شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"عندما غادرتُ اكتشفتُ أني أحسنتُ الاختيار"... كوادر الطب التونسي تحلّق إلى سماوات أخرى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 11 مارس 202210:05 ص

أحدثت صورة عشرين مبنِّجاً ومبنِّجةً (تقنيين مختصين بالتخدير الطبي والإنعاش)، أمام باب المسافرين في مطار تونس "قرطاج الدولي"، وهم يستعدون للمغادرة على متن الطائرة نفسها، جدلاً وصدمةً واسعيْن لدى الرأي العام التونسي، وانقسمت الآراء حول تقييم خطوة أصحاب الكفاءات التونسيين هؤلاء وقرارهم الهجرة.

فبينما رحّب شقّ باختيارهم الهجرة من تونس، وعدّه قراراً شخصياً للبحث عن فرص عمل وعيش أفضل افتقدوهما في بلدهم الأم، انتقد شقّ آخر قرارهم واصفاً إياه بالأناني، ومتّهماً إياهم "بالتّنكر" للبلاد التي "علّمتهم وكوّنتهم وكبّرتهم". فما الأسباب التي تدفع الأطر التونسية إلى قرار الرحيل بتذكرة ذهاب من دون إياب؟  

أزمة التعامل مع الكفاءات

سجّلت عمادة الأطباء التونسيين خلال سنتي 2017 و2018، نحو 550 طبيباً هاجروا خارج البلاد، ليرتفع العدد إلى 953 طبيباً تونسياً مهاجراً سنة 2021، وفق كاتب عام العمادة نزار العذاري.

ويوضح العذاري لرصيف22، أنه يتم إحصاء عدد الأطباء التونسيين الذين يغادرون البلاد حسب طلبهم من العمادة بالحصول على شهادة حسن السيرة التي يحتاجون إليها في بعض الدول الأوروبية، مرجّحاً ارتفاع العدد "لأن العديد من الأطباء، شباباً وكباراً، يغادرون ولا يطلبون هذه الشهادة".

ويرى الكاتب العام لعمادة الأطباء التونسيين وجود ثلاثة أسباب رئيسية وراء هجرة الأطباء التونسيين.

أول هذه الأسباب هي ظروف العمل "الصعبة في تونس في القطاع العام الذي يشكو من نقص الإمكانات المادية وخاصةً البشرية، إذ لم يتم منذ سنة 2017، انتداب أعوان في قطاع الصحة، فوجد الأطباء أنفسهم مجبرين على تقديم مردود إيجابي وخدمات صحية جيدة مواكبة للتطور العلمي، ولكن بأقل الإمكانات الممكنة، فيما يتعرضون في المقابل للمحاسبة والمحاكمة"، يقول لرصيف22.

سجّلت عمادة الأطباء التونسيين خلال سنتي 2017 و2018، نحو 550 طبيباً هاجروا خارج البلاد، ليرتفع العدد إلى 953 طبيباً تونسياً مهاجراً سنة 2021. كوادر الصحة التونسية يهاجرون إلى سماوات أخرى

وفي القطاع الخاص، ارتفعت تكاليف العمليات الجراحية، وارتفعت معها شكاوى المواطنين لدى العمادة أو المحاكم ضد الأطباء، ويحمّلونهم وحدهم المسؤولية عنها، يضيف.

أما السبب الثاني، فيتعلق "بالعنف المسلّط على أعوان الصحة من قبل أهالي المرضى في أماكن العمل، في القطاعَين العام والخاص، وهو عنف مصرَّح به كحادث شغل، ويمثّل 6 في المئة من مجموع حوادث الشغل في القطاع العام، وهي نسبة مرتفعة وخطيرة"، يؤكد.

ويتعلق السبب الثالث، "ببحث الأطباء عن جودة الحياة المفقودة في تونس التي تتضمن تمتعهم بكل الإمكانيات وتحسين ظروفهم المادية والعيش بأمان وباستقرار سياسي واقتصادي برفقة أسرهم وأطفالهم".

مسؤولية الدولة

وعن الأطراف التي تقف خلف انتشار ظاهرة هجرة الأدمغة التونسية، يشدد المتخصص في علم الاجتماع سامي نصر، على أن الدولة وأصحاب القرار هم من يتحملون مسؤولية انتشار هذه الظاهرة، عادّاً أن أصحاب الكفاءات المهاجرين يتحملون جزءاً بسيطاً يتمثل في "عدم خوضهم حرباً لتحصيل حقوقهم ومكانتهم، وهي مسؤولية المجتمع التونسي الذي لم يعلّم أطفاله كيفية خوض هذه المعارك".

وفيما يرى البعض أن الدولة التونسية بمفهومها الشامل هي من تتحمل مسؤولية هجرة أصحاب الكفاءات من أبنائها، سواء أكانت الحكومة أو المؤسسات أو النظام التعليمي، يحمّل الكاتب العام لعمادة الأطباء، الشعب التونسي مسؤولية هجرة أصحاب الكفاءات "لأنه لا يعطيهم قيمتهم ومكانتهم المستحقتين والأمر لا ينسحب على الأطباء فحسب، وإنما على أصحاب الكفاءات في كافة القطاعات، فهذا الشعب يعيش في نعيم ولا يعلم ذلك، في حين يقدّر الخارج كفاءاتنا ويوفر لها كافة الإمكانيات للعمل والإبداع في مجالات تخصصها"، يؤكد.

إعادة الاعتبار

يصف نصر، تفشي ظاهرة هجرة أصحاب الكفاءات التونسيين بالمقلقة والمثيرة لأسئلة عدة، ويرى أن أسباب هذا الانتشار "مرتبطة بظاهرة اجتماعية أخرى أخطر، وهي مسألة تثمين الكفاءات في تونس"، كما يقول لرصيف22. 

وفي شرحه لهذه النقطة، يوضح أن تونس تعاني من أزمة التعامل مع كفاءاتها التي لا تسعى في غالبيتها إلى الربح المالي الأوفر الذي ستجده في الخارج، بقدر ما أن دافعها الرئيسي هو كيفية معاملتها في بلدها الأم.

وفي نظره، فالأزمة "أزمة تموقع في المؤسسات والإدارات والدولة والوزارات، إذ لا نملك الشخص المناسب في المكان المناسب ويجد أصحاب هذه الكفاءات أنفسهم مهمشين، فيفكرون في التحرر من هذا التهميش، كما أنهم يحبون فرض مكانتهم الاجتماعية في بلدهم، وعندما يجدون كل السبل مغلقةً في وجههم يفكرون في الهجرة".

أحدثت صورة عشرين مبنِّجاً ومبنِّجةً، أمام باب المسافرين في مطار تونس "قرطاج الدولي"، وهم يستعدون للمغادرة على متن الطائرة نفسها، جدلاً وصدمةً واسعيْن لدى الرأي العام التونسي

ويرى سامي نصر أنه "من الظلم اتهام أصحاب الكفاءات التونسيين بالأنانية، لأنهم يبحثون عن ذواتهم ولأنه من الصعب على الوالدين تدريس أبنائهم وتقديم كل التضحيات لهم وانتظار تخرجهم وتفوقهم ثم مفارقتهم في وقت من الأوقات، ولا يحدث هذا إلا بعد اكتشافهم أن نتاج مجهوداتهم ذهب سدى في بلدهم".

وللحد من التزايد "الخطير" لهذه الظاهرة، لخّص المتخصص في علم الاجتماع عملية الإصلاح والإنقاذ في مسألة التعامل مع أصحاب الكفاءات التونسيين من خلال إعادة الاعتبار إليهم وعدّهم هدفاً أساسياً في عملية الإصلاح في الوزارات والإدارات والمؤسسات العمومية.

وانتقد سامي نصر عدم تضمين الاستشارة الوطنية التي أطلقتها رئاسة الجمهورية التونسية أسئلةً حول موضوع كيفية تعامل المؤسسات والإدارات مع أصحاب الكفاءات، مؤكداً أن عدم احتواء أي فكرة للإصلاح إجراءاتٍ لها صلة بموقع أصحاب الكفاءات ومكانتهم في المؤسسات التونسية، تعني "أننا لم نفعل شيئاً".

واقترح نصر إنجاز مؤتمر وطني لرد الاعتبار إلى أصحاب الكفاءات التونسيين في كافة القطاعات، "ولكن مع الأسف ليست هناك إرادة وأصحاب الكفاءات ليست لديهم اليوم أي قيمة لأنهم ليسوا على قياس أصحاب القرار"، حسب تعبيره.

ظاهرة عامة

أزمة هجرة أصحاب الكفاءات لا تقتصر على العاملين في القطاع الطبي، بل تشمل قطاعات أخرى حيوية مثل الهندسة. غزوة رحيلي مهندسة قررت الهجرة إلى باريس، وليست نادمةً على اختيارها. تقول لرصيف22: "أتممتُ دراستي وتخرجت سنة 2016 في تخصص الهندسة الإعلامية وعملتُ في تونس في مجال تخصصي في شركة برمجيات لأقرر مغادرة البلاد نهاية 2019 إلى العاصمة الفرنسية، وأنا أعمل الآن في مجال دراستي".

تعدد غزوة أسباب قرارها الهجرة، على الرغم من تمتّعها بأجر جيّد في تونس، وتوضح أنها بعد تخرّجها شعرت بأن تونس "ليست مكانها لأنها لم تجد نفسها فيها مهنياً إذ لم تحقق تقدماً وتطوراً في مهاراتها في مجال عملها".

في ردها على الانتقادات اللاذعة الموجهة إلى أصحاب لكفاءات التونسيين المهاجرين، تؤكد غزوة أن "كل شخص له حرية الاختيار وأنها ليست مجبرةً على العيش في مكان واحد كامل حياتها، لأن العالم رحب، ولو كنت راضيةً بأوضاع بلادي لما بحثت عما هو أفضل خارجها"، تؤكد.

حسب المهندسة الشابة، فإن جدل هجرة أصحاب الكفاءات "موجود في تونس فحسب لتحميلهم المسؤولية لا غير، بينما هي ظاهرة طبيعية في كل البلدان، وتندرج ضمن حرية التنقل".

وتقول: "السؤال الأهم المطروح ليس لماذا يهاجر أصحاب الكفاءات التونسيون؟ بل لماذا لا تتحسن الأوضاع في تونس حتى تتوفر حياة كريمة لأصحاب الكفاءات ولغيرهم، لأن الهجرة لا تتعلق بالكفاءات فحسب، وإنما بمئات الحراقة (المهاجرين غير النظاميين)، الهاربين من تونس".

تغيير المنوال التنموي

خلال السنوات الست الأخيرة، هاجر من تونس 39 ألف مهندس بمعدل ستة آلاف سنوياً، و20 مهندساً يومياً، وفق تصريح عميد المهندسين التونسيين، كمال سحنون، لرصيف22.

أمام انتشار ظاهرة هجرة أصحاب الكفاءات، يدعو رئيس عمادة المهندسين، كمال سحنون، إلى ضرورة تحسين أوضاعهم "عبر تغيير المنوال التنموي الاقتصادي المعتمد منذ عهد الدولة الحفصية والقائم على المصلحة واقتصاد الريع والرُّخَص والذي لا يجد فيه أصحاب الكفاءات أنفسهم، إلى منوال تنموي مبني على اقتصاد المعرفة، وعوض تصدير الكفاءات التونسية يتم تصدير نتاج هذه الكفاءات وخدماتها".

وللحد من تفشي هذه الظاهرة، يقترح نزار العذاري تفعيل قانون المسؤولية الطبية الذي يحمي الطبيب والمريض خلال حصول أخطاء طبية "لأنه لا يحدث إيقاف الطبيب عن العمل والانتظار حتى استكمال التحقيقات التي تبرّئه في النهاية، إلا في تونس".

كما يشدد على أهمية تحسين ظروف العمل، وخاصةً تفعيل مسألة الانتداب في قطاع الصحة العمومية، لتقليص الضغط على الإطار الطبي وتحسين الإمكانيات والنهوض بالمستشفيات العمومية التي يبلغ عجزها السنوي أكثر من 50 ملياراً لكل مستشفى كبير، يختم.     


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image