الذين يرغبون في تحسين مهاراتهم الطبية والتخصصية"، يضيف أبركاني في حديثه إلى رصيف22.
ويرجح المتحدث نفسه، أن "تستمر ظاهرة هجرة الأطباء من المغرب والدول النامية الأخرى، إلى البلدان التي تُقدّم فرصاً مهنيةً ومعيشيةً أفضل"، مشيراً إلى أن معدلات هجرة الأطر الصحية "قد تتأثر بعوامل متعددة مثل التطورات السياسية والاقتصادية في المغرب، وكذلك التغيرات في سياسات الهجرة في الدول المستقبِلة".
هجرة الأطباء والممرضين أيضاً
من باب رصده لعوائق تحول دون الوصول الفعلي للمواطنين المغاربة إلى الحق في الصحة، انشغل المجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة دستورية للدفاع عن حقوق الإنسان)، بموضوع هجرة الأطباء، فأصدر في نيسان/ أبريل 2022، تقريراً تحت عنوان "فعلية الحق في الصحة: تحديات، رھانات ومداخل التعزيز".
وأكد هذا التقرير، "نزيف هجرة الأطباء والأطر الصحية"، كاشفاً أنه "مقابل 23 ألف طبيب مغربي يمارسون عملهم في المغرب، هناك ما بين 10 آلاف و14 ألف طبيب مغربي يمارسون المهنة في بلاد المهجر وخصوصاً البلدان الأوروبية، وهو ما يجعل واحداً من كل ثلاثة أطباء مغاربة تقريباً يمارس مهنته في الخارج، برغم الحاجة المُلحّة للمغرب إلى كل أطبائه بل إلى المزيد منهم".
في كل اتصال لي مع أحد الزملاء الذين هاجروا، أسأله هل يحسّ بالندم لمغادرته، فيجيبني بأنه يحس بالندم على السنوات التي اشتغلها مع وزارة الصح
في هذا الخصوص، لفت تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إلى أنه "يعمل في المغرب 23 ألف طبيب ويحتاج إلى 32 ألف طبيب إضافي، حسب المعايير الأساسية لمنظمة الصحة العالمية، كما أنه في حاجة كذلك إلى أزيد من 65 ألف مهني صحي"، متوقعاً "أن تتزايد هذه الحاجيات من الأطر البشرية بشكل متسارع في المستقبل، خصوصاً مع تعميم التغطية الصحية".
دراسة: لدقّ ناقوس الخطر
أمام تفاقم هجرة الأطباء المغاربة، نبّهت دراسة لـ"مؤسسة أساتذة الطب بالقطاع الحر" (غير حكومية)، إلى أن "المغرب يفقد 600 إلى 700 طبيب كل عام، أو 30 في المئة من الأطباء المُدرّبين حالياً"، عادّةً أن "هذا النزوح الجماعي يشمل جميع الفئات، من طلاب الطب إلى الأخصائيين الطبيين والمُدرّسين (...) ما يفاقم العجز الحالي".
وقال الكاتب العام للنقابة المستقلة لأطباء القطاع العام، المنتظر العلوي، لرصيف22، إنه "في غياب إحصائيات رسمية حكومية، يجب أن تُعتمد أرقام هذه الدراسة لدقّ ناقوس الخطر، ولحثّ الحكومة على التحرك، مع ضرورة إنجاز دراسة علمية وإحصائيات رسمية لهذا الموضوع، لكي تكون هناك مصداقية عند الحديث عن هجرة الأطباء".
هناك ما بين 10 آلاف و14 ألف طبيب مغربي يمارسون المهنة في بلاد المهجر وخصوصاً البلدان الأوروبي
لكن يضيف المتحدث: "المؤكد أن هناك هجرةً للأطباء، وحتى وزارة الصحة تعترف بذلك، وستستمر هذه الهجرة؛ خصوصاً أن الإنسان له الحرية في التنقل أولاً، بالإضافة إلى أنه يهاجر إلى الأحسن والأفضل مع ما يتوافق مع تطلعاته وقناعاته الشخصية".
ولفت الطبيب والناشط النقابي، إلى أن "الخصاص الكبير الذي يعرفه القطاع الطبي على مستوى الموارد البشرية لا يتأثر فقط بالهجرة الخارجية، بل هناك هجرة داخلية للأطباء من المناطق النائية والجبلية إلى المدن، خصوصاً المدن الكبرى والساحلية، بالإضافة إلى الهجرة من القطاع العام إلى المصحات والمستشفيات الخاصة".
وضع مقلق ونقص حاد
لا يختلف الأمر عند فئة الممرضين وتقنيي الصحة الذين ينتقلون للعمل في دول المهجر، ما يجعل مستشفيات المغرب ومراكزه الصحية تعاني من نقص حادّ في هذه الفئة المهنية في مجال الصحة، على ما أفادت نقابات الممرضين.
وأبرز الكاتب الإقليمي للجامعة الوطنية للصحة، زكرياء التعباني، أنه "ليس هناك إحصاء رسمي، لكن بالنسبة لنا كممارسين لمهنة التمريض في المغرب، وبحكم علاقاتنا النقابية والجمعية، يمكن أن نصف الوضع بالمقلق بالنسبة إلى العاملين حالياً".
وقال التعباني في حديث إلى رصيف22: "على سبيل المثال لا الحصر، فقد مستشفى بوافي في الدار البيضاء (غرب) أزيد من 14 ممرضاً وممرضةً منذ السنة الماضية بعد هجرتهم إلى كندا، فيما فقدت محافظة البرنوصي في الدار البيضاء وحدها 7 ممرضين وتقنيي صحة، إذ كانت وجهتهم ألمانيا وكندا وبريطانيا".
من هذا المنطق، "فضّل عشرات الممرضات والممرضين الشباب على المستوى الوطني مغادرة البلاد، بالإضافة إلى من ينتظرون الفرصة المناسبة، أو ينتظرون قبول ملفهم"، يشدد الممرض والفاعل النقابي.
غياب التحفيز واستمرار الاستقطاب
لم يفُت النقابة المستقلة للممرضين (غير حكومية)، أن تنجز تقريراً حول "هجرة الممرضين وتقنيي الصحة في المغرب: الواقع والأسباب والحلول"، قُدّم أول مرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، خلال جلسة استماع أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (مؤسسة دستورية استشارية).
هاجر 10 آلاف ممرض مغربي على مدار 10 سنوات بمعدل 1،000 ممرض سنوياً
وأظهر تقرير النقابة، الذي يتوفر رصيف22 على نسخة منه، "هجرة 10 آلاف ممرض على مدار 10 سنوات بمعدل 1،000 ممرض سنوياً"، مضيفاً أنه "استمر استقطاب الكفاءات التمريضية في الخارج في ظل غياب أي تحرك إيجابي تحفيزي من الحكومة المغربية ووزارة الصحة، بل استمر منطق تهميش الفئة لسنوات، مما عُدّ عاملاً مهماً في الدفع نحو ازدياد النزيف التمريضي وسمح لبعض الدول اغتنام الفرص لاستقطاب هذه الأطر".
وأوضح المصدر ذاته، أن "عدد الممرضين وتقنيي الصحة في المغرب لا يتجاوز 34 ألفاً، منهم 29 ألف ممرضة وممرض في القطاع العام، وهو ما يجعل المغرب أقل الدول كثافةً مهنيةً"، مشيراً إلى أن "المملكة تحتاج إلى 65 ألف ممرض وتقني صحة، حتى تتمكن من الوصول إلى الحد الأدنى من المعايير الدولية".
ظروف عمل مهنية خارج المغرب
تقول الإطار الصحي، عفاف العم: "في كل اتصال لي مع أحد الزملاء الذين هاجروا، أسأله هل يحسّ بالندم لمغادرته، فيجيبني بأنه يحس بالندم على السنوات التي اشتغلها مع وزارة الصحة (المغربية) ولم يهاجر قبلها، خصوصاً أنه يشتغل في ظروف عمل مهنية جداً، ويتقاضى 6 أضعاف الأجر الذي كان يتقاضاه في المغرب، بالإضافة إلى الاعتراف بقيمته كممرض ممارس وفق هيئة خاصة بالممرضين تحميه من كل الثغرات القانونية التي يعاني منها الممرض في المغرب".
ورأت العم، في حديثها إلى رصيف22، أن "هجرة الأطر التمريضية ليست بالأمر الحديث، بل منذ 10 سنوات يتزايد نزيف هجرة الكفاءات التمريضية إلى كندا والدول الأوروبية؛ بسبب ظروف العمل الكارثية، وغياب القوانين المُنظمة للمهنة، وغياب التحفيزات المادية".
وتساءلت العم، حول "كيفية تحسين جودة الخدمات الصحية في ظل النقص المهول الذي يعيشه القطاع"؟ وعن "كيفية إقناع ممرض بالبقاء في ظل ما يصادفه من عراقيل في بلاده مقابل عروض مغرية تقدّمها الدول المُستقبلة"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين