في كانون الأول/ ديسمبر 1913، جرت أهم انتخابات مصرية منذ احتلال بريطانيا لمصر سنة 1882، وهي انتخابات الجمعية التشريعية التي أصدر المندوب السامي البريطاني لورد كتشنر (1850 – 1916) نظاماً (قانوناً) لها بمشاركة الحكومة المصرية التي كان يرأسها محمد باشا سعيد (1863 – 1928)، والقصر ممثلاً في الخديوي عباس حلمي الثاني (1874 – 1944).
تلك الانتخابات التي جرت من مائة وعشرة من الأعوام تركت أثراً عميقاً على السياسة والانتخابات في مصر إلى اليوم، وهذا الأثر نتج عن خطأ ارتكبه "أستاذ الجيل" و"أرسطو العرب" و"أبو الجامعة" و"أبو الليبرالية المصرية" على ألقابه الكثيرة المشتهرة، المفكر والسياسي أحمد لطفي السيد (1872 – 1963).
تضعنا تلك الواقعة وما ترتيب عليها، أمام ممارسة متكررة للساسة في مصر، عندما يتنكرون لمبادئهم المعلنة، ويسلكون مسالك منافية لتلك المبادئ، متصورين أن مجرد الإعلان كاف لكسب المصداقية السياسية والحفاظ عليها، مقللين من شأن العامة - الناخبين أصحاب الأصوات- الذين وإن صودرت أصواتهم - كما يتكرر في الانتخابات المصرية عبر تاريخها- تظل لديهم نظرة ثاقبة يكشفون بها المتلاعبين بهم، ولو بعد حين.
السمة المتكررة على مدار تاريخ مصر الحديث منذ تلك اللحظة الانتخابية البعيدة، هي الاستهانة بالناخبين أصحاب الأصوات، الذين وإن صودرت أصواتهم - كما يتكرر في الانتخابات المصرية عبر تاريخها- تظل لديهم نظرة ثاقبة يكشفون بها المتلاعبين بهم، ولو بعد حين
لكن الأثر المباشر الذي ارتبط بهذا الخطأ التاريخي لم يكن أكثر من شائعة، دارت وسارت وانتشرت وتضخمت حتى بات إنكارها ضرباً من إنكار حقائق التاريخ ذاته. شائعة نسبت للمنافس أنه أعلن لفلاحي دائرته الانتخابية أن أحمد لطفي السيد "رجل ديموقراطي"، وأن الديموقراطية تعني أن تتزوج المرأة بأربع رجال مثلها مثل الرجل، فلما سأل الناخبون لطفي السيد إن كان ديموقراطياً بالفعل؟ أكد لهم أنه يفخر بأنه ديموقراطي ولذلك خسر الانتخابات.
وليس هناك أغرب من تصديق الكثيرين إلى اليوم تلك الحكاية الساذجة التي تصدى لترويجها أيضاً كثيرون، منهم عباس محمود العقاد الذي كتب فصلاً في كتابة "رجال عرفتهم" عن لطفي السيد، واستطاب للعقاد وصف الشائعة العجيبة بأنها "من أعاجيب الدعاية الانتخابية التي تعرض لها لطفي السيد من جراء المناداة بالحقوق الديموقراطية".
غير أن الأعجب من ذلك كله كان موقف التعتيم والتجاهل التام لصالح الشائعة، بإزاء حقيقة الخطأ الجسيم الذي ارتكبه أبو الليبرالية المصرية وكان السبب الحقيقي وراء خسارته الانتخابية.
تضعنا تلك الواقعة وما ترتب عليها، أمام ممارسة متكررة للساسة في مصر، عندما يتنكرون لمبادئهم المعلنة، ويسلكون مسالك منافية لتلك المبادئ، متصورين أن مجرد الإعلان كاف لكسب المصداقية السياسية والحفاظ عليها
"أشيع أن الديموقراطية أسقطتني"
أصل الشائعة جسمتها فقرة مراوغة وردت في المذكرات التي أملاها "أحمد لطفي السيد" قبل وفاته على الكاتب طاهر الطناحي، جاء فيها:
"في سنة 1913 ألغي مجلس شورى القوانين وحل محله نظام الجمعية التشريعية، وكان لا بد لي من الدخول في عضويتها لأزيد صوتاً على أصوات حزبنا في الجمعية، فدخلت في انتخاباتها. وكان صديقي فتحي باشا زغلول يعلم أن الإنجليز أوعزوا بإسقاطي أنا وسعد زغلول باشا في هذه الانتخابات، فأشار عليّ بألا أتقدم إليها حتى لا يذهب سعيي سدى، فقابلت مستشار الداخلية مستر جراهام وسألته عما بلغني في ذلك، فأكد لي أن الانتخابات ستكون حرة وأن الحكومة ستكون على الحياد، ولشد ما كان عجبي حين وجدت على باب مركز السنبلاوين عربة سعيد باشا ذو الفقار وزير المالية الجديد، وعلمت وقتئذ أنه لما عين وزيراً بعد أن كان مديراً للدقهلية، طلب إليه أن يدير هو الانتخابات دون المدير الجديد حافظ حسن باشا، الذي كانت الحكومة تعلم أنه صديقي، وعلى هذا الوضع سقطت في الانتخابات، ولكن سعد باشا زغلول نجح بالقاهرة في دائرتين، وأرسل إلي تلغرافا يقول فيه:
لئن سقطت في الانتخابات فلك عطف العقلاء.
وقد أشيع أن الذي أسقطني هو دعوتي إلى الديموقراطية التي كانت تؤول تأويلات بين الناخبين فيها خروج على الدين الإسلامي، ولكني لا أعرف شيئاً عن هذه الإشاعة التي قيل إنها شاعت بين الناخبين، كما لا أعرف سبباً لسقوطي في الانتخابات إلا تدخل الحكومة وعملها لإسقاطي".
لكن ما هي الأسباب السياسية وراء نجاح كل هؤلاء الليبراليين ورجال الأحزاب الوطنيين في انتخابات 1913؟ ولماذا سقط فيها أبو الليبرالية المصرية بالذات؟
تخبرنا الفقرة بأسباب سقوط لطفي السيد من وجهة نظره، وهي تشير إلى الاتفاق الذي جرى بين إدارة الاحتلال والحكومة المصرية على إسقاط السياسيين الوطنيين ورجال الأحزاب بمن فيهم لطفي السيد، لكنها وبشكل صريح تسمي شائعة إسقاطه بدعاية دينية شائعة، وتنفي علم لطفي السيد نفسه بها، مما يجعل الإصرار على كون الشائعة حقيقة كما حدث بعد ذلك عبثاً خالصاً.
مذكرات الزعيم سعد زغلول - الذي أشار إليه لطفي السيد في مذكراته - تذكر أيضاً وجود هذا الاتفاق، بتأكيد أكبر، من خلال مصادر سعد الأقرب من دوائر صنع القرار في قصر الدوبارة (مقر الاحتلال) وقصر عابدين (المقر الخديوي). ففي الكراسة الثالثة (الجزء الرابع) المنشور بتحقيق المؤرخ د.عبدالعظيم رمضان، وتحت يومية 4 أكطوبر 913 (4 تشرين الأول / أكتوبر 1913) كتب سعد زغلول:
"من عجب ما نشاهد أن اللورد كتشنر يقول لكل زائريه من الأهالي، إنه يريد أن يكون الانتخاب حراً، وأن الفلاحين ينتخبون من يرون فيه اللياقة التامة للنيابة عنهم، من غير أن يكون لأحد ما تأثير على اختيارهم. ويقول: إنهم لو أحسنوا الاختيار، ولم ينتخبوا ذوي الأفكار الثائرة، والعقول الهائجة، مثل الصوفاني – كما قال لفتح الله بركات – ومثل لطفي السيد – كما قال لي – وكغيرهما كما قال لسوانا – إذا فعلوا ذلك كان لهم من الجمعية التشريعية هيئة نيابية صحيحة، تحترم آراؤها، وتتولى النظر، ليس في القوانين فقط، بل في غيرها من أهم مهام الشؤون والأحوال. وقيل إنه يقابل المديرين واحدا بعد واحد، بدعوة منه، ويعطي لهم التنبيهات اللازمة. ولم أقف لغاية الآن على نوع هذه التنبيهات".
لكن ما تجاهلته مذكرات لطفي السيد بشأن خسارته للانتخابات كان الإشارة إلى هؤلاء الذين لم يفلح الاتفاق بين الحكومة وإدارة الاحتلال في إسقاطهم، وكان على رأسهم سعد زغلول الذي ذكر أمثلة أخرى لهؤلاء السياسيين الناجحين في مذكراته بتاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول سنة 1913، لكنه أكد في نفس الوقت عدم حزنه بسبب "خيبة لطفي" كتب سعد:
"فرحت لنجاح فتح الله، ولم أحزن لخيبة لطفي، ورأيت في انتخاب الصوفاني دليلاً على قوة الشعور نحوه، وضعف تأثير الحكام عنه، وتفاءلت خيراً بذلك، وبانتخاب أمثال عبدالعزيز فهمي، والمكباتي، وعلى الشمسي، وحسين هلال، وعلوي الجزار، وعلى المنزلاوي، وعلى باشا شعراوي. ورأيت في هذه حركة مباركة إن شاء الله تعالى".
لكن ما هي الأسباب السياسية وراء نجاح كل هؤلاء الليبراليين ورجال الأحزاب الوطنيين في انتخابات 1913؟ ولماذا سقط فيها أبو الليبرالية المصرية بالذات؟
تلك هي القصة المثيرة التي ترويها كراسات مذكرات الزعيم سعد زغلول بأسلوبه الواقعي وتدوينه المفصل لأحداث ذلك الزمان يوماً بيوم.
خذلان الديموقراطية
في الكراسة 23 يوم 16 أكتوبر 913 (16 تشرين الأول / أكتوبر 1913) يصف سعد زغلول اطمئنان لطفي السيد الكاذب لسلامة نوايا الاحتلال والحكومة تجاه ترشحه وانتخابه بالقول:
"وهو – يعني لطفي السيد – لا يتحرز في كلامه من أن يذم النظّار (الوزراء)، لكنه يذم الخديوي أكثر. ورأيته يظهر الأمل في نجاحه في الانتخابات، وعدم التخوف من تداخل الحكام. ولكن، إذا كان ما سمعته من كتشنر صحيحاً، يكون النجاح غير ميسور".
ويضيف سعد أن سبب هذا الاطمئنان لديه كان خداع من مستشار الداخلية الإنجليزي:
"وقد فهمت منه – يعني لطفي السيد - أن المستشار الداخلي هنأه على ترشيح نفسه للانتخاب، وأظهر له سروره من نجاحه فيه. ولا أظن هذا إلا خدمة إليهم. وقد دعوته للغداء معي يوم السبت القادم".
بعد يومين – أي في 18 تشرين الأول / أكتوبر 1913 – يكتب سعد عن مصارحته للطفي السيد بحقيقة الموقف الإنجليزي ويقول أنه اضطرب بسبب ذلك اضطراباً شديداً، وقد شعر من مجموع كلماته أنه لم يكن صريحاً. لكن الأهم ما دوّنه سعد عن الحديث الذي دار بينهما ونعى فيه على لطفي السيد "تغيير مبدئه" وتنازلاته السياسية الكثيرة وبلا داعي التي قدمها للحكومة والاحتلال. ثم أنه قال له بصراحة تامة بعد ذلك:
"وإني متأكد تقريباً أن الحكومة لا تتركك تفوز، لأن تصريحات كتشنر لزائره، ولأصحاب المقطم*، تشير بصريح العبارة إلى التوصية بعدم انتخاب رجال الأحزاب المشتغلين بالسياسة".
ويضيف المؤرخ عبدالعظيم رمضان هامشاً لهذه اليومية من مذكرات سعد يقول فيه:
"وهذه الرواية تصحح ما فسر به أحمد لطفي السيد أسباب سقوطه في ذكرياته المنشورة بعنوان "قصة حياتي" من أن الذي أسقطه هو دعوته إلى الديموقراطية، التي كانت تؤول تأويلات فيها خروج على الدين الإسلامي. صحيح أنه نسبها إلى (إشاعة) ولكن مصالحه مع محمد سعيد – الذي حفل عهده بالاعتداء على الحريات – نزعت منه صفة الديموقراطية، كما أن الشعب كان يفهم الديموقراطية جيداً، ولم يكن يؤولها هذا التأويل".
امتدت تنازلات وحسابات لطفي السيد الخاطئة تجاه الاحتلال والحكومة إلى حد قلب الحقائق بشكل فاضح في برنامجه الانتخابي، وهو ما كان يمكن أن يصل – نظراً لشهرة ورمزية لطفي السيد - إلى التأثير على فرص نجاح كل رجال التيار السياسي الوطني آنذاك. وهذا الأمر كان مصدراً لمرارة شديدة لدى سعد زغلول عبّر عنها بعبارات قاسية للغاية في الكراسة 21 (الجزء الرابع) يومية 3 ديسمبر / كانون الأول 1913:
"لا يمكن لكتشنر نفسه أن يكون له مذهب أحسن.
عجبت كثيراً لهذا الموات، ودعوت الله كثيراً أن لا ينجح له – أي لطفي السيد - سعياً، ولا يبلغ له أملاً.
هذا الرجل كان ينادي صباح مساء بأنه رجل مبادىء، وأنه إنما يسعى لنصرتها، ولا يبتغي عنها بديلاً ولو بملء الأرض ذهباً، ثم رأيناه يغير مبادئه، ويعدل من مذهبه على حسب ما يوافق الزمان وظروف الأحوال، اللهم إننا نستغفر إليك.
لا أدري كيف هذا الرجل يقابل الناس؟ وكيف يعتذر عن ماضيه؟ ويعلل آتيه؟ إن كان عدل عن مذهبه لخطأ فهمه فيه، وصواب ظنه في غيره، فهو معذور عندنا، ولا لوم عليه. ولكنه يخفي في نفسه الاعتقاد بصحة مبادئه".
--------------------------------------------------
(*) يقصد جريدة المقطم، وهي جريدة كانت مدعومة وقتها من الاحتلال الإنجليزي وتعبر عن رؤيته يحررها ويكتب فيها مصريون وعرب يعيشون في مصر في ذلك الوقت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...