يمثل حضور الأحلام في الأدب الغربي والأدب العربي واقعة فنية مستمرة منذ القدم، فهي نمط من الإبداع ظهر في كل الأجناس الكلاسيكية منها والحديثة. ولئن غابت بعض الأشكال السردية القديمة التي ظهر فيها هذا النوع من الكتابة كالمنامات، فإن الأحلام ظلت تطل عبر أجناس جديدة ومستحدثة. عربياً ختم نجيب محفوظ حياته الأدبية بكتابة أحلامه في"أحلام فترة النقاهة" والتي تواصل نشرها حتى بعد وفاته وقد وصلت إلى أكثر خمسمائة حلم أملاها على سكرتيره بعد أن عجز عن الكتابة بسبب الشيخوخة ومحاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها.
وذهب الروائي والشاعر السوري الكردي سليم بركات بالأحلام إلى منطقة غرائبية في روايته "كهوف هايدراهوداهوس" عندما بنى روايته على أحلام الجياد، أما عالمياً فلا يمكن أن نحصي كمّ الروايات والقصص التي شكّلت عوالمها من عوالم الأحلام ومناخاتها. غير أن رصد الأحلام في مدونة اليوميات كان أمراً صعباً عربياً في ظل فقر المكتبة العربية من هذا النوع من الكتابة. ولأن كانت يوميات الأحلام نوعاً قائم الذات ضمن فن اليوميات في العالم، فإن حضورها في المدونة العربية كان نادراً، غير أن الندرة تعني وجود الشيء أيضاً لا انتفاءه.
الأحلام واليوميات وتغير فكرة الواقعة
يصنف منظرو فن اليوميات يومياتِ الحلم ضمن الأنواع الرئيسة لهذا الفن، إلى جانب يوميات السفر ويوميات المرض ويوميات الحرب ويوميات العمل ويوميات الحداد ويوميات السجن ويوميات المنفى.
ويعتبر فيليب لوجون وكاثرين بوغاريت أن لكل كاتب أسلوباً في رواية الحلم، شاعري، ساخر أو مدهش؛ فهناك من الناس من يتذكر أحلامه بالتفصيل بينما ينساها الآخرون بمجرد أن يستفيقوا، ومن خلال درجات الاستحضار هذه تتشكل طبيعة حضور الأحلام في يومياتهم.
يصنف منظرو فن اليوميات يومياتِ الحلمِ ضمن الأنواع الرئيسة لهذا الفن، إلى جانب يوميات السفر ويوميات المرض ويوميات الحرب ويوميات العمل ويوميات الحداد ويوميات السجن ويوميات المنفى
فبعضها شذري وبرقي، كما كتب نجيب محفوظ، وبعضها قصصي كما كتب فرانتز كافكا. ويمكن للإنسان أن يسجّل أحلامه عبر الكتابة أو التسجيل الصوتي أو الرسم وقد تشمل يوميات الحلم أحلام اليقظة.
ارتبط تحليل الأحلام بعلم النفس التحليلي فما زال يشجّع النفسانيون مرضاهم على تسجيل أحلامهم ومحاولة تذكّرها لكي يستطيعوا تشخيص حالاتهم عبر الكشف عن حركة العقل الباطن، والتي لا تظهر إلا في الحلم، بعد أن أقصاها الوعي. فـ"الحلم يتابع حياة اليقظة؛ فأحلامنا تتصل دائماً بالأفكار التي كانت تشغل الشعور قبيل وقوعها"، كما يقول هافنر، ورواه عنه سيغموند فرويد في كتابه "تفسير الأحلام"
فنحن لا نتخلص في واقعنا، بل نعيد إنتاجه، حتى تلك الأفعال والأقوال التي أردنا القيام بها أو قولها ولم نفعل، وهنا ينسجم التحليل النفسي مع اليوميات في معناها المعاصر في توسيع مفهوم الواقعة؛ فالواقعة ليست بالضرورة حدثاً واقعياً محسوساً، بل يمكن للواقعة أن تكون حالة ذهنية أو حلماً أو كابوساً أو فونطازمات ظلت في اللاوعي.
الذات البشرية معقدة بما يكفي لكي تحجب عن نفسها هويتها عبر تراكم أدوات الرقابة وتنوع مؤسساتها الأخلاقية والقانونية والعقلانية والدينية، والتي تمارس قمعها لسيولة السلوك البشري لكي يتكيف مع واقع النظم والقوانين التي يعيش فيها الفرد.
كما تشتغل محاولة القبض على الأحلام كتمرين للذاكرة على أن تظل متقدة لاقتناص التجارب وحمايتها من النسيان. واليوميات الحلمية بهذا المعنى تمثل شكلاً من العلاج الوقائي والتمرين لتقوية الذاكرة زيادة على محاولتها فهم ذاتها عبر المسكوت عنه وعياً.
الإشكال الفني الذي تواجهه الأحلام مع فن اليوميات هو الاعتقاد في أن اليوميات تنتمي إلى ما يسميه جيرار جينيت بالحكي الحقيقي، بينما تنتمي الأحلام للحكي التخييلي باعتبار أن ما يرد فيها غير حقيقي ولم يحدث، وهو المشكل الذي حله علم النفس التحليلي الذي اعتبر أن الأحلام مشكّل أساسي لحقيقة الكائن البشري مثلها مثل الهفوات في الأفعال والأقوال.
ويجدر بنا في البداية أن نثق بالمكتوب استناداً إلى الميثاق السيرذاتي الخارجي الذي يشير إلى الأثر باعتباره يوميات، والميثاق السيرذاتي الداخلي لنصوص الحلم بصفتها أحلام المؤلف، وبذلك لا يدخل محلّل الأحلام في اليوميات والكتابة عن الذات بشكل عام في معضلة التصديق والتكذيب، لأنها بلا أي جدوى، فلا أحد يمكن أن يحسم في صدقية سير الآخرين المتعلقة بالوقائع الخارجية، فكيف سيحسم في صدقية أحلامهم.
أحلام كافكا في يومياته
حضر الحلم عند كافكا في يومياته أكثر من مرة وبدلالات مختلفة، ولعل تلك الأحلام والكوابيس كانت نواة وأجنة نصوصه القصصية والروائية ومشكّلاً رئيساً من مشكّلات توجهه الأدبي من ناحية وعتباتٍ توقّف عندها النقادُ لتحليل شخصية كافكا وحياته النفسية.
نحن لا نتخلص في واقعنا، بل نعيد إنتاجه، حتى تلك الأفعال والأقوال التي أردنا القيام بها أو قولها ولم نفعل. وهنا ينسجم التحليل النفسي مع اليوميات في معناها المعاصر.
يسجل مثلاً يوم 19 نيسان/أبريل 1916:
"قبل مدة قصيرة رأيت هذا الحلم:
نسكن في غرابن قرب مقهى الكونتينتال، ثمة فوج تحوّل من هيرن غاسي صوب محطة السكة الحديدية. أبي: هذا مشهد ينبغي على المرء أن يتأمله، ما وسعه ذلك. ثم قفز إلى حافة النافذة، وكان يرتدي روب فيليكس البني المخصص للنوم، وكانت الشخصية في الحلم مزيجاً من الاثنين. أمسكت به عن طريقة الأنشوطتين الصغيرتين اللتين كانتا في الروب، لكنه مدّ بحيث جسده أقصى ما يستطيع إلى الخارج؛ فبذلت ما في وسعي لأمسك به. وصرت أفكر أنه سيكون من الأفضل لو أنني أستطيع تثبيت قدمي بشيء صلب، كي لا يتمكن والدي من سحبي. لكنه كان يتوجب عليّ لتحقيق ذلك أن أترك والدي قليلاً، وهو أمر مستحيل. مثل هذا التوتر لا يستطيع النوم أن يتحمله، ولا سيما نومي، فاستيقظت".
يعكس هذا الحلم العلاقة المتوترة بين كافكا ووالده، والتي كانت المسألة المركزية التي تدور حولها نصوصه وأسلوبه وتطور شخصيته. وتنعكس تلك العلاقة كما تبدو في هذا الحلم في رسالته الشهيرة" رسالة إلى أبي". وقد كانت هذه العلاقة قائمة على الخوف الذي يشعر به كافكا منذ الطفولة من والده العنيف والقاسي. ذلك الخوف الذي لخصه في أول فقرة من رسالته: "أبي الحبيب... لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدرِ بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدّانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي".
أحلام حسونة المصباحي
ترى بياتريس ديدياي أننا لا يمكننا أن ننجح في حصر كل "تحولات اليوميات، لأنه جنس عنقاء بامتياز. فيمكننا في منتصف الطريق، بين يوميات المرض، ويوميات الحياة، ويوميات الأثر الفني أن نسمح بمكان ليوميات الأحلام".
كذلك فعل الكاتب التونسي حسونة المصباحي، فلمّ يوميات برمتها لأحلامه، كما فعل غراهام غرين (1904-19919) في يومياته "عالم يخصّني" التي أنهى بها حياته الأدبية، أو فلاديمير نابوكوف الذي ترك وراءه حزمة من القصاصات التي يسجل فيها يوميات أحلامه التي نشرت إثر وفاته تحت عنوان "أحلام الأرِق"، إنما تخللت الأحلام تجربة حسونة المصباحي في كتابة اليوميات فظهر بعضها في "يوميات ميونيخ" وظهر بعضها الآخر في" يوميات الكورونا"، وبذلك لم تشكل الأحلام مشروعاً فنياً بقدر ما كانت مشكّلاً من مشكلات المشروع الفني العام لحسونة المصباحي وهو اليوميات، والذي أنجز فيها ثلاثة أجزاء: "يوميات ميونيخ"، "يوميات الحمامات"، و"يوميات الكورونا".
سجل المصباحي في "يوميات ميونيخ" حوالى تسعة أحلام لم تكن أحلامه فيها سوى كوابيس؛ كوابيس التوقف عن السفر، وكوابيس التوقّف عن الكتابة، وكوابيس فقدان الحريّة، وكوابيس الخوف من الاغتيال، وكوابيس اليتم والموت والحرمان الجنسي. وهي التيمات التي يتحرك فيها أدب حسونة المصباحي بشكل عام بين الرواية والتخييل الذاتي وأدب الرحلة المعاصرة والقصة القصيرة.
كانت جل أحلامه التي سجّلها متعلّقة بالخوف والرعب من القادم من المجهول، ومصدرها في الغالب الأحداث السياسية الجارية في العراق وفلسطين والعالم بعد 11أيلول/سبتمبر، وتنامي التيارات الدينية المتطرفة، أو الوضع النفسي المتدهور جراء المنفى الاختياري، والتقدّم في السن، والهلع من الموت.
أحلام يوميات الكورونا
لم تشذ "يوميات الكورونا" عن بقية اليوميات، فقد تواصلت أحلام حسونة المصباحي وظلت متعلقة بالسفر والعنف والكتابة، لكنه أعطى لنفسه فرصة في هذه اليوميات للتوقف عند مفهوم الحلم ورواية قصص عنه واستحضار منظريه من المحللين النفسانيين.
فيروي في الحلم الأول فقدان حقيبة السفر، ويخصص الحلم الثاني للكتابة وفقدان الذاكرة وارتباكه في محاضرة أمام الجمهور وتيهه في لندن ليروي الحلم الثالث قصةَ تعرضه للطعن من شاب صيني في السوق، كما يتوقف الكاتب صفحات عند تفسير الأحلام وحديث عن أحلام أمّه وكيف كانت حريصة على تفسيرها قبل أن يتوغل في تاريخ الأحلام مع البشر عبر الحلم الأول لآدم وأحلام فرعون وقصته مع موسى وأحلام كسرى وأحلام السورياليين وأحلام عالم النفس يونغ بتونس.
بنية اللامعقول في أحلام حسونة المصباحي
يقوم الحلم عند حسونة المصباحي على المفارقة التي ينتجها التضارب بين الفضاء وعناصره، فالفضاء عنده غير متوقع للحالم نفسه، حيث يتفاجأ به في الحلم؛ فهو يخرج من بيته في مدينة الحمامات، ليجد نفسه في ميونيخ، وفي شارع من شوارع ميونيخ يجد صديقه المغربي الذي لم يغادر قط المغرب، وفي الآخر يجد نفسه في لندن التي لا يعرف كيف يتحرك بها.
وفي فضاءات الحلم يتخلى عنه الجميع فالأصدقاء لا يدلونه، ويتركونه لمصيره.
الحلم والتأويل
الحلم كما ينقل لنا سيغموند فرويد عن فيجانيت "يعود إلى مألوف الحياة بدل أن يخلّصنا منها"، وينقل عن يسّن قوله: "محتوى الحلم يحدده دائماً، تحديداً يزيد أن ينقص، شخصية الحالم الفردية وسنه وطبقته ومستوى تعلمه وأسلوبه المألوف في الحياة وما اشتملته حياته السابقة جميعها من التجارب والأحداث"، وهذا الذي يفسر طبيعة الأحلام عند حسونة المصباحي، والتي تتقاطع في مجملها مع شخصيته في اليقظة، فهي في الغالب رجع صدى لمخاوفه وآرائه ومواقفه من العالم والوجود والسياسة الداخلية والدولية ومن الذات. وهو ما يعني أن محتوى الحلم ملتحم بالتجربة الشخصية للحالم؛ فالحلم مهما بدا غريباً عن تحليلات وتخمينات الحالم، فإن له علاقة بحياته ويمكن أن يكتشف تلك العلاقة في أوقات لاحقة عندما تظهر علامات جديدة متعلّقة بالحلم الغريب تكشف له طبيعة العلاقة والرابط الخفي الذي لم يدركه اثر الحلم مباشرة.
الأحلام لا يمكن أن تكون بمعزل عن أيديولوجية الكاتب، ولا عن ثقافته وحياته الخاصة؛ هي ملتحمة بهواجسه وأفكاره وإن أبدى منها استغراباً.
يكتب حسونة المصباحي في أحد أحلامه هروبه من مجرمين صغار بالسوق فيقول: "سرت في مسرب أحمر اللون أفضى بي إلى وهد مظلم رأيت في داخله امرأة ضخمة االجثة ترتدي جلابية سوداء، ولها وجه مفلطح ومتورم مثل وجه نائبة في برلماننا الجديد. فلما أحست بوجودي، صاحت: 'ها هو ذا'... استدرت وركضت هارباً وإذا بصوت يرتفع ورائي: 'انتظر... انتظر...انتظر'. التفتُّ، فإذا بي أرى طفلاً في حوالي العاشرة من عمره أسمر البشرة، بشعر أشعث، وفي ملامحه الشر... واصلت الركض بينما كان الطفل يصيح بي: 'انتظر....انتظر... والدتي تريد أن تكشف لك سراً عجيباً'. لم أعبأ بصياحه وواصلت الركض لكنه كان أسرع مني إذ أدركني حتى بات على بعد خطوات مني... شعرت بالخوف إذ أن وجه الطفل كان يوحي بالجريمة والعنف والشر... وفجأة وجدت نفسي أمام فتى من حوالي الخامسة عشر من عمره أمرد الوجه، بملامح صينية، وفي يده خنجر...أطلق الطفل الذي خلفي ضحكة ساخرة، وصاح: 'اقتله... اقتله...'. ومن دون أن يتفوّه بكلمة، هجم علي الفتى الصيني شاهراً خنجره...".
الشاب الصيني الذي طعن المؤلف يستدعي رعبه الدائم من الشعبوية التي سقطت فيها البلاد منذ أحداث كانون الأول/ديسمبر 2010 واندلاع ما سمي بالثورة التونسية، والتي دفعت الكاتب إلى الاختباء في منزله، متجنباً الشارعَ، منعزلاً عن واقع صار العنف الشعبي والرغبة في الانتقام والفوضى سمتَه الأساسية، وقد نقل ذلك في روايته السيرذاتية "أشواك وياسمين".
وتبدو الإشارة واضحة عبر اختياره سن المعتدي المراهق لشباب اليسار الشعبوي الثوري الذي أوصل قيس سعيّد إلى السلطة، وعبر تنظيرات صديقه رضا لينين، ولكنه بالإشارة إلى أم الطفل الذي بدأ المطاردة وصِلتها بالبرلمان وطريقة لباسه يشي برؤية تحليلية دقيقة لحسونة المصباحي أن هذا الشباب الجديد الذي التف حول الرئيس قيس سعيّد ليس في الحقيقة إلا وليد الإسلاميين أنفسهم، فهم يتكاملون لإنتاج جريمة واحدة، وهنا يذكر بطريقة غير مباشرة أن الرئيس قيس سعيًد الذي استحوذ على مجمل يوميات الكورونا ليس سوى صنيعة الإسلاميين الذين انقلب عليهم، فهم الذين أوصلوه للحكم كما أوصلوا الشاب الصيني إليه ليفتك به.
بدأ هذا الحلم بخروج المؤلف من بيته إلى السوق بحثاً عن البيض البيولوجي، يقول: "خرجت من بيتي الذي قد يكون في مدينة الحمامات لأشتري بيضاً بيولوجياً. لكن ما أن سرت بعض الخطوات حتى انتبهت أنني في 'فراونشتراسه' الذي اعتدت أن أقطعه كلما قمت بزيارة صديقتي أولريكا في ميونيخ. لكنه كان مخرباً، وموحشاً، وخالياً من المارة. على الرصيف الذي به حفر كثيرة، كان هناك عجوز يرتدي قشابيه بنية، وأمامه قفة بيض بيولوجي. فلما هممت أن أفتني ما أحتاجه من البيض قال لي بصوت جاف: "هذا البيض ليس للبيع... ابحث لك عن محل آخر" .
صحيح أن "كل شخص لديه أسلوب أحلام وطريقة في روايتها، شاعرية، مضحكة أو ببساطة مفاجئة، وما يهرب منا يعيدنا إلى أسرارنا"، لذلك لا تشبه يوميات الأحلام بعضها أسلوباً
هذا المقطع من الحلم يعكس رغبة جامحة من الكاتب في البحث عن وجه البلاد الحميم والأصيل عبر استعادة عاداته اليومية، فقد فقدت البلاد ملامحها منذ رجوع الكاتب من ألمانيا وهو ما كتبه في "يوميات مينوخ"، عندما وجد نفسه غريباً، فاضطر للانعزال عن المشهد الثقافي، غير أن الاغتراب هنا وبعد سنوات صار متوحشاً، فالفضاء برمته صار غريباً.
البحث عن الأصالة في هذا الحلم واقع رمزاً عبر البحث عن البيض البيولوجي، ورفض البائع أن يبيعه إشارة إلى الفساد الذي طال كل الطبقات حتى بائعي البيض، والذي بالضرورة سيحملنا إلى ظاهرة العنف الشعبي والتطاحن الطبقي والجريمة الذي ظهرت في بقية الحلم؛ ففساد القيم قد ضرب الشيوخ عبر البائع العجوز، وطبيعي أن يفسد بقية البيض: الأطفال والشباب كما في الحلم.
الأحلام الكاملة والذاكرة المتقدة والبناء القصصي
صحيح أن "كل شخص لديه أسلوب أحلام وطريقة في روايتها، شاعرية، مضحكة أو ببساطة مفاجئة، وما يهرب منا يعيدنا إلى أسرارنا"، لذلك لا تشبه يوميات الأحلام بعضها أسلوباً.
ويتحدث عملاء النفس والتحليل النفسي عن ظاهرة نسيان الأحلام عند البشر، حيث تتبخر الأحلام عند معظم البشر إثر الاستيقاظ مباشرة، إن كان تبخراً وتلاشياً كلياً أو جزئياً، غير أن كل الأحلام التي رواها حسونة المصباحي في كتبه كانت أحلاماً شبه كاملة، وهي أشبه بالقصص القصيرة بنهايات غير متوقعة وخاضعة لأسلوب سردي كرونولوجي واضح تتوالد فيه الأحداث من بعضها دون أن يتخللها أي بياضات أو نسيان ،وينهيها الكاتب بعبارات متشابهة معلناً لحظة استيقاظه، فينهي حلم البيض البيولوجي مثلاً بـ"وفي هذه اللحظة استيقظت... وكانت الساعة تشير إلى السادسة صباحاً".
ما يمكن أن نخلص إليه من تحليل وتأويل أحلام حسونة المصباحي هو أن الأحلام لا يمكن أن تكون بمعزل عن أيديولوجية الكاتب ولا عن ثقافته وحياته الخاصة؛ إنها ملتحمة بهواجسه وأفكاره وإن أبدى منها استغراباً. جذور الأحلام متوغلة في العقل الباطن لشخصية الحالم، غائرة في لا وعيه الذي تترسب فيه كل حقائق الشخصية ما ظهر منها وما خفي. والأحلام فرصة للفرد ليكتشف قسماً من ذاته أو تأكيده عبر لعبة المرآة التي تتجلى فيها عبر المجازات والممكن والفونطازم والكابوس والحلم. وهي هنا تتقاطع مع أهداف كتابة اليوميات نفسها التي ليست سوى بحث محموم يومي عن ملامح الذات الكاتبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 7 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت