شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
طرائف ولطائف من تبرير سلوكيات العشّاق إلى التحذير منها

طرائف ولطائف من تبرير سلوكيات العشّاق إلى التحذير منها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بين اتساع الرؤية وضيقها، كشفت مؤلفات الفقهاء في قضايا الحب والعشق، عن مساحات متفاوتة بين المرونة والتسامح من ناحية، والتقييد والتقليص من ناحية أخرى. تحلّى الأوائل بالمرونة، بينما استخدم المتأخرون من الحنابلة ميزان الشرع والدين سيفاً لكبح جماح سلوكيات المحبين والعُشَّاق.

خوفاً من قصص المحبين التي تمس الحس الديني، فإن الفقهاء الذين تسامحوا مع هذه الأفعال، مثل محمد ابن داود الأصبهاني (ت 296 هـ)، وكتابه "الزهرة"، وابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) وكتابه "طوق الحمامة وظل الغمامة في الألفة والآلاف"، وكلاهما ينتميان إلى المذهب الظاهري، ومن المرتبطين بعلوم القرآن جعفر السراج (ت 500 هـ) وكتابه "مصارع العُشَّاق"، احتالوا في كتبهم بحيل استباقية لضمان الكتابة في الحب بأمان.

بين اتساع الرؤية وضيقها، كشفت مؤلفات الفقهاء في قضايا الحب والعشق، عن مساحات متفاوتة بين المرونة والتسامح من ناحية، والتقييد والتقليص من ناحية أخرى

متأخرو الحنابلة، الذين حذّروا من أفعال المحبّين، مثل أبي الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) وكتابه "ذم الهوى"، وابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) وكتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، وابن أبي حجلة (ت 776 هـ) وكتابه "ديوان الصبابة"، عدّوا الكتابة في الحب نوعاً من الخسارة والتخلي عن الوقار، وفضّلوا استبدالها بحب الله ورسوله. وخلافاً للحنابلة والاستبدال، يتجلى موقف الصوفية الذين يعدّون الحب بين البشر مرحلةً لبلوغ المحبة الإلهية.

كمون النار في الحجر

لم تمنع جرأة أخبارهم وقصصهم الفريق المرن من الفقهاء من تسجيلها وإدراجها كنماذج شاهدة على أحوال العُشَّاق. في كتابه "الزهرة"، روى ابن داود عن الأصمعي (ت 216 هـ) أنه قال: "بينما أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجارية متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول: لنْ يقبلَ اللهُ مِنْ معشوقةٍ عملا/يوماً ووامِقُها غضبانُ مهجور/وكيف يأْجرُها في قتلِ عاشِقها/لكنَّ عاشقَها في ذاكَ مأْجور. قال: فقلت لها: يرحمك الله أفي مثل هذا الموضع تنشدين هذا؟ فقالت: إليك عني يا عراقي لا رهقك! فقلت لها: وما الحب؟ فقالت: هيهات، جل والله عن أن يُحصى، وخفي عن أن يُرى، فهو كامن ككُمون النار في حجرها إن قدحته ورى وإن تركته توارى".

متغاضياً عن حساسية التفاصيل، وصف ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة" تلامس المحبين واختلاس الوصل بعيداً عن الرقباء وممارسة "الضحك المستور، والنحنحة، وجَوَلان الأيدي، والضغط بالأجناب، والقرص باليد والرجل، لموقعاً من النفس شهيّاً".

حكاية أكثر جرأةً يرويها ابن حزم على لسان بطلتها "هند" التي قالت: "ركبت البحر وأنا منصرفة من الحج، وقد رفضت الدنيا، وأنا خامسة خمس نسوة"، لكن أحد ملّاحي السفينة، وله تركيب جسماني قوي، "أتى إلى إحدى صواحبي فوضع إحليله في يدها، وكان ضخماً جداً، فأمكنتْه في الوقت من نفسها"، وفعل ذلك مع النسوة الأربع، ما جعل هند تعتزم الانتقام منه، وجهزت موسى، فلما جاءها ليلاً، سقطت الموسى عليه، فارتاع ونهض "فأشفقتُ عليه وقلتُ له وقد أمسكتُه: لا زُلتَ أو آخذ نصيبي منك. قالت العجوز: فقضى وطره وأستغفر الله".

غالباً ما تُوصف أفعال المحبين بـ"الخلاعة والفسق" عند الفقهاء، فكان منطقياً أن تخلق الكتابة في هذا المجال أسئلةً حول موقفهم من الأفعال السائدة في أخبار العُشَّاق.

حيل استباقية

بوصفه أحد متكلمي المعتزلة، وبرغم جرأته في مسائل عدة، ظهرت هواجس الجاحظ (ت 255 هـ) في مطلع رسالته "في العشق والنساء"، بمقولته "احتجنا إلى الاعتذار مع ذِكْر العشق المعروف بالصَّبابة، والمُخالَفة على قوة العزيمة"، أي أن حديثه عن الحب احتاج إلى الاعتذار، والأبرز في عبارته أن العشق يرتبط بمخالفة العزيمة أي الضعف، وهو ما تكرهه النفوس، متمنياً في رسالته أن يلقى من هو "قليل التسرع إلى أعراض العلماء".

متوقعاً الهجوم، أقرَّ ابن داود في "الزهرة"، أنه سيلقى المتحامل والعاقل، و"المتحامل يُعرف مغزاه من فحواه، والعاقل لا يرى لنفسه أن يعيب من لم يدع أنه قد كمل بما يرى في كتابه من الخلل"؛ أي أن العاقل لن يهاجمه طالما أنه معترف بالتقصير. وتوقعه للمتحامل لم يمنعه من استعراض أحوال الحب متوسعاً في النماذج الشعرية، مسجلاً نحو 10 آلاف بيت من الشعر، مستثنياً قصص حب الأنبياء والصالحين، لأنه "مقصد يبعد عندي من الصواب"، فعاب اتجاه أدباء عصره تسجيل هذه المرويات لأنها من المستقبحات.

وفقاً لحسن عبد الله في كتابه "الحب في التراث العربي"، فإن الفقهاء في بعض العصور أزعجهم التغيّر الاجتماعي والسلوكي في الحب، فالتزموا "الاعتراض عليه والتنديد به".

بطريقة أكثر واقعيةً، اتجه ابن حزم إلى نماذج من الحياة اليومية الأندلسية، تاركاً القصص المتداولة الوافدة من المشرق العربي، ليخلق مسلكاً فريداً، ويحتاط فيه بعدم ذكر بعض أسماء أبطال حكاياته، "فاغتفرْ لي الكناية عن الأسماء؛ فهي إما عورة لا نَستجيز كشفها، وإما نُحافظ في ذلك صديقاً ودوداً، ورجلاً جليلاً. وبحسبي أن أسمّي من لا ضرر في تسميته، ولا يَلحقنا والمسمَّى عيبٌ في ذكره".

وحتى لا يدع مجالاً للطعن، ختم كتابه ببابين ركز فيهما على الوعظ، الأول "في قبح المعصية"، شرح فيه ضرر الاستسلام للمعاصي، وتغاضيه عن كثير من الأخبار لكونها "عورات"، مُبرئاً نفسه من ارتكاب الإثم بقوله "وإني أقسم بالله أجلَّ الأقسام أني ما حللت مِئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلتُ إلى يومي هذا".

والباب الثاني "فضل التعفف"، وفيهما معاً يلفت النظر إلى أن العاطفة ربما تقود صاحبها إلى معصية الزنا محذراً منها، كأنه يُبدي تسامحه مع أي سلوكيات خلافاً للزنا، كأنه يعدّها من "اللمم المغفور".

حيلة جعفر السراج، هي الأكثر وضوحاً، فقد التمس العذر لنفسه ولأبطال قصصه، حينما روى مقولة يحيى بن معاذ (ت 258 هـ): "لو كان لي من الأمر شيءٌ ما عذبت العُشَّاق؛ لأن ذنوبهم ذنوب اضطرار، لا ذنوب اختيار".

ابحث عنها في كتاب "الزهرة"

تُرى، هل غفرت مبررات التأليف الاستباقية لمؤلفيها؟ فبحسب كتابه "الإمام أبو العباس بن سريج وآراؤه الأصولية"، فإن مناظرةً جرت بين ابن سريج (ت 306 هـ)، وابن داود حول مسألة في "الإيلاء والهجر"، فاختلفا وغضب ابن سريج فقال: "إئت يا أبا بكر بكتاب 'الزهرة' أمهر منك في هذه الطريقة. فقال أبو بكر (ابن داود): وبكتاب الزهرة تعيّرني، والله ما تحسن تستتم قراءته قراءةَ من يفهم". أي أنه تعرض لمضايقات مناظره بسبب كتابه عن الحب، ما دفعه للردّ بصورة حازمة مفتخراً بكتابه.

أما ابن حزم، فكانت تهمته أنه أشاع أسرار أصدقائه، وبحسب إحسان عباس محقق كتاب "طوق الحمامة" في دراسته للكتاب، فإن ابن حزم "اتهم بأنه مَذِلُ (مفشٍ) بأسرار إخوانه، ولعل في هذا إشارة إلى كتاب 'طوق الحمامة' نفسه، إذ كشف فيه أسرار كثيرين ممن عرفهم، وكان الناس في أيامه يعرفونهم حتى وإن لم يذكر أسماءهم".

مرونة الفقهاء

عناوين كتب الفريق المرن تنحاز إلى الخيال والأسطورة والطابع الشعري، فكتاب "الزهرة" تسميته مرتبطة بأسطورة عن امرأة جميلة مُسخت ورفعت إلى الفضاء، وكتاب "مصارع العُشَّاق" واسمه مرتبط بنتيجة العشق ومصيره الملحمي. ووفقاً لحسن عبد الله في كتابه المذكور آنفاً، فإن "فرقاً كبيراً جداً بين من يسمي كتابه 'طوق الحمامة' ومن يسمي كتابه في الغرض ذاته 'ذم الهوى'، ففي التسمية الأولى شاعرية واضحة وحلاوة في السمع لا تخفى، وفي التسمية الثانية نزعة استنكار ورغبة في التهجين والتهوين حتى وإن كانت مادة الكتاب لا تؤدي إلى هذا التصور المفترض".

داخل المتن، برز رأي ابن حزم الفقهي، في أن الحب "ليس بمُنكَر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عزّ وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير"، مخالفاً سلفه ابن داود، ومُظهراً انفتاحه على قصص الأئمة والصالحين، بالإضافة إلى استعراض خبراته الشخصية، بقوله: "وعني أخبرك أني ما روِيتُ قطّ من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأً".

تتسع المرونة لتأخذ مساحتها الأكبر عند جعفر السراج الذي تطرق إلى مرويات عن حبّ الغلمان، وطريقة المتصوفة في تلميع هذه العلاقات بوصفها حباً إلهياً. ورُوي عن أحد زائريهم: "حضرت بمصر قوماً من الصوفية، وعندهم غلام أمرد يُغنِّيهم، فغلب على رجل منهم أمره، فلم يدرِ ما يصنع، فقال: يا هذا! قل لا إله إلا الله! فقال: لا إله إلا الله. فقال: أُقبِّل الفم الذي قال لا إله إلا الله".

النزول عن الوقار إلى الحضيض

مشاركة الحنابلة في التأليف، أظهرت نظرتهم إلى الحب المخالفة لفقهاء الظاهرية الأوائل، وعدّوه نزولاً وترخصاً. أشار إلى هذا ابن الجوزي في "ذمّ الهوى"، بقوله: "اعلمْ أني قد نزلت لأجلك في هذا الكتاب عن يفاع الوقار إلى حضيض الترخص في ما أورد"، ومن بعده يضع ابن القيم في موسوعته "روضة المحبين" سلوكيات المحبين موضع التحذير، وينزلها في ميزان الشرع، متعمداً الرد على ابن داود وابن حزم.

متأخرو الحنابلة، الذين حذّروا من أفعال المحبّين، عدّوا الكتابة في الحب نوعاً من الخسارة والتخلي عن الوقار، وفضّلوا استبدالها بحب الله ورسوله

وبالرغم من تطويع ابن القيم سلوكيات المحبين لصالح مذهبه، فإنه خشي الهجوم عليه، فذكر أنه بتأليفه قد "نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين"، و"لقارئه غُنمه وعلى مؤلفه غرمه"، أي خسارته، متمنياً الردّ الجميل إن كان حظ كتابه "احتقاراً واستهجاناً".

متأثراً بابن القيم، جاء ابن أبي حجلة مؤلف "ديوان الصبابة"، رابطاً بين أحوال الحب وما يراه صواباً دينياً، مثلاً يذكر من علامات العشق: "إغضاء المُحب عند نظر محبوبه إليه"، مستشهداً بموقف للنبي محمد في ليلة الإسراء وبالآية: "ما زاغ البصر وما طغى" (النجم:17)، ومن علاماته أيضاً "افتداء المحبوب"، مستشهداً بمواقف السيرة "كما كانت الصحابة يفدون النبي في الحرب بنفوسهم حتى يصرعوا حوله".

وفي باب "ذكر من عشق على السماع"، يحذّر من وصف المرأة لغير زوجها، وذكر أنه "نهى النبي أن تنعت المرأة لغير زوجها حتى كأنه ينظر إليها". وفي باب "الغيرة" استحسن الغيرة لله وللرسول مقتبساً ذلك من "روضة المحبين".

أسرفوا في القصص التي تصوّر الحب انحرافاً، هكذا كانت كتب الحنابلة، ووفقاً لحسن عبد الله في كتابه "الحب في التراث العربي"، فإن الفقهاء في بعض العصور أزعجهم التغيّر الاجتماعي والسلوكي في الحب، فالتزموا "الاعتراض عليه والتنديد به"، و"هذا أوضحُ ما يكون في 'ذم الهوى' و'روضة المحبين' بصفة خاصة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image