في سنة 1960، أعارت وزارة التربية أحد مدرسيها، أستاذ الكيمياء دريد لحام، إلى التلفزيون العربي السوري عند تأسيسه في زمن الوحدة بين سوريا ومصر. وعندما انتهى ندبه اتصل الوزير أمجد الطرابلسي بمدير التلفزيون صباح قباني، وطلب منه استعادة المدرس لكي يلتحق بعمله في جامعة دمشق. في مذكراته، يقول قباني إنه ردّ على الوزير قائلاً: "إنه من السهولة بمكان أن تعثر وزارتكم في يوم واحد على عشرين أستاذ كيمياء، ولكن ظهور موهبة نادرة مثل دريد قد تحتاج إلى مئة عام. وفي النهاية رضي الوزير، الذي كان هو نفسه شاعراً مجيداً، ويعرف قيمة الموهبة الفنية وندرتها، أن ينقل دريد من سلك التعليم إلى ملاك التلفزيون".
دريد لحام عندما كان أستاذاً جامعياً
معظم الفنانين السوريين الأوائل كانوا مثل دريد لحام يعملون في اختصاصات مختلفة قبل احتراف التمثيل، بعضهم حافظ على مهنته الأولى بعد الاحتراف لأنّ دخلَ مهنة التمثيل كان متواضعاً للغاية. دريد نفسه كان متردداً في الظهور على الشاشة عند دعوته للمشاركة في التلفزيون في زمن الوحدة، لأن مهنة التدريس كانت رصينة ومحترمة اجتماعياً ودخلها جيد جداً بالمقارنة مع بقية المهن كافة.
معظم الفنانين السوريين الأوائل كانوا مثل دريد لحام يعملون في اختصاصات مختلفة قبل احتراف التمثيل، بعضهم حافظ على مهنته الأولى بعد الاحتراف لأن ّدخْل مهنة التمثيل كان متواضعاً للغاية
كان دريد يعمل مدرساً للكيمياء المخبرية في المدارس الثانوية ومساعد أستاذ في كلية العلوم بجامعة دمشق. وكان ظهوره الأول على الشاشة بطلب وتشجيع من صباح قباني في برنامج أطفال، وقد استخفى بهيئة شيخ عجوز له لحية بيضاء طويلة، تحسباً لردة فعل سيئة من طلابه. كان ذلك طبعاً قبل ابتكار شخصية "غوار الطوشة" المعروفة، بقبقابه الخشبي وطربوشه وسرواله المهترئ، التي حققت نجاحاً عربياً واسع النطاق.
مع ذلك، وفي سنة 1970، عندما كان دريد قادماً من الإسكندرية إلى بيروت وهو في أوج شهرته، أوقفه أحد "العتّالين" في المرفأ وسأله: "أبو الغور... صحيح أنك كنت أستاذ جامعي قبل أن تصبح ممثل؟". أجابه دريد بـ"نعم"، فقال: "مش أحسن لك من هي البهدلة؟".
قبل ذلك بسنوات طويلة كان الفنان المسرحي وصفي المالح يعمل مديراً للمدخرات الخاصة للملك فيصل الأول سنة 1920، يغادر مكتبه في قصر المهاجرين (قصر نظام باشا) عند المغيب للوقوف على خشبة المسرح ويقدم أعمالاً عالمية لشكسبير. لم يُمانع الملك فيصل نشاط وصفي المالح المسرحي، بل دعمه، لأنه كان معجباً بالمسرح بعد أن حضر عروضاً عالمية في لندن وباريس سنة 1919.
أول ظهور لدريد لحام على التلفزيون السوري
وقد عبّر فيصل عن هذا الإعجاب بنزوله إلى صالة "زهرة دمشق" في ساحة المرجة لحضور افتتاح مسرحية "جمال باشا السفاح" التي كانت من تأليف الصحافي معروف أرناؤوط وبطولة وصفي المالح والفنان الفلسطيني عبد الوهاب أبو سعود. وقرر دعم أبو سعود بتعيينه موظفاً في وزارة المعارف، لكي يكون له راتب إضافة من الدولة، وكلفه برسم الشخصيات التاريخية للكتب المدرسية، مثل طارق بن زياد وخالد بن الوليد وغيرهم.
كسر الملك فيصل "تابو" الفن في دمشق، وبسببه لم يعد مستهجناً وجود فنانين هواة في وظائف حكومية. وفي سنة 1936 تسلّم عطا الأيوبي رئاسة الحكومة السورية، هو الذي بدأ حياته بالمسرح، قبل أن يمتهن الإدارة في كبرى وظائف الدولة العثمانية، وقبل انتخابه نائباً في "مجلس المبعوثان" سنة 1912.
أنور البابا بلباس أم كامل
ومن المعلومات المغفلة تاريخياً أن عطا الأيوبي كان ممثلاً محترفاً في فرقة أبى خليل القباني المسرحية في نهايات القرن التاسع عشر. وهناك الكثير غيره من الذين انتقلوا من التمثيل إلى الوظائف الحكومية –وهو ليس موضوع هذا المقال اليوم–، ولكن نذكر على سبيل المثال نشأت التغلبي، مدير إذاعة دمشق الذي بدأ حياته ممثلاً في الفيلم السوري "تحت سناء دمشق" في مطلع الثلاثينيات، وأحد مؤسسي قسم الكيمياء في الجامعة السورية عبد الوهاب القنواتي، الذي كان سنة 1915 ممثلاً في "فرقة أحمد عبيد" المسرحية.
وفي عهد رئيس الحكومة جميل مردم بك (1936-1939)، عمل أحد موظف السراي الحكومي في الفن أيضاً، وكان بعد عرض البريد على رئيسه وأخذ توقيعه يخرج أيضاً إلى "بروفات المسارح" في صالات وملاهي دمشق. كان راتبه في الدولة 21 ليرة سورية (ما يعادل 4 ليرات ذهبية)، ما أمكنه من تأسيس فرقة مسرحية مع رفاقه الحالمين ببريق المسرح ونجوميته، وقد اشتهر هذا الفنان (واسمه أنور البابا) بشخصية "أم كامل" النسائية في سنوات لاحقة، وبات أحد نجوم سوريا في المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما.
عندما كان دريد قادماً من الإسكندرية إلى بيروت وهو في أوج شهرته، أوقفه أحد "العتّالين" في المرفأ وسأله: "أبو الغور... صحيح أنك كنت أستاذ جامعي قبل أن تصبح ممثل؟" أجابه دريد بـ"نعم"، فقال: "مش أحسن لك من هي البهدلة؟"
وهناك أمثلة كثيرة على فنانين معروفين عملوا في مصالح مختلفة، مثل سليم كلاس (أحد نجوم مسلسل مرايا) الذي بدأ حياته موظفاً في مصرف سوريا المركزي، وهو منحدر من كبرى عائلات دمشق، وفهد كعيكياتي (المعروف بشخصية أبو فهمي)، وكان موظفاً في مديرية الكهرباء. سليم كلاس هجر العمل الحكومي من أجل الفن، أما فهد كعيكياتي فقد بقي في عمله ووصل إلى منصب أمين عام مصلحة الكهرباء بدمشق، بعد تحويلها إلى وزارة.
أما غيرهم فلم تكن مهنهم على نفس السوية المادية والاجتماعية، مثل الفنان عدنان بركات، الذي اشتهر في أعمال البيئة الشامية في الثمانينيات والتسعينيات وكان أحد نجوم المسلسل الشهير "أيام شامية"، وكانت بداياته "بلّاطاً" يحلم بالشهرة والمجد.
رفيق سبيعي بشخصية" أبو صياح"
أما النجم رفيق سبيعي، المعروف بشخصيته الشامية "أبو صياح"، فقد عمل في محافظة دمشق في زمن الرئيس أديب الشيشكلي مراقباً صحياً على المطاعم وعلى العاملين في رشّ المبيدات الحشرية في شوارع المدينة، قبل أن ينتقل إلى مصرف سوريا المركزي منتصف الخمسينيات.
وهناك الفنان والقاص الشعبي حكمت محسن، صاحب شخصية "أبو رشدي"، الذي كان يعمل "منجد كراسي" في سوق الأروام (سوق الحميدية) وظلّ في هذه المهنة حتى بعد أن ذاع صيته في الأوساط الفنية في أربعينيات القرن العشرين.
وأخيراً كان أحد الرواد أحمد مسالخي نجاراً موهوباً وقد دعي إلى التلفزيون السوري لتصميم الديكورات الخشبية في الأستوديو مطلع الستينيات. كان حلمه أن يكون ممثلاً وقد عرض على إدارة التلفزيون تقديم الديكور مجاناً مقابل إعطائه فرصةً للظهور على الشاشة. وبالفعل، أصبح أحمد مسالخي ممثلاً محترفاً، وقد ظهر في معظم أعمال دريد لحام، مثل مسلسل "حمام الهنا" سنة 1968، ومسلسل "وادي المسك" في مطلع الثمانينيات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...