اتسم القرن التاسع عشر على الصعيد العلمي بتأسيس بعض العلماء الأنثروبولوجيا، وهو أحد فروع العلوم الإنسانية الذي يعنى بدراسة الحضارات الإنسانية وتطورها ودراسة التطور النفسي والبيولوجي البشري. لذلك، ما زال يعتبر هذا العلم حديثاً نوعاً ما. برغم ذلك، تطور وتبلور حتى رفض علماء الأنثروبولوجيا الحديثون الكثير من النظريات التأسيسية للعلم وأبقوا على نظريات أخرى.
المفارقة، أن النظريات التي تدرس في الفلسفة والعلوم الانسانية تشكل جزءاً من الوعي المجتمع. قد لا يدرك غير المتخصصين أنها نظريات علمية، لكن تأثيرها يبقى واضحاً على المعرفة العامة. خصوصا أنها نظريات تأثرت بالسياق التي ظهرت خلاله والعلماء الذين درسوها والمنظمات والجامعات التي مولت هذه الأبحاث.
الأنثروبولوجيا علم تأسس في أوروبا متأثراً بصعود الاستعمار الأوروبي والنظرة الدونية التي كرسها تجاه سائر شعوب العالم. وما زلنا نلمس اليوم تأثير هذه النظريات على سياسات الدول ونظرة كثيرين تجاه الشعوب غير الأوروبية. وهي نظرة غالباً ما تخدم المركزية الأوروبية معتبرة أنها رمز للتطور والحضارة.
التطور والتخلف في الأنثروبولوجيا
هي نظرية مبنية على نظرية التطور البيولوجية لتشارلز داروين وأعمال الفيلسوف الإنكليزي هيربرت سبنسر. يعتبر مؤسسو هذه النظرية، لويس مورغان وإدوارد بورنيت تايلور وجايمس جورج فرايزر، أن التاريخ البشري يتطور عبر خط مستقيم من الهمجية حتى البربرية وثم التحضر. وهي نظرية تفسر تقسيم العالم إلى دول نامية ودول في طور النمو وأخرى متحضرة. يحدد التطور التكنولوجي والأدوات المستخدمة الحقبة التي يمرّ فيها كل مجتمع. وهي نظرة متأثرة بالثورة الصناعية الأولى التي شهدتها أوروبا سنة 1850 باكتشاف الآلة البخارية.
الأنثروبولوجيا علم تأسس في أوروبا متأثراً بصعود الاستعمار الأوروبي والنظرة الدونية التي كرسها تجاه سائر شعوب العالم. وما زلنا نلمس اليوم تأثير هذه النظريات على سياسات الدول ونظرة كثيرين تجاه الشعوب غير الأوروبية
في ما بعد، رفض التطور التاريخي الأحادي، وتبلورت فكرة الزمن في العلوم الانسانية. لكن مفردات كـ"التحضر" و"التخلف" طبعت في أذهاننا وما زالت تلاحق شعوب العالم "المتخلف/النامي" بسعيه الدؤوب والمستمر بالحصول على حياة أفضل في الدول "المتحضرة/المتطورة". على سبيل المثال، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور عديدة لعرب وأفارقة تحت هاشتاغ uncivilized أو "غير متحضر" إبان موجة الهجرة الأوكرانية إلى الدول الأوروبية منذ ما يقارب العام. شكلت الصور رفضاً للترحيب الذي لقاه الأوكرانيون في أوروبا مقارنة مع الطرد والعنصرية التي تلقته الشعوب غير الأوروبية أو غير البيضاء.
الإسلام كنقيض للعقل
درس عالم الاجتماع الألماني الذي يعتبر أبَ علم الاجتماع في ألمانيا، ماكس فيبير، مساءل عديدة منها ما يندرج تحت عنوان علم اجتماع الدين، وهو فرع من علم الاجتماع الذي يدرس تأثير الدين على سلوكيات الأفراد في المجتمع.
يعرف فيبير، المولود لعائلة مسيحية بروتيستانتية، بأنه عاش حياة بذخ سادتها الحرية الجنسية المطلقة والإفلات من العوائق والقيود الدينية والمجتمعية. وهو بدراسة الدين كوسيلة لتحقيق التغيير الاجتماعي، وصف البروتيستانتية مثلاً بأنها دين رأسمالية قائم على تكديس الأرباح للأهمية التي يلقيها على الجد والعمل، بعكس الكاثوليكية التي تنفي أهمية الربح وتنبذه. أخذ فيبير من الولايات المتحدة الأمريكية مثالاً كدولة تتبع المذهب البروتستانتي المسيحي.
يعتبر ماكس فييبر أن الإسلام فقد بُعده كدين مخلص وتحول رويداً رويداً إلى دين حرب. أي أننا لدراسة الدين الإسلامي علينا بدراسته من منظور علم الاجتماع الحربي وليس علم الاجتماع الديني.
في محاولة لتحليل الإسلام من نفس المنظور، يتوصل فيبير لاستنتاجات أقل إيجابية، إذ يعتبر أن الإسلام فقد بُعده كدين مخلص وتحول رويداً رويداً إلى دين حرب. أي أننا لدراسة الدين الإسلامي علينا بدراسته من منظور علم الاجتماع الحربي وليس علم الاجتماع الديني. يضيف فيبير أن الإسلام دين يفتقد لقانون منظم ومنطقي باعتبار أن قانونه (الشريعة الإسلامية) راكد ولا يتغير أبداً. كما أن القضاة يطبقونه وهم أشخاص عاديون مثلنا قد يخطئون وقد يصيبون. بينما يجب أن يطبق القانون من قبل المؤسسات أي أن يرتكز القرار على نظام بأكمله يعمل فيه عدة أشخاص ويأخذون القرارات بالإجماع.
كما اعتبر فيبير أن المنطق ولد في أوروبا بفضل الثورة الصناعية والإصلاح الكنيسي الذي قاده مؤسسو البروتستانتية أمثال جون كالفين في سويسرا ومارتن لوثر في ألمانيا. يعتبر فيبير أن هذين العاملين أديا إلى عقلنة العمل والدين في أوروبا، بالإضافة إلى التقدم العلمي والتقني الذي أحرزته أوروبا لا سيما على صعيد الاكتشافات العلمية. ويضيف أن التقدم الذي أحرزه الغرب بني على العقلية الأوروبية التي توفر "درجة عالية من العقلانية" التي تحمي المجتمع من المعتقدات المتعلقة بالإيمان والسحر والقضاء والقدر.
يذكرنا موقف فيبير بنظرة المستشرقين للأماكن التي زاروها وأرخوا حياتها للغرب؛ على سبيل المثال، أعمال المستشرق الفرنسي إرنست روناند الذي اشتهر بعبارته: "لا شيء مثير للاهتمام ينبت في الصحراء". كما عرف بمواقفه المناهضة للإسلام في مؤتمر في جامعة السوربون الفرنسية سنة 1883 تحت عنوان "الإسلام والعلم"، حيث قال فيه إن "الإسلام هو السلسلة الأثقل التي حملتها البشرية". واعتبر أن الإسلام خنق الحركة العلمية خلال نصفه الثاني "لسوء حظه".
يبني كثير من علماء الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا أعمالهم على المراقبة التاريخية للمستشرقين، مما أدى إلى سوء فهم للمجتمعات العربية عامة والإسلام خاصة، بيد أنه باعتبار فيبير نفسه "العامل الأساسي لفهم المجتمع العربي".
الإسلام من وجهة نظر أخرى
برغم النظرة الدونية التي حملها بعض العلماء والمؤرخين الأوروبيين للإسلام والمسلمين، عمد علماء ومؤرخون أوروبيون آخرون إلى فهم الإسلام وتقديمه من وجهة نظر مغايرة؛ منهم المؤرخ الفرنسي ماكسيم رودانسون الذي رد على نظريات فيبير وتأريخ روناند في كتابه "الإسلام والرأسمالية" الصادر عام 1966، وفي كتابه هذا درس العلاقة بين الإسلام والتطور الاقتصادي والرأسمالية.
برغم النظرة الدونية التي حملها بعض العلماء والمؤرخين الأوروبيين للإسلام والمسلمين، عمد علماء ومؤرخون أوروبيون آخرون إلى فهم الإسلام وتقديمه من وجهة نظر مغايرة؛ منهم المؤرخ الفرنسي ماكسيم رودانسون الذي رد على نظريات فيبير
تميز رودانسون بتعلمه اللغة العربية، مما أتاح له التعرف عن كثب على العالم العربي دون الحاجة إلى وسيط يقدم له العالم العربي من منظاره الخاص. أتاح ذلك درجة من الموضوعية التي قد تفتقد في أعمال ودراسات علماء آخرين، كما سمح لرودانسون ببناء وجهة نظره على القرآن نفسه متقاطعاً مع فيبير بوجوب تفسير العالم العربي عن طريق الإسلام.
مثلاً، يدافع رودانسون عن العالم العربي باستشهاده بآيات قرآنية تحث على العقلانية، منها ذكر فعل "عقل" في القرآن خمسين مرة وعبارة "أفلا تعقلون؟" 13 مرة، واعتبر أن القرآن يتيح درجة أعلى من العقلانية من الكتب المقدسة المسيحية واليهودية. كما أنه يشجع على العمل واتخاذ القرارات بدلاً من الكسل.
العنصرية لا تقتصر على العالم العربي فقط
درس الكثير من العلماء الأوروبيين مناطق عديدة في العالم ناقلين إليها نظرة فوقية تضع الرجل الأبيض على رأس المجتمعات الإنسانية، حتى نظر عالم الأنثروبولوجيا البولندي برونيسلاف مالينوفسكي عن وجوب معاملة العلوم الإنسانية كالعلوم الطبيعية، أي أنها يجب أن تدرس بموضوعية وبمنأى عن المشاعر الشخصية التي قد يكنها الباحث أو العالم تجاه المجتمع الذي يدرسه.
مالينوفسكي البولندي الأصل الذي يحمل جنسية بريطانية عمل لصالح كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية وانكب على دراسة مجتمعات نيو غينيا. أجرى مالينوفسكي أبحاثه باللغة الإنكليزية، بينما احتفظ لنفسه بمذكرة خاصة كتب فيها بلغته الأم عن المشاكل التي واجهها بالتعامل مع القبائل التي درسها، إذ نظر إلى تلك المجتمعات باستحقار ودونية مما انعكس حتماً على نتائج بحوثه، بيد أنه كرس حياته لينادي بالموضوعية إبان العمل الميداني. وقد نشرت زوجته إلسي روزالين ماسون مذكراته بعد وفاته كانتقام منه للعنف الذي مارسه عليها خلال حياتها.
تجربة مالينوفسكي تؤكد أن العنصرية لم تستخدم لاستهداف العرب وحدهم، بل كانت نقطة أساسية اتسمت بها العلوم الإنسانية ببعض مراحلها ودرست لأجيال من الباحثين حتى شكلت، بالإضافة الى عوامل أخرى، نظرة معادية للشعوب غير الأوروبية والسمراء.
تقع اليوم المسؤولية على الكليات في العالم العربي التي تدرس العلوم الانسانية: هل تدرسها من منظار أوروبي بحت؟ أم هل تنجح بتأطير النظريات بالسياق التي ولدت فيه لتتمكن من فهم العلوم الإنسانية من منظار عربي وتطويرها في العالم العربي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...