إذا كنتَ ممن يقضون وقتاً طويلاً أمام الشاشات والأجهزة الإلكترونية، وتشعر بالإجهاد بسبب ذلك، فقط انظر عبر النافذة، إلى الحديقة المجاورة، استشعر جمالها وأنصت لطيورها، حالاً سوف تشعر ببعض الراحة العقلية والبصرية.
نصيحة الكاتبة فلورانس ويليامز في كتابها "تأثير الطبيعة... لماذا تجعلنا الطبيعة أكثر سعادة وصحة وإبداعاً"، تؤكد فيه أن ارتباطنا بالطبيعة أكثر أهمية لإدراكنا مما نعتقد، وحتى التواصل القليل مع العالم الحي يحسّن إبداعنا ومزاجنا، ويهدئ أدمغتنا، ما يجعل الخلايا في أجسامنا تعمل بنشاط وأكثر قدرة على مكافحة الالتهابات وترميم نفسها.
فلورانس ويليامز كاتبة أمريكية وناشطة في البيئة والعلوم، تكتب في ناشيونال جيوغرافيك ونيويورك تايمز، نالت جوائز عدة، منها جائزة لوس أنجلوس تايمز للعلوم والتكنولوجيا، وحصل كتابها "تأثير الطبيعة" على مرتبة الأكثر مبيعاً على موقع Audible وهي منصة أمريكية لبيع وتداول المحتوى الصوتي.
حتى التواصل القليل مع العالم الحي يحسّن إبداعنا ومزاجنا، ويهدئ أدمغتنا.
سافرت ويليامز حول العالم وغاصت في عوالم الطبيعة، بين حدائق آسيا وتلال أوروبا وجبال أمريكا وأنهارها، وبحثت في تأثير الطبيعة على الإنسان، وسحر الروائح والخضرة والأصوات، وكيف تجعلنا نشعر ونفكر بشكل أفضل، ونتعمق في فهمنا لأنفسنا ولما حولنا.
استرخاء ثم دهشة ثم إدمان
الوقت مع الطبيعة ليس رفاهية بل ضرورة لإنسانيتنا، تقول الكاتبة، معللة بأن الحداثة جعلت حياتنا تتغير بشكل متسارع، مع تأثير كبير على دواخلنا وعلى علاقتنا مع ذواتنا. والتواصل مع الطبيعة أحد المفاتيح لإعادة توازن هذه العلاقة.
"الكورتيزول هرمون حاضر في يومياتنا الشاقة، يزيد التوتر ويرفع الإجهاد، ليكون القليل من الطبيعة سبيلاً لانخفاض مستوى الكورتيزول وزيادة موجات الدماغ التي تحسن التركيز والهدوء. فالأدمغة تتفاعل بشكل إيجابي مع الأصوات الكائنة في أوراق الأشجار وتموجات المياه، لذلك فإن الوجود في مكان تستخدم فيه الحواس الخمس في وقت واحد يساعد في علاج الصدمات ويعيد شحن إحساسنا بالدهشة والرهبة أيضاً.
هذه التجربة ستزيد المشاعر الإيجابية وتعطي مزيداً من الاسترخاء والإلهام. في هذه اللحظات يشعر الإنسان بأنه جزء الطبيعة، جزء من ذات كبرى تفيض بالجمال الروحي والفكري، كل ذلك سيؤدي به إلى سلوكيات اجتماعية إيجابية".
"الصمت المبارك" مصطلح ورد في كتاب "تأثير الطبيعة" ويشير إلى غياب ضجيج البشر في الطبيعة، حيث لا صوت إلا للطيور والنباتات: "نشتم روائحها ونسمعها كيف تفكر وتحس وتنمو".
تضيف فلورانس أن أدمغتنا تشبه إلى حد كبير أدمغة الطيور من حيث تلقي اللغة ومعالجتها وخلقها، نتشارك جينات متعلقة بالكلام مع الطيور المغردة أكثر مما نتشاركه مع أي رئيسيات.
كذلك يستخدم البشر والطيور ذات المنطقة العصبية لمراكز اللغة، اسم المنطقة لدى البشر العقد القاعدية، وظيفتها تنظيم المشاعر، وهي التي تجعل الاستماع إلى الموسيقى وأصوات الطيور يتسبب بردود فعل عاطفية، بحسب دراسة استعانت بها الباحثة.
الدراسة أكدت أيضاً أن الأشخاص الذين يستمعون إلى أصوات الطيور بشكل متكرر، يظهرون تحسناً في الحالة المزاجية واليقظة العقلية. هذا التحسن يتباين بين الأشخاص بحسب جرعات التعرض للطبيعة وشكل العلاقة معها.
يقول الكتاب: "الطبيعة كما الكافيين، تسبب حالة إدمان للكثيرين، كلما تعرضتَ لها سوف تريد المزيد منها. ما عليك سوى فتح بابك والانطلاق خارجاً".
الأدمغة تتفاعل بشكل إيجابي مع الأصوات الكائنة في أوراق الأشجار وتموجات المياه، لذلك فإن الوجود في مكان تستخدم فيه الحواس الخمس في وقت واحد يساعد في علاج الصدمات ويعيد شحن إحساسنا بالدهشة والرهبة أيضاً
علاقتنا بالطبيعة أزلية
كتاب "تاثير الطبيعة" الصادر عام 2017 في أمريكا باللغة الانكليزية، يستحضر قصة زاك سميث، طفل مصاب بفرط الحركة ونقص الانتباه، التحق بمدرسة خاصة لمثل حالته، وفيها كان يمضي رفقة أقرانه أسبوعين مع الطبيعة والأسبوعين التاليين في صفوف الدراسة.
كانوا يتشاركون المشي مسافات طويلة وتسلق الصخور والتجديف والانغماس مع الطبيعة، وكان التعلم عن طريق اكتشاف الطبيعة علاجاً لزاك بعيداً عن الدواء، بحسب ويليامز.
تتابع أن مؤسس فكرة الحضانة فريدريك فروبيل، كان هدفه أن يمضي الأطفال الوقت في الطبيعة، يزرعون النباتات في الهواء الطلق، ويمارسون الرياضة، ويرقصون، ويغنون. كذلك يلعبون بأشياء بسيطة مثل الكتل، والمكونات الخشبية والأوراق الملونة، ومن خلال هذه الدهشة والاكتشافات، يتعلمون القوانين العالمية للهندسة والفيزياء والتصميم.
هذا يؤكد أن علاقة الإنسان مع الطبيعة علاقة فطرية، تتجاوز القضايا البسيطة المتعلقة بالغذاء والحماية لتشمل شغف الإنسان بالجوهر والرضا الجمالي والفكري والمعرفي وحتى الروحي، يذكر الكتاب، مستشهداً بمعلومات للخبير البيئي إدوارد ويلسن، وهو باحثٌ أمريكي درس علاقة التناغم بين الإنسان والمحيط الحيوي، وتعمق في علم النفس التطوري بين البشر على مر العصور، ووجد أن التعافي النفسي والفيزيولوجي لدينا متعلق بعتبة الوقت الذي نقضيه مع الطبيعة.
يحكي ويلسون تاريخ التجربة البشرية في التفاعل مع البيئة، وكيف طور الجنس البشري تكيفات مع الطبيعة التي كانت جزءاً من تاريخنا التطوري، ويقول: "نجا أسلافنا في برية العصر الجليدي، ونجحوا في تدجين الحيوانات والنباتات في العصر الحجري، واليوم نحن نعيش في بيئات تكاد تختفي فيها الطبيعة. التعرف على هذه التكيّفات يساعد في فهم تطور العلاقة والتفاعلات النفسية والفيزيولوجية التي تثيرها فينا الطبيعة".
هذا الميل الفطري للطبيعة في بيولوجيا الإنسان يحقق له الانبهار والانتماء، فالانبهار يتحقق عبر قدرة الطبيعة على سحر الإنسان وتنشيط انتباهه اللاإرادي، والانتماء للطبيعة رابطة قوية تتجلى في التعاطف مع مخلوقاتها الأخرى والاستجابة لمخاوفها باعتبارها واحدة من اهتمامات الإنسان، بحسب الكتاب.
علاقة الإنسان مع الطبيعة علاقة فطرية، تتجاوز القضايا البسيطة المتعلقة بالغذاء والحماية لتشمل شغف الإنسان بالجوهر والرضا الجمالي والفكري
إبداعٌ أكثر وقدرة على الخلْق
"طبقة رقيقة من النباتات تغطي التربة، يزينها واحد من الحيوانات الأليفة والعديد من المخلوقات الصغيرة، تفاصيل تشحذ الإبداع وتؤثر على الكيمياء الحيوية والعصبية للدماغ"، تؤكد الناشطة البيئية، وتضيف أن قدرة الطبيعة كبيرة على تعزيز الإبداع.
"تستطيع الطبيعة استحضار الطريقة الإبداعية في التفكير من خلال جعلنا أكثر فضولاً وقدرةً على خلق أفكار جديدة، إضافة إلى المرونة في طريقة تفكيرنا. أيضاً تساعد الطبيعة على إعادة شحذ انتباهنا المطلوب عند تحليل الأفكار وتطويرها.
العملية الإبداعية تمر بمراحل أربعة، تلعب الطبيعة دوراً أساسياً في المرحلتين الأوليتين منها، مرحلة التحضير ومرحلة الحضانة". وتضيف الدراسة بأن البيئات الطبيعية التي تعزز الأبعاد الحسية -الجغرافية والفضاء والصفاء- هي ذات أهمية خاصة للمبدعين.
ومما يحفز الإبداع أن يكون التواصل مع الطبيعة بعيداً عن التكنولوجيا والأجهزة الإلكترونية، بحسب دراسة وردت في الكتاب، تؤكد أن الانغماس مع الطبيعة مدة أربعة أيام بعيداً عن التكنولوجيا يزيد الإبداع والقدرة على القيام بالمهام وحل المشكلات بنسبة 50% عن أولئك الذي يقضون وقتهم في الطبيعة رفقة أجهزتهم.
تضيف الدراسة أن التعرض الصِرف للطبيعة يكون إيجابياً ومنخفضص الإثارة الحسية والعصبية، بينما التكنولوجيا تتطلب انتباهاً وشداً للحواس والأعصاب.
ولأن العلاقة بين الإنتاجية والإبداع في التعليم والعمل تزداد عندما يجمع المرء بين المساحات الطبيعية والمعيشة، نشأ مفهوم جديد للتخطيط المكاني يقوم على التمازج بين المساحات الطبيعية ومساحات المعيشة، في المستشفيات والمدارس وأماكن العمل والسكن أيضاً، ويشير الكتاب إلى أن الآثار الإيجابية لهذا التماهي كبيرة على شكل الحياة وجودتها.
جوهر الحياة
كثيرون يبحثون عن السعادة في العمل ولا يجدونها، ليكونوا أسعد في أيام الإجازات رفقة الموسيقى والأصدقاء، لكن السعادة الأكبر وجدتها الناشطة البيئية في قضاء الوقت خارجاً، مع الطبيعة.
لدى اليابانيين طقس "الاستحمام في الغابة"، لا يعني الاستحمام بالمعنى الحقيقي بقدر ما هو إغراق الحواس بين أشجار السرو المنتشرة في مساحات كثيرة هناك، يعللون بأن الحياة اليومية تنبّه البصر والسمع، فيحتاج الأخيران العمل مع باقي الحواس داخل محيط يبعث على الاسترخاء والسعادة.
الطبيعة موردٌ مجاني للاستشفاء والراحة، والتواصل معها باستمرار لا يقل أهمية عن النوم والتأمل. امشِ في الهواء الطلق مرات في الأسبوع، اقضِ رحلات أطول في الغابة مرة واحدة على الأقل في الشهر، وأمضِ إجازات طويلة في الطبيعة مرتين خلال السنة
الفنلنديون أيضاً لديهم تعبير "أرواح الغابة" في إشارة إلى تأثيرها في الإنسان، يقضون أوقاتهم خارجاً بانتظام، يقطفون التوت والفطر، ويتزلجون ويركبون الدراجات، بحسب الكتاب.
ونقرأ فيه أيضاً أن أوقات التخييم لديهم مقدسة ومنتظمة: "على الإنسان أن يمارس التخييم، ويتحد مع الطبيعة كما كان الإنسان القديم، وقد تجلى تأثير ذلك على إدراكه وقدراته المعرفية وتطوره الثقافي والجسماني، في حين يعزل الإنسان نفسه اليوم في بيئات مصطنعة وغرف استهلاكية مغلقة".
تعتبر فلورانس ويليامز أن البحث عن معنى الحياة والاستمرار فيها يعبر طريقه من خلال الطبيعة، وأن التشافي لن يكون في الحبوب وشاشات الأجهزة أو داخل الصالات الرياضية المغلقة، بل خارجاً.
"الطبيعة موردٌ مجاني للاستشفاء والراحة، والتواصل معها باستمرار لا يقل أهمية عن النوم والتأمل. امشِ في الهواء الطلق مرات في الأسبوع، اقضِ رحلات أطول في الغابة مرة واحدة على الأقل في الشهر، وأمضِ إجازات طويلة في الطبيعة مرتين خلال السنة. أحط نفسك بالأشجار والمياه لتبقى بكامل صحتك ويقظتك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.