شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
يوميات الروائي... لماذا لا يستطيع الخروج من عباءة الأدب؟

يوميات الروائي... لماذا لا يستطيع الخروج من عباءة الأدب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 10 أبريل 202203:45 م

حسم النقد الغربي الحديث موضوع انتساب اليوميات إلى الأدب، منذ سبعينيات القرن العشرين، وأقرّ العديد من نقاد أدب الذات ومنظري الكتابة الأوتوبيوغرافية بأن اليوميات جنس أدبي، وإن لم يظفر بحد مانع جامع ولا شكل خاص، فكل تجربة فيه مغامرة في الشكل ذاته.

وظل بعض النقاد ينظرون إلى هذه الكتابة التي لا تشترط انتساب ممارسيها للأدب بشيء من الريبة، ويؤكد الغالبية على ميزة سمة التشظي لليوميات، ما يجعلها عاجزة على تشكيل وحدة سردية أو قصّ حكاية، وأي تمظهر للحكاية فيه يتهم الأثر بالروائية ويدفع خارج نوعه: اليوميات.

يقول ميشال بروود في مقاله "هل اليوميات الحميمة قص؟": "تعتبر اليوميات عادةً نصاً بدون بنية، تتكون من ملاحظات غير ذات صلة، موضوعة واحدة تلو الأخرى، والتي لا يسمح هذا الترتيب الزمني ببساطة بقراءتها مثل القصة".

النزوع نحو الرواية

يقول غيلان بطل رواية "السد" للكاتب التونسي محمود المسعدي "كل شيء قصة"، فنحن مع كل فعل نصنع قصة إذا نظرنا إلى ذلك الفعل بملكات سردية، فكل فعل له بداية ومتن وخاتمة أو نهاية. ووفقاً لذلك، الحياة كلها سلسلة من القصص المترابطة والمنفصلة، بعضها مركب وبعضها بسيط، وبإمكان القصص اليومية البسيطة أن تشكل قصة معقدة، إذا ما نظرنا لها بعقل سردي منتج، يقطع مع عقل التلقي الاستهلاكي المقولب داخل مفاهيم وحدود  وطرق مسطورة ونهائية لمفهوم الحكاية.

فإذا كانت اليوميات تروي أياماً من حياة شخص واقعي على لسانه يوماً بيوم، طالت تلك الأيام أو قصرت، فإن التعبير عن الذات لا يكون إلا عبر السرد، وفق بول ريكور. وإذا كان هذا التعبير عن الذات شرطاً للوجود وكوجيطو لإدراك الذات، فـ "نحن بحاجة للقصص حاجتنا للماء والهواء"، كما يقول بول أوستر.

ترتبط كتابة اليوميات عادة ارتباطاً عضوياً، إن كان بدوافع كتابتها أو بطرق وضعها أو تقطيعها، إما بالمكان أو بالزمن أو بالحالة، وفي كل الحالات هي تروي قصة: قصة الذات في مكان ما، أو  قصة الذات في زمان ما، أو قصة الذات في حال ما.

فاليوميات التي كتبت في السجون تروي قصص الاعتقال، واليوميات التي تكتب في المنافي تروي قصص النفي، واليوميات المكتوبة عبر السنين هي يوميات تروي قصص تلك السنين.

حسم النقد الغربي الحديث موضوع انتساب اليوميات إلى الأدب، منذ سبعينيات القرن العشرين، وأقرّ العديد من نقاد أدب الذات ومنظري الكتابة الأوتوبيوغرافية بأن اليوميات جنس أدبي

كما تروي اليوميات قصص الجنون والاكتئاب والحزن والحداد والمرض، فلماذا لا نعرف القصة إلا باعتبارها تطوراً كرونولوجياً للأحداث وفق حبكة معلنة ومفهوم ساذج للصراع؟ أليس في صراع الذات الكاتبة مع الذات المكتوبة قصة وحبكة، وما التشظي إلا جزء من حبكة غير مرئية، تستدعي متلقياً أذكى لينتجها، كما يحاول كاتب اليوميات إنتاج ذاته داخل تلك الكتابة المتشظية؟

الدماغ الروائي

إن الكاتب، وخاصة الروائي، لا يمكنه التخلص من دماغه الروائي ونظرته الروائية للعالم أثناء كتابة أي شيء، مقال أو يوميات أو مذكرات أو سيرة، وهو في الغالب بعد تراكم التجربة يتحول بطبعه إلى كائن يعيش على نحو روائي، فكيف له أن يتخلص من هذه الهوية التي صارت في مجرى الدم أثناء ممارسته لكتابة اليوميات؟

فالروائي البلجيكي جورج سيمنون مثلاً، والذي كتب ما يقارب 500 رواية وعشرات الآلاف من القصص، قبل أن ينطوي على نفسه بعد انتحار ابنته ماري جو، وينعزل عن الناس ليكتب يومياته التي توجّه بها إلى روح ابنته في شكل رسائل، لم يكن يكتب تلك اليوميات بقلم آخر غير قلم الروائي، ويمكننا أن نعثر على تلك الآثار الخاصة للروائي بسهولة في يومياته، وينسحب الأمر على يوميات ديستوفسكي، ويوميات توليستوي من قبله.

 صحيح إن كاتب اليوميات، كما يقول ميشال بروود، يكتب "دون معرفة بقية وجوده ومن ثم نصه"، لكن لا يمكن أن نغفل أن كاتب اليوميات يتراجع ليقرأ يومياته السابقة أحياناً قبل أن يتقدم، وهذه الحركة هي التي تستدرج الوعي الروائي عنده وتورّطه في النظرة الروائية للعالم، فإدراكه للماضي المكتوب يؤثر في نظرته لمستقبل الأيام.

وكانت بياتريس ديدياي قد تطرقت إلى هذا التوقف لقراءة المدوّن ضمن سياق حديثها عن انشطار الكاتب، فتقول في فصل "ابتكار الذات" من كتابها "اليوميات الحميمة": "يمكن للانشطار أن يكون أكثر تعقيداً عندما يسرد كاتب اليوميات أنه يعيد مثلاً قراءة صفحات من يومياته، وهي وضعية متكررة، ومع ذلك يتصادم فيه أنا الكاتب وأنا القارئ وأنا كاتب اليوميات، وأخيراً الأنا موضوعاً في هذه اليوميات الماضية".

إن النزوع نحو الروائية في كتابة اليوميات لا يخرجها من جنسها كيوميات، لكنه يكسبها بعداً فنياً آخر

 إن اليوميات لا يمكن أن تنكر طابعها الانتقائي حتى وكاتبها يمارس الكتابة يوماً بيوم، فهو ينتقي من يومه أو نومه حالة معينة أو مشهداً أو حدثاً ما في الغالب ليسجله. إن عملية الإسقاط هنا من خصائص الكتابة الروائية. أن يسقط، عن وعي أو دون وعي، ما لا يخدم التعبير عن حاله، أي عن قصته، أي عن روايته الشخصية.

قد تبدأ اليوميات عفوية، لكنها كلما تقدّمت تورّط الكاتب في الحبك بشكل لا واع، لأن ما يكتبه اليوم فيه بقايا طعم وأثر ما حدث البارحة وما قبله، حتى لو كان أثراً نفسياً، وحتى لو كان ما يدوّن اليوم لا علاقة له بما سجّل في الأيام الماضية.

بعد عدد من اليوميات، عادة ما يعثر كاتب اليوميات على عنصر أو عناصر يثبت عليها عقله الباطن، وتأخذ في التردد  كرأس الإبرة على قطعة القماش، تظهر كل مرة لتشد العناصر المتشظية. فلا يمكن إنكار الخيط الرابط بين يوميات رولان بارت مثلاً، وهو حالة الحداد على موت الأم، وهوما دفعه إلى كتابتها. رغم أن رولان بات عُدّ أخطر المعارضين لكتابة اليوميات عندما وصفها بـ "الإسهال" و"المخاط"، مشيراً إلى سهولة الانسكاب الذي يتعارض مع معنى الكتابة عنده.

ومن ثمّ، فاليوميات تنزع دائماً لتكون قصصية أو روائية، خاصة في يوميات الأدباء، وهو ما تقرّه بياتريس ديدياي عندما تقول "إن يوميات الروائيين تختلف كل الاختلاف عنها لدى كتاب اليوميات الذين لم يكتبوا سواها. غرين ( Green) مثله مثل ستاندال ( Stendhal) يبدو لنا كليهما له موهبة تنظيم عناصر من الحياة في مشاهد روائية".

موهبة التلاعب بالأزمنة

يمتلك الروائي كاتب اليوميات موهبة خاصة في التلاعب بالأزمنة، تمكنه، كما تقول الناقدة، من الرجوع إلى الماضي والقدرة على العودة لحاضر التدوين، وهذا يقودنا نحو نوع من اليوميات التي نسميها بـ "اليوميات الروائية"، تقفية على "السيرة الذاتية الروائية"، وهي اليوميات التي تنزع في كتابتها نحو الروائية، والتي تحدثها أحياناً يقظة كاتب اليوميات عندما يوجه تفكيره في لحظة ما نحو مسار معين، فيشرع في خلق الواقع وإنتاجه عبر المعيش وإعادة إنتاجه عبر التدوين.

بدأ اليوم يتشكل هذا التيّار في كتابة هذا النوع من اليوميات، عندما تخلص هذا النوع من إكراهاته القديمة وارتهانه للسرية، وأصبح الكتاب يقدمون عليه بغرض النشر ضمن  مشاريع سردية موازية لمشاريعهم الأدبية الأخرى. وتعتبر الفرنسية إميلي دوتركهايم في يومياتها "الأمير صاحب الكأس الصغيرة" مثالاً دقيقاً لليوميات الروائية، حيث خصصت الكاتبة مؤلفها لتجربتها مع لاجئ أفغاني يدعى رزا، والذي أقام معها مدة إثر وصوله إلى فرنسا هارباً من الحرب المشتعلة في أفغانستان، حيث تعرفت عليها عبر دمعية "سامو" الاجتماعية، التي تعنى بمساعدة المشردين وإغاثة اللاجئين. وتبدأ اليوميات من لحظة التفكير في استضافة لاجئ حتى قرار مغادرته لبيتها، مروراً بكل المواقف والحالات المعقدة التي عاشتها معه ومع ابنيها، أثناء تلك الفترة من أزمة التواصل، وقصة إجبارية تعلم اللغة، إلى تغيير الاسم والدين، ولحظات الشهوات واللعب والحب والكره والندم.

إن هذا النوع من اليوميات الذي يتطابق شكله مع تعريف اليوميات الذي وضعه فيليب لوجون "سلسلة آثار مؤرخة"، يمكن قراءته على أنه رواية، خاصة أن تلك اليوميات كتبت على نحو شبه دائري، عندما تنهي الكاتبة كتابها بيومية بعد أربعة أشهر من مغادرة اللاجيء لبيتها، يعود فيها لزيارتها، ويجلسان مع الطفلين، يقلبان ألبوم صور أعدته العائلة هدية له، تذكّره بكل قصته معهم منذ الأيام الأولى.
إن هذا النزوع نحو الروائية في كتابة اليوميات لم يخرجها من جنسها كيوميات، لكنه أكسبها بعداً فنياً آخر. وإذا ما التفتنا إلى يوميات آن فرانك، أشهر اليوميات في التاريخ، والتي صارت نموذجاً لكتابة اليوميات، وقلدتها كاتبات كثيرات من العالم مررن بمحن مشابهة في الحروب، اكتشفنا أن هذا الفن ترعرع أصلاً في التخييل وفي اللعب، وأنه مدين في نسخته الحديثة إلى شخصية خيالية اسمها "كيتي"، تلك الصديقة الافتراضية التي ابتكرتها آن فرانك لتكتب إليها كل يوم من مخبئها، حتى أننا يمكن أن نسمي اليوميات بـ "ميراث آن فرانك"، تقفية على عبارة الناقد التشيكي ميلان كونديرا الشهيرة، وهو يتحدث عن "فن الرواية"، "ميراث سيرفنتس".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image