شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الطبيعة... الذهاب الطويل إلى الحضن الواسع للاجئين

الطبيعة... الذهاب الطويل إلى الحضن الواسع للاجئين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الأحد 6 أغسطس 202301:16 م

عهدت سنوات طويلة من حياتي قبالة البحر، يسموننا في فلسطين أبناء الساحل وهذا الوصف بحد ذاته يشرح أشياء كثيرة عن السلوك اليومي والاجتماعي والثقافي وسفرة الطعام وتركيبات الوعي عن الحياة. ولخصوصية الحالة التي عشتها في غزة تحت الحصار كانت علاقتي مع البحر فريدة من نوعها، كأن يكون البحر الحضن الوحيد لشخص موجوع محاصر ومتعب في مدينة من الباطون، تكاد تقف شجرة واحدة في شارع عمر المختار يرتكز إليها الناس كلهم كي يقولوا أشياء بصمت.

إلا أن البحر المحاصر بالضرورة في غزة كان حضناً حقيقياً لكل القصص التي سئم الاسمنت من سماعها.

البحر المحاصَر بالضرورة في غزة كان حضناً حقيقياً لكل القصص التي سئم الاسمنت من سماعها.

كغيري من اللاجئين في أوروبا والمهاجرين، الذين أتوا من دول مختلفة، من إفريقيا والشرق الأوسط، ويرزحون اليوم تحت سياسات قاهرة في أوروبا عن الهجرة واللجوء والاندماج وتفكيك كل الندوب التي أتوا بها من بلدانهم حيث الحرب والجوع والقهر والتسلط. ثمة مسائل كثيرة يناقشها اللاجئون مع بعضهم البعض حول المجتمعات الجديدة التي يقطنون فيها، كلها تبدو مسائل مشتبكة مع الحياة اليومية، العمل، اللغة، الاندماج، محاولة فهم الحقوق والواجبات، تغيرات الطعام، مسائل الهوية، إلا أن ثمة إجماع روحي ونفسي ضمني بينهم عن الذهاب المستمر إلى الطبيعة.

حيث يبدو ذلك المكان فريداً وقادراً على وخز ذكريات الماضي وأوجاع المكان القديم والرغبة في التخلص من كل الندب والرغبة في الصراخ في مكان صامت، والانبهار الصامت بجمال الطبيعة حيث يجري النهر بعفوية في فضاء أخضر واسع.

لم تكن تجربتي مختلفة كثيراً عن اللاجئين في بلجيكا، قابلت مئات من الشباب والعائلات، بالنسبة لهم كان استئجار شقة أو بيت أو حتى شراء أرض في الريف أو بين الطبيعة والحقول مهمة أساسية تشبه الحلم، على الرغم من أن معظمهم من أبناء المدن والشواطئ ولم يعهدوا في حياتهم حياة الزراعة والريف إلا أن مسألة نفسية وروحية تناديهم إلى الطبيعة حيث الحضن الواسع الذي يدفعهم إلى البوح والصراخ والأمان والحياة الهادئة.

أعيش الآن في بيت صغير في ريف مدينة غينت البلجيكية، أمام منزلي ثمة حظيرة صغيرة للأبقار والأحصنة، يذهب أبناء القرية صباحاً إلى جارتي لشراء الحليب، بعد الظهيرة يداومون على ركوب الأحصنة في القرية الصغيرة، وفي المساء ينامون مبكراً ليوم جديد يشبه كل الأيام الهادئة. كابن للساحل والبحر كانت العلاقة مع المكان تبدو مبهرة، ثمة "واو" كبيرة بصوت عال تخرج كلما صار المشهد هادئاً، كلما حركت الريح حقل القمح. كلما صاح الحصان على صاحبه، وكلما شعرت بالخجل عندما أشعل سيجارة بينما أتجول بين الحقول. لم أعهد مثل هذا الصمت من قبل، إلا أنه خفف عني غضباً كبيراً في تجربة ورحلة اللجوء القاسية.

ما جعلني أندفع إلى الطبيعة كل يوم، كل نهار، كل عطلة نهاية أسبوع، الحماس الدائم للتفتيش في أسماء الأشجار وأنواعها وتاريخها هو أنها تجربة لم تكن يوماً في حياتي القصيرة، لأول مرة أعرف أن الذهاب إلى الطبيعة يشبه تماماً الذهاب إلى حضن الأم أو الحبيبة بعد تعب ومرض، الشفاء المجاني دون رعاية طبية وملاحظات طبيب، الجلوس على خضرة العشب أمام شجرة غريبة في صمت هادئ بين طيور لا تعرف أسماءها وأنواعها وحشرات كثيرة تفتش فيك عن ندبة لتخلصها منك.

لأول مرة أعرف أن الذهاب إلى الطبيعة يشبه تماماً الذهاب إلى حضن الأم أو الحبيبة بعد تعب ومرض، الشفاء المجاني دون رعاية طبية.

في حديقة بلارماسين، في مدينة غينت جلست مع أصدقائي الذين يشاركونني تجربة اللجوء، كلنا جئنا من الشرق الأوسط، نفكك فكرة الصراخ والفوضى والحرب والندوب التي جئنا منها والانبهار بجمال القطار الذي يخترق المشهد أمامنا بينما يلعب كلب صغير في الجوار مع مجموعة كبيرة من طيور البط في سلام تام، عن فكرة السلام والأمان والهدوء الذي يحتاجه أي شخص جاء من مكان قاسٍ ومظلم ومتعب ومليء بانتهاك الكرامة الإنسانية.

الفكرة التي جمعتنا في هذا المكان هي أن السلام الذي يحوم في الطبيعة مختلف تماماً عن الجلوس قبالة الشاطئ. إلى جوارنا مجموعة من الشباب الأفغان وقبالتهم عائلة سورية، وقبلنا كانت عائلة من إفريقيا، دون قصد، ودون شعور سببي، يجتمع الناس في حديقة كبيرة في المدينة، ليرموا أثقالاً من صدورهم.

في مسارات المشي الصغيرة تجد شباباً وبناتاً يمشون لوحدهم مع سماعات أذن، منهم من يتحدث مع عائلته في سوريا أو اليمن أو فلسطين أو تنزانيا أو ليبريا أو أفغانستان بلغات مختلفة وغريبة، وحدها الطبيعة من تأخذ هذه الأصوات بحنان واشتياق وحب، وفتاة في أخر الممشى تتحدث العربية الممزوجة بالكردية مع حبيبها عن شفائها المستمر كل صباح بالذهاب إلي الحديقة.

لم أفهم هذا الشعور غير السببي الذي يدفعني ويدفع أصدقائي ومن يشاركونني تجربة اللجوء بالذهاب إلى الطبيعة، وإلى مسارات المشي، وإلى الحقول الفارغة، لا إلى الشاطئ والمدن المزدحمة والأماكن الثقيلة شعورياً كمراكز المدن والمحلات التجارية التسوقية الكبيرة.

إن شعوراً ما عالقاً في أجساد هؤلاء يريد أن يرحل، الرحيل الثقيل من الجسد تستقبله الطبيعة بهدوء وببطء وسلام. أكتب عن الطبيعة لأنها علمتني دروساً كثيرة ومهارات عظيمة للتخلص من الألم والغضب والحزن، علمتني أن ركوب الدراجة الهوائية في مسارات الطبيعة لساعات طويلة هو تمرين يومي على حب الحياة والتعايش مع الاختلاف والقدرة على بناء سلام داخلي لجسد جاء من الحرب.

أكتب عن الطبيعة لأنها علمتني دروساً كثيرة ومهارات عظيمة للتخلص من الألم والغضب والحزن، علمتني أن ركوب الدراجة الهوائية في مسارات الطبيعة لساعات طويلة هو تمرين يومي على حب الحياة

علمتني الطبيعة بينما أقود دراجتي الهوائية أن تفكيك الآلام والندوب لا يمكنان إلا بجهد شخصي، وبالاستماع الطويل إلى الأصوات الداخلية الغاضبة، علمتني الطبيعة أن الاختلاق طبيعي وضروري وصحي، فهذه الشجرة الطويلة أمامي لا ينبغي أن تقسو على شجرة أصغر منها، وأن فراشة على العشب جاءت لتحكي قصة لناموسة مختبئة، وأن حصاناً برياً في الجوار يمشي ليوزع مشاعره على الطيور أعلى ظهره. علمتني الطبيعة أن أحكي كثيراً بصوت عالٍ، وألا أخاف من ندوبي وخطاياي وأفكاري السلبية وجانبي المظلم المقيت، علمتني أن أكون منفتحاً على نفسي وعلى مشاعري وأن أكون منضبطاً في سلوكي مع الموجودات حولي.

يعاني الكثير من اللاجئين من صعوبات كثيرة للاندماج مع المجتمعات الجديدة، حواجز كثيرة تقف عائقاً أمامهم، حواجز نفسية وثقافية واجتماعية وسياسية وقانونية، وأيضاً تكون اللغة حاجزاً أساسياً، فماذا يفعل اللاجئ في بلد جديد ليشعر أنه آمن؟ ماذا يفعل اللاجئ ليكون واثقاً من قدرته على الاندماج مع مجتمع لا يشبهه البتة؟ ماذا يفعل اللاجئ ليتخلص من أوجاع المكان القديم؟ ماذا يفعل اللاجئ ليكون قادرًا على الترويح عن نفسه وشرب الجعة دون خوف ورقابة؟ يذهب اللاجئ إلى آلحضن الواسع، الطبيعة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image